تعزيز اليقين

نَقدُ المُتونِ عِندَ المُحدِّثِينَ

الناظرُ فِي قَواعدِ النقدِ عندَ المُحدِّثينَ يقفُ أمامَ جهدٍ عظيمٍ، انبهرَ بهِ حتى أعداءُ السنةِ كالمُستَشرِقينَ وأَتباعِهِم، إلّا أنَّهم جاؤُوا بدعوَى قالوا فيها: إنَّ المحدثِين اعتنُوا بنقدِ الأسانيدِ دونَ نقدِ المتونِ[1]، فهل حقًا ما قالوا؟ هذا مَا سيُنَاقشُهُ هذَا المقالُ بعونِ اللهِ.

في بادئِ الأمرِ نلاحظُ في هذه الدعوَى إثباتَ عنايةِ المحدثينَ بنقدِ الأسانيدِ، وهذا ما نوافق علَيهِ، وإنَّما الإِشكالُ فيها يظهرُ مِن جِهتَينِ:

الأولى: أنَّ هذهِ الدَّعوَى تجعلُ نقدَ الإسنادِ كأنَّهُ مقصُودٌ لِذاتِهِ عندَ المُحدِّثينَ، وَلا علاقةَ لهُ بنقدِ المتنِ.

الثانية: أنها تقصرُ نقدَ المحَدثينَ علَى الأسانيدِ دون المتونِ، وهذا هو الإشكالُ الأكبرُ.

ولنُناقش هاتَينِ الجهتَين كما يلي:

الجهة الأولى: جعلُ نقدِ الإسنادِ كأنَّهُ مقصودٌ لذاتِهِ عندَ المُحدِّثينَ.

والحقُّ أنَّ دراسةَ الإسنادِ والجهودَ المبذولةَ فيهِ، وما أنتجتْهُ مِن علمِ الجرحِ والتعديلِ والاتصالِ والانقطاعِ وغيرِ ذلك.. إنَّما هُو فِي حقيقةِ الأمرِ مِن تمامِ العنايةِ بالمتنِ ونقدِهِ؛ إذْ الخُطوةُ الأولَى لنقدِ المتنِ النظرُ في الإسنادِ؛ لأنَّ كلَّ خبرٍ لَا قيمةَ لهُ إلَّا إذا كانَ راويةَ ثِقةٍ.[2]

وهذه القضيةُ ظاهرةٌ عند النُّقادِ لا لَبسَ فِيها؛ حتَّى أنَّهم كانُوا يتدَيَّنون للهِ بنقدِ الأسانيدِ ذبًّا عن المتونِ المنسوبةِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فهَذا يَحيى القطان فِي مرضِهِ يسألُ أبَا بكرَ بنَ خلاد: “ما تركتَ أهلَ البصرةِ يتكلمُون؟ قالَ: يذكرُونَ خيرًا إلَّا أنَّهُم يخافُونَ عليكَ من كلامِكَ في الناسِ”. فقال: “احفظْ عنِّي؛ لأنْ يكونَ ‌خصمِي في الآخرةِ رجلٌ من عرضِ الناسِ أحبَّ إليَّ مِن أنْ يكونَ ‌خصمِي في الآخرةِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، يقولُ: بلغَكَ عنِّي حديثٌ وقعَ في وهمِكَ أنَّهُ عنِّي غيرُ صحيحٍ -يعنِي فلم تُنكِر”.[3]

وجاءَ أبُو ترابٍ النخشبيُّ للإمامِ أحمدَ فجعلَ يقولُ: فلانٌ ضعيفٌ، فلانٌ ثقةٌ، فقالَ أبو تراب: يا شيخ لا تغتبْ العلماءَ، فالتفتَ إليهِ فقالَ لهُ: “ويحَك هذا نصيحةٌ، ليس هذا غيبَة “[4]، وأقوالُهُم فِي ذلكَ كثيرةٌ مشهورةٌ.

