من الأحاديث التي طار بها المعترضون على الإسلام فرحًا ولم يَملُّوا من تكرارها: حديثُ أبي ذر رضي الله عنه ” أنَّ النبي قال يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه الشمس تجري حتى تنتهي تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: إرتفعي، إرجعي من حيثُ جِئت، فتُصبح طالعةً من مطلعها، ثُمَّ تجري حتى تنتهي إلى مستقرِّها ذاك تحت العرش، فتخرُّ ساجدةً، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناسُ منها شيئًا، حتى تنتهي إلى مستقرِّها ذاك تحت العرش، فيقال لها: إرتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها “[1].
ولِيتَّضح الاعتراض؛ فإنا سنقوم بتفكيكه إلى أمور:
- الأمر الأول: أنَّ الحديث ذكر أنَّ الشمس تغيب وتغرب عن الأرض، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فالشمس ليست هي التي تتحرك وتغيب، وإنما الذي يتحرك الأرض ذاتها.
- الأمر الثاني: أن الحديث ذكر أن الشمس تسجد تحت العرش وتستأذن الله في الرجوع، وهذا يستلزم توقف الشمس عن الحركة، وهذا مخالف للعلم الحديث.
- الأمر الثالث: أن الحديث ذكر أن الشمس تذهب حتى تنتهي تحت العرش وتسجد هناك، والحقيقة أن الشمس لا تغادر مسارها الذي هي عليه، فمتى يكون ذهابها وإيابها؟!!
- الأمر الرابع: أن الحديث حدَّد وقت سجود الشمس بوقت الغروب، ومن المعلوم أن الشمس لا تزال غاربة شارقة في كل لحظة وحين، ويلزم عن ذلك: إمَّا أن تكون الشمس ساجدةً في كل وقت وغير ساجدة في كل وقت، وهذا مناقضٌ للعقل، وإمَّا أن الشَّمس تغيبُ عن كل الأرض في لحظة من اللحظات، وهذا مخالفٌ للعلم الضروري.
- مجمل الردِّ على الشبهة:
هذه الشُّبهة بمجموع اعتراضاتها تتضمَّن عددًا من الأخطاء الإستدلالية، والكشفُ عنها يتبيَّنُ في الجملة على النحو التالي:
- حملُ النَّص على معنى واحد حصرًا، وادِّعاء أنه مُقتضى اللفظ ولازمه، مع احتماله لمعاني متعدِّدة يصحُّ حمله عليها، كتفسير السجُود بأنه كسجود بني آدم لزومًا، وتفسير الذهاب بأنه الإنتقال الحِّسي من مكان إلى مكان لزومًا.
- عدم التفريق بين مقام الغيب الذي لا تُدرك حقيقته بالحس، فلا يعارض به، وبين ما يدرك بالحس، فتجري فيه المعارضة؛ فإن المعارضة فرع عن إدراك حقيقة الشيء وكيفيته، وأما ما لا يدرك كنهه فكيف يعارَض؟!
- الخلط بين المستحيل عادةً، والمستحيل عقلاً، فسجود الشمس-على أي تفسير- ليس فيه أيَّ مُحال عقلي، فالعقل لا يجزم بامتناعه، وإن كان يتحيَّر فيه أو يستبعده، لكنه يجوِّزه في الجملة، وغايةُ ما فيه أن يكون محالا عاديًّا، وهذا متعلق بقدرة الله، فلا يمتنع عليها، إذ ليس محالًا على الحقيقة.
مفصَّل الردِّ على الشبهة:
قبل الكشف عن الخلل وسوء الفهم في هذا، نُشير إلى أن كثيرًا من علماء الإسلام تحدَّثوا في هذا الحديث وبيَّنوا معناه، وكشفوا عن مواطن الاستشكال فيه[2]،قبل عصر العلم.
والجواب عن الاعتراضات على وجه مفصَّل:
أما الاعتراض الأول: أن الحديث ذكر أن الشمس تغيب وتغرب عن الأرض، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فالشمس ليست هي التي تتحرك وتغيب، وإنما الذي يتحرك الأرض ذاتها.
فهذا الاعتراض غير صحيح؛ لأن الحديث ليس فيه إلا ذكرُ غياب الشمس عن الأرض، وليس فيه ذكرٌ لسبب غيابها، فهي كما جاءت في آيات كثيرة إنما جاءت باعتبار نظر الناظر إليها.
وأما الاعتراض الثاني: وهو أنَّ الحديث ذكر أن الشمس تسجد تحت العرش وتستأذن الله في الرجوع، وهذا يستلزم توقف الشمس عن الحركة، وهذا مخالفٌ للعلم الحديث.
فهذا القول غير صحيح؛ لأنه مبني على مقدِّمة خاطئة، وهي أن سجود الشمس مشابهٌ لسجود الإنسان، والحقيقة أنَّ سجودها واستئذانها من الأمور الغيبية التي لا نعرف حقيقتها، فكما أننّا لا ندرك سجود الشجر والحجر والبهائم وتسبيحها، مع أنَّها أمورٌ قريبة منا وتعيش معنا، ومع ذلك فنحن لا نعرف كيف تسجد، ولا ندرك صفة تسبيحها لله، فكيف نستطيع أن ندرك سجود الشمس وهي بعيدة عنا بكثير؟! وقد نبَّه الله تعالى إلى هذه الحقيقة في قوله:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }[الإسراء:44].
فكيف يصح الإدعاء مع جهلنا بحقيقة سجودها بأنه مخالف للعلم؟ فالعلم التجريبي لا يدرِك إلا الأمور التي يمكن إخضاعها للتجربة، وهو لم يصل أبدًا إلى تجريب هذه القضية!
وكذلك لا يمكن القول بأن إثبات السجود للشمس مخالف للعقل الإنساني؛ لأن العقل لم يدركه أصلًا، فكيف يحق لنا أن نحكم عليه بأنه مناقض للعقل ونحن لم ندرك حقيقته ولا عرفنا صفته؟!! فكونه مستبعدًا في مقاييس العقل لا يعني بحال امتناعه، وفرق شاسع بين المعنيين.
وعليه؛ فقولهم بأن لازِم سجود الشمس توقفها عن الحركة كلمة لا معنى لها، إذ كيف حدَّدوا لازمًا لأمرٍ لا يعرفونه؟ وهو أمر أشار له عدد من علماء المسلمين، بل قد جاء في الحديث: ” فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا “، ففي هذا إشارة إلى أن ما يحدث من الشمس من سجودٍ وإستئذانٍ وغيره لا يدركُه الناس، ولهذا لا يستنكرون منها شيئا.
فإن قيل: لكن جاء في الحديث أنها لا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، وأنها تنتظر الإذن من الله تعالى، وهذا التركيب يقتضي أنها تتوقف عن الحركة.
قيل: ليس الأمر كذلك، فمعنى الحديث أنها لا تزال ساجدة “لا مختفية”، حتى يقال لها: اخرجي، ويأذن لها الله تعالى بالبزوغ، فالانتظار والإذن لها من الله متعلق بإنهاء سجودها وليس بحركتها، وقد سبق معنا أن مجرد السجود لا يقتضي التوقف عن الحركة إلا في السجود الذي نعلم حقيقته، وهو سجود البشر، فلا يصح أن نجزم بأن سجود الشمس يقتضي التوقف عن الحركة ونحن لا نعرف كيفيته.
وأما الاعتراض الثالث: أن الحديث ذكر أن الشمس تذهب حتى تنتهي تحت العرش وتسجد هناك، والحقيقة أن الشمس لا تغادر مسارها الذي هي عليه، فمتى يكون ذهابها وإيابها؟!!
فإنَّ الاعتراض به غير صحيح، ونجيب عليه بجوابين:
- الأول: أن ذهاب الشمس واستقرارها أمر غيبي لا نعرف حقيقته، فإذا كانت الشمس تسجد ولا نعلم صفة سجودها، فكذلك صفة ذهابها واستقرارها تحت العرش، يقول الخطابي: ” ولا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا نشاهده، وإنما هو خبر من غيب، فلا نكذب به ولا نكيفه، ولا علمنا يحيط به “[3].
وكلامه مُتعقَّلٌ جدًا إذا استحضر حجم البشر بالنسبة للشمس، والسماوات والأرض بالنسبة للعرش.. فكيف يمكن للبشر مشاهدته والإحاطة به أثناء حصوله؟
- الثاني: أن لفظ الذهاب لا يلزم منه في لغة العرب الانتقال الحسي للشمس إلى السماوات السبع حتى تلاقي العرش وتسجد تحته، وإنما يحتمل أن يكون تعبيرًا عن بلوغ الشمس مكانا محددًا تكون فيه محاذية للعرش فتسجد هناك، ويزيد من وضوح هذا الأمر أن العرش أكبر بكثير من الشمس ومن السماوات والأرض جميعًا، يقول النبي ﷺ:” ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة “[4].