 

الجهة الثانية: دعوَى اقتصار نقدِ المحدثين على الأسانيدِ دون المتونِ

لمعرفةِ دقةِ هذه الدعوَى ننظُر في الواقعِ الحديثي:

  • إذا نظَرنا في تاريخِ النقدِ مثلًا نجد أنَّ نقدَ المتنِ سابقٌ علىَ نقدِ السندِ؛ إذ أول مَن بدأَ بالنقدِ الصحابةُ -رضي الله عنهم- وكان نقدُهم متجهًا للمتونِ؛ فيردُّونَ بعضَ ما يُروَى لعدمِ اتفاقِ المتنِ مع القرآنِ أو ما عرفوهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، مع اعترافِهم لِراويهِ بالصدقِ والأمانةِ.[5]
  • وإذا نظرنا مِن جهةٍ أخرَى إلى كتبِ علومِ الحديثِ باعتبارِها القواعد النظرية للنقدِ الحديثي؛ نجد أنَّ نقدَ المتنِ ظاهرٌ فيها:
  • ففِي تعريفِ القواعدِ النقديّةِ يُقالُ: علمٌ يبحثُ فِي السندِ والمتنِ من حيثُ القبولِ والردِّ[6]. فنلاحظُ: عدمَ قصرِ قواعدِ النقدِ علَى البحثِ في السندِ فقط.
  • وفي تعريفِ الصحيحِ والحسنِ يشترطُ سلامتهُما من الشذوذِ والعلةِ، ومعلومٌ أنّهما قد يقعانِ في السندِ أو المتنِ أو فيهِما معًا. [7]

وَبالتالي كُل مَن أرادَ أنْ يَحكمَ علَى الحديثِ بالصّحةِ أو الحُسنِ؛ لَا بُدَّ أنْ يتحققَ مِن سلامةِ المتنِ مِن الشذوذِ والعلةِ، ولَا يكتفِي بسلامةِ السندِ منهُما.

-وفِي المباحثِ التي اشتملَتْ عليها كتبُ علومِ الحديثِ نجدُ جملةً مِن المباحثِ المتعلقةِ بالسندِ والمتنِ كالمنكرِ والمدرَجِ والمقلوبِ والمضطربِ والمصحفِ.[8]

وهذه المباحثُ تُنَبّهُ مَن أرادَ الحكمَ علَى الحديثِ أنْ ينظُرَ فِي المتنِ، ويتحققَ مِن سلامتِه مِن هذه العللِ.

  • وإذا نظرنا في كتبِ العللِ التي هي ميدانُ تطبيقِ قواعدِ النقدِ؛ نجد عشراتِ الأمثلةِ المتعلقةِ بِعللِ المتونِ، ومِن ذلك مثلًا: [9]
  • إعلالُ المتنِ بإحالةِ الراوِي لمعناهُ، أو باختصارِهِ اختصارًا يخلُّ بالمعنَى.
  • إعلالُ المتنِ بتحريفِ لفظةٍ من ألفاظِه.
  • إعلالُ المتنِ بِإدراجِ كلامٍ آخرَ فيهِ ليسَ مِنهُ.
  • إعلالُ المتنِ بمخالفةِ الراوِي الذي رواهُ لمقتضاهُ.
  • إعلالُ المتنِ بمخالفةِ التاريخِ والواقعِ.
  • وإذا نظرْنا فِي أحكامِ المحدثِينَ علَى الأحاديثِ؛ وُجِدَ أنهُم قدْ يحكمُونَ علَى متونٍ بالبُطلانِ؛ لتوافرِ الأدلةِ على ذلكَ، مع أنَّ ظاهرَ السندِ الصحةَ أو الحُسنَ، ورُواتهِ لم يُتَّهمْ أحدٌ منهم بالكذبِ، بل معروفينَ بالعدالةِ والفضلِ. ولكن يرَى الناقدُ أنَّ في متنِهِ غلطًا أو أدخلَ الحديثَ على أحدِ رواتِه أو نحو ذلك[10]، ولنضرِب لذلك أمثلةً:
  • قال الحاكمُ في حديثٍ رواهُ: “هذا حديثٌ رواتُهُ أئمةٌ ثقاتٌ، وهوَ ‌شاذُّ ‌الإسنادِ ‌والمتنِ… فنظَرنا فإذا الحديثُ موضوعٌ، وقتيبة بن سعيد ثقةٌ مأمونٌ…”.[11]
  • وقال الخطيبُ في حديثٍ: ‌”لا ‌يثبُتُ ‌هذا ‌الحديثُ، ورجالُ إسنادِه كلهم ثقاتٌ، ولعلَّهُ شبه لهذا الشيخ القطان، أو أدخل عليه”.[12]
  • وقال ابن الجوزي في حديث: (لا يولدُ بعدَ المائةِ مولودٌ، للهِ فيهِ حاجةٌ): “قال أحمد بن حنبل: ليس بصحيحٍ. قلتُ: فإنْ قيل فإسناده صحيح؛ فالجواب: أن العنعنةَ تحتملُ أنْ يكونَ أحدُهم سمعَه من ضعيفٍ أو كذابٍ فأسقَطَ اسمَهُ، وذكرَ مَن رواهُ لهُ عنهُ بلفظِ “عن”، وكيف يكونُ صحيحًا وكثيرٌ من الأئمَّةِ والسادةِ ‌وُلِدُوا ‌بعدَ المِائةِ!”.[13]
  • وإذا نظرْنا إلَى الأحاديثِ التي حكمَ النقادُ عليها بالوضعِ، وأُدخِلتْ في كتبِ الموضوعاتِ نجد جملةً منها راجعَةًإلَى نقدِ المتونِ حتى أنهُم وضعُوا أماراتٍ يُعرَفُ بها الحديثُ الموضوعُ مِن خلالِ النظرِ في متنِه.[14]