يقول ابن كثير عن هذا الحديث: ” ولا يدل على أنها تصعد إلى فوق السماوات من جهتنا حتى تسجد تحت العرش، بل هي تغرب عن أعيننا، وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه “[5]، ويقول الخطابي معلقا على الحديث: ” وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش، لا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرتها “[6].
وهذا الأسلوب معـروف في لغة العرب، فإنا نقول لمن خـرج للصلاة: إنه ذهـب ليقابل ربه، وليس معنى ذلك أنه انتـقل إلى السماء ليقابل الله هناك، ومن ذلك: قول الله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين}[الصافات:99].
وأما الاعتراض الرابع: بأنَّ الحديث حدد وقت سجود الشمس بوقت الغروب،ومن المعلوم أن الشمس لا تزال غاربة شارقة في كل لحظة وحين، ويلزم عن ذلك: إما أن تكون الشمس ساجدة في كل وقت وغير ساجدة في كل وقت، وهذا مناقض للعقل، وإما أن الشمس تغيب عن كل الأرض في لحظة من اللحظات، وهذا مخالف للعلم الضروري.
فإنه اعتراض غير صحيح، وبيان ما فيه من غلط يمكن أن يكون بأحد جوابين:
- الأول: أن سجود الشمس من الأمور الغيبية كما ذكرنا، والأمور الغيبية لا نستطيع تحديد لوازمها، فالقول بأنه يلزم منه أن تكون ساجدة في كل الأوقات مبني على إدراكنا لصفة سجودها، ونحن لا نعلم عنه شيئًا.
- الثاني: أنه لا يبعد أن يكون للشمس نقطة محددة في مسارها تكون فيها محاذية للعرش بدقة، وتصادف هذه النقطة وقت غروبها عن أهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت الذي تحدث فيه النبي ﷺ بذلك الخبر، فأخبر النبي ﷺ بسجودها في تلك المرحلة.
فليس في الحديث أنه “كلما” كانت الشمس في حالة الغروب تقوم بالسجود تحت العرش، وليس فيه أن الشمس تُحدِث سجودًا لها كلما حدث لها الغروب النسبي، وليس فيه أن سجودها يقع بمجرد وقت غروبها مباشرة، فلم يقل النبي ﷺ:” إنها تغرب تحت العرش “، وإنما فيه إخبارٌ من النبي لمن كان يخاطبهم في ذلك المكان وذلك الزمان بأنها إذا غربت عنهم تسير حتى تحاذي العرش فتسجد وتستأذن.
وفي تعليقات عدد من شراح الحديث إشارات لا بأس بها إلى هذا المعنى، كالخطابي[7] وابن حجر[8]؛فهذه الأقوال تدل على أن أولئك العلماء لم يفهموا أن الشمس تحدث سجودًا لها كلما حدث لها الغروب النسبي، وإنما فهموا أن لها سجودًا واحدًا يقع منها حين تتحقق محاذاتها للعرش، وذلك حين تكون غاربة عن أهل الجزيرة ومن في حكمهم.
فتبين مما سبق: أن المعترضين على الإسلام لم يفهموا النصوص فهمًا صحيحًا،وبنوا تصورًا مغـلوطًا عن كيفية سجود الشمس، ورتبوا عليه اللوازم التي يرونها، وكذلك خلـطوا بين الأمور المسـتبعدة في العقل الإنساني وبين الأمور المستحيلة الوقوع.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (3199)، ومسلم في صحيحه، رقم (250).
[2] ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، الخطابي (3/1893)، البداية والنهاية، ابن كثير (1/33)، وعمدة القارئ، العيني (15/119)، وفتح الباري، ابن حجر (6/299).
[3] أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/1893)، وانظر: شرح المشكاة، الطيبي (11/3450).
[4] أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم (361)، وابن أبي شيبة في كتاب العرش، رقم (58)، والبيهقي في الأسماء والصفات، رقم (862)، وانظر: السلسلة الصحيحة، الألباني، رقم (109).
[5] البداية والنهاية (1/33)
[6] أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/1894).
[7] أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/1894).
[8] فتح الباري (8/542).