وخيرُ شاهدٍ علَى هذَا، كتابُ ابن القيّم رحمه الله [المنار المنيف]؛ إذ وجّهَ إليهِ سؤالٌ يقولُ السائلُ فيهِ: ” ‌هلْ ‌يمكنُ معرفةِ الحديثِ الموضوعِ بضابطٍ مِن غيرِ أن يُنظرَ فِي سندِه؟ “، قَالَ ابنُ القيمِ في كتابهِ جوابًا عليهِ: ” فهذا سؤالٌ عظيمُ القدرِ، وإنَّما يَعلَمُ ذلك مَن تَضَلّعَ في معرفةِ السننِ الصحيحةِ، واختلطَت بلحمهِ ودمهِ وصارَ لهُ فيها ملكَةٌ وصار له اختصاصٌ شديدٌ بمعرفةِ السننِ والآثارِ، ومعرفةِ سيرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهديِه … “.[15]

ثم ذكرَ جملةً من الأماراتِ التي يُعرفُ بها الحديثُ الموضوعُ من خلالِ المتنِ، منها:

  1. أن يكونَ في المروِي لحنٌ في العبارةِ أو ركاكةٌ في المعنَى.
  2. أن يكونَ مخالفًا للعقلِ ضرورةً، أو الحسِّ أو المشاهدةِ.
  3. أن يكونَ مناقضًا لِصريحِ القرآنِ، أو السنةِ الصريحةِ.
  4. أن يكونَ خبرًا عن أمرٍ جسيمٍ تتوفرُ الدواعِي علَى نقلِه لمحضرِ جمعٍ عظيمٍ، ثم لَا يرويهِ إلا واحدٌ.
  5. أن يكونَ المرويُّ تضمَّنَ الإفراطَ بالوعيدِ الشديدِ علَى الأمرِ الصغيرِ أو الوعدِ العظيمِ على الفعلِ الحقيرِ.
  • وإذا قلَّبنا كُتبَ العللِ والسؤالاتِ، والضعفاءِ والموضوعاتِ؛ نجد كلامًا مفرقًا للنقادِ يقولونَ فيه: لا يصحُّ في هذا البابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ، ولا يصحُّ في هذا المتنِ شيءٌ، وليس في هذا ‌المتنِ شيءٌ يثبُت، ونحوَ ذلك.[16]

وكأنّهم يقولونَ للناظرِ: إذا وقفتَ على متنٍ في هذه البابِ فهو موضوعٌ دونَ الحاجةِ إلى النظرِ في إسنادهِ.

  • وإذا تأمَّلنا في كُتبِ الرجالِ والجرحِ والتعديلِ، التي هي في ظاهرِها نقدٌ للأسانيدِ؛ نجِد أنَّ مِن أهمِّ الوسائلِ التِي ساعدَت النُّقادَ في أحكامِهم علَى الرُّواةِ، النظرُ في المتونِ التي رَووها[17]، ويدلُّ على ذلك أقوالُهم التنظِيريَّةِ والتطبِيقيَّةِ. فهذا الإمامُ مسلم في كتابهِ [التمييز] يقول: “فاعلمْ أرشدَك اللهُ أنَّ الذي يدورُ بهِ معرفةُ الخطأِ في رِوايةِ ناقلِ الحديثِ؛ أن يروِي نفرٌ مِن حُفاظ ِالناسِ حديثًا عن مثلِ الزهرِي أو غيرِهِ من الأئمةِ بإسنادٍ واحدٍ ومتنٍ واحدٍ، مجتمعونَ على روايتهِ في الإسنادِ والمتنِ، لا يختلفونَ فيهِ في معنًى؛ فيرويهِ آخرُ سِواهُم عمَّن حدَّث عنهُ النفرُ الذين وصفناهُم بعينِه، فيُخالفهم في الإسنادِ أو يقلب المتنَ فيجعلهُ بخلافِ ما حكى من وصفنا مِن الحفاظِ …”.[18]

وقالَ بعدَ ذكرِهِ لحديثٍ أخطأَ أحدُ الرواةِ في متنِه، وبيّن ذلك بذكرِ الأخبارِ الصحيحةِ التي تدفعهُ وتعارضُهُ: “بمثلِ هذهِ الروايةِ وأشباهِها؛ تركَ أهلُ الحديثِ حديثَ يحيى بن عبيد الله”.[19]

فبيّنَ أنَّ تركَ المحدثين للراوِي إنما هو لمخالفتِه في متنِ هذه الروايةِ وأشباهِها، ونسبَ ذلك لعلماءِ الجرحِ والتعديلِ مقرِّرًا أنَّ هذا مِن موجباتِ ضعفِه عندَهم.[20]

ونجدُ أحمدَ يُسأل عن جابر الجعفي، فيقولُ له المروذي: يُتَّهمُ في حديثِه بالكذبِ؟ فيقولُ: “مَن طعنَ فيهِ فإنَّما يطعنُ بما يخافُ من الكذبِ”. قال المروذي: الكذب؟ فقال: “إي واللهِ وذاك في ‌حديثِه ‌بيِّنٌ إذَا نظرتَ إليها “.[21]

وأبو حاتمٍ يقولُ في ‌أحمد بن إبراهيم الحلبي: “لا أعرفُه، وأحاديثُه ‌باطلةٌ موضوعةٌ كلُّها ليسَ لها أصولٌ، ‌يدلُّ ‌حديثهُ على أنّه كذابٌ”.[22]

وابنُ عدي يقولُ في خالدٍ بن يحيى: “ولخالدٌ هذا غيرُ ما ذكرتُ من الحديثِ إفراداتٌ وغرائِبَ عمَّن يحدِّثُ عنهُ، وليسَ بالكثيرِ، وأرجو أنهَّ لا بأسَ بهِ؛ لأنِّي لم أرَ ‌في ‌حديثِه ‌متنًا مُنكرًا”.[23]

وبِما تقدمَ يظهرُ للقارئِ أنَّ دعوَى: عدمُ عنايةِ المحَدثينَ بالمتونِ تخالفُ الواقعَ الحديثِيَّ، وأنَّ أصحابَ هذه الدعوَى أغفلُوا ما تقدَّمَ إمَّا عمدًا وهذا خلافُ الموضوعِيَّةِ، أو عدمُ علمٍ، وعدمُ العلمِ بالشيءِ لا يعنِي عدمَ وقوعِهِ، والمُسارعةَ إلى إنكارِهِ.

[1] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (315).

[2] ينظر: مقاييس نقد متون السنة (51، 246).

[3] شرح علل الترمذي (1/ 466).

[4] المرجع السابق (43).

[5] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (316).

[6] ينظر: النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 225)، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 22)، تيسير مصطلح الحديث (17).

[7] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (322).

[8] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (322).

[9] ينظر: مقدمة همام لشرح علل الترمذي (1/ 156).

[10] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (326).

[11] معرفة علوم الحديث للحاكم (119).

[12] تاريخ بغداد (16/ 53).

[13] الموضوعات (3/ 192).

[14] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (325).

[15] ينظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف (43).

[16] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (407).

[17] ينظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (330)، النقد الحديثي وأثره في الحكم على الرواة (14).

[18] (172).

[19] (206).

[20] النقد الحديثي وأثره في الحكم على الرواة (14).

[21] العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية المروذي وغيره (190).

[22] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 40).

[23] المرجع السابق (3/ 422).

الكاتب: هاجر أحمد الزعاقي

التدقيق اللغوي: زينب عطية

القراءة الصوتية: محمد سعيد النتشة

التصميم: سمية العمودي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى