تعزيز اليقين

مقال (3) الدليل الثاني من أدلة وجود الله عزوجل [دليل الإتقان والإحكام]

تمهيد

تبين لنا أن مجرد وجود الشيء بعد أن لم يكن موجودا، تبين أنه دليل حتمي على وجود الخالق؛ وفي هذا الدليل سنتناول دليلاً آخر يزيد يقيننا بذلك؛ وهو التعقيد والإتقان الموجودان في المخلوقات، كما أن هذا الإتقان الموجود في المخلوقات يحمل معه شيئا عظيما آخر لإيماننا.. وهو الدلالة على كمال الخالق..

     فتعال معنا !

لو كنت أمام طفل صغير جدا .. لا يغلب على ظنك أنه يُحسن الرسم، لو رأيته قد أتاك بصورة قد رسم فيها أحلامه البريئة .. رسم سهلا أخضر جميلا، يلعب فيه الأطفال بألعاب مختلفة ..

ماذا سوف تستنتج من هذا الموقف؟

من البدهي أن لهذه الصورة رساما..   

وسوف تعلم يقينا كذلك أن هذا الطفل قد تعلّم الرسم، وأنه قصد رسم هذه اللوحة بما فيها من تفاصيل، لن يخطر ببالك أن هذه اللوحة كانت نتيجة لتمريره القلم على الورقة بشكل عشوائي، وبدون قصد ليرسم ما رسمه[1].

وكذلك إذا رأينا محركا معقدا، يحرق الوقود، ثم يحول الطاقة من شكل إلى آخر، فإننا سوف نكون على يقين قوي جدا من وجود صانع لهذا المحرك..

لكن هل يمكن أن يكون صانعه جاهلا بهذه الصناعة!؟

لا، إن مجرد رؤيتك للمحرك تعني لك أن صانعه عنده علم بالميكانيكا، والكهرباء، والتصميم، وكل ما يلزم لصناعة هذا المحرك.. وإلا لما استطاع صناعته، أو لصَنعه على نحو غير متقن.

مثل هذه الأمثلة البسيطة القريبة تجلي لنا نتيجة بدهية، وهي أن كل عاقل سليم الفطرة إذا تأمل ما في المخلوقات من إتقان وإبداع فإنه لا يجد مفرا من زيادة يقينه بوجود خالق لها؛ كما أنه سوف يعلم أن هذا الخالق لا بد أن يتصف بصفات الكمال، كالعلم والحكمة والإرادة.

إن هذا الدليل يجمع بشكل رائع بين البساطة والقوة، حتى أن كثيرا من الناس قد اهتدوا بعد التأمل فيه، ولا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة توضح كيفية عمل القوانين الطبيعية، وتكشف عن الإعجاز في جسم الإنسان والإعجاز في كيفية عمل الأجهزة والأعضاء بداخله، وتُظهر خصائص الكائنات الحية وتنوعها وتكشف الحجاب عن الكثير من مظاهر الإتقان والضبط الدقيق في هذا الكون، قد أمد هذا البرهان بالكثير من الشواهد والأمثلة عليه .


لمحة

إذا كان يقيننا قويا جدا بوجود رسام للصورة وصانع ماهر للمحرك، فإننا إذا تأملنا في بعض المخلوقات، وتأملنا ما فيها من تعقيد وإتقان شديد جدا، فإن عقولنا سوف تضطر اضطرارا لإثبات خالق عليم حكيم ذي إرادة.

فتعال الآن لنقف على جزء صغير من شاطئ بحر لا ينتهي من الإتقان والإبداع،تعال لتعلم أن ما تراه من محركات وآلالات مدهشة معقدة ليست إلا دمية ساذجة أمام أصغر مخلوقات الله ﷻ… فقبل أن نطير معا إلى تأمل الأفلاك والنجوم والكواكب.. قبل أن نغوص في البحار.. وقبل أن تتأمل الجبال والتلال والأشجار… :

  1. ارفع اصبعك الصغير أمام عينك، إن فيه مئات الملايين من الخلايا، في كل خلية منها عجائب وأسرار.. لن يتسع المقام للوقوف إلا على طرف يسير من ذلك.. لكن لك أن تتأمل في قول لينوس باولنج -الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء-: “إن خلية حية واحدة من بدن الإنسان هي أشد تعقيدا من مدينة نيويورك”[2]! حسنًا، فلننتقل إلى داخل خلية واحدة من خلايا جسمك البالغ عددها ٣٧.٢ تريلون خلية تقريبًا  … هناك تقريبا [3]١٠ تريليون منها تحمل نواة (جزء صغير داخل الخلية). في داخل نواة هذه الخلايا الجسميّة، يوجد ٢٣ زوجًا من الكروموسومات. بداخل هذه الكروموسومات خيط رفيع جدًا يسمّى DNA – شفرتك الوراثية، يحمل هذا الخيط معلومات عن صفاتك ووظائف أعضائك بشكل كامل. طول هذا الخيط: إذا فردنا الكروموسومات الموجودة في خلية واحدة ووصلناها ببعضها، سيبلغ طولها تقريبًا ٢ متر في المتوسط[4]… تخيّل! خيط طوله ٢ متر يوجد في كل خلية من خلايا جسمك، ترى كيف سيكون ملفوفًا ومرتبًا  لكي تَسَعَه خليةٌ لا تستطيع حتّى أن تراها بعينك المجردة؟! إذا وصلنا خيوط المادة الوراثية – DNA في خلايا جسمك كلّها، (أي: ٢ متر *١٠ تريليون خلية)، سيكون الطول تقريبًا٢٠ مليار كيلومتر، وهذا الرقم يساوي مسافة الرحلة التي تقطعها سفينة فضاء في رحلتها من الأرض إلى الشمس٧٠ مرّة ذهابًا وإيابًا على أقل التقديرات[5]  … تخيّل أن طول المادة الوراثية في جسمك كافية لتلفّ حول الشمس٤٥٧٧ مرّة [6][7] ! هذا ما يتعلق بطولها فقط، أما طريقة عملها، وكيفية قراءتها واستخراج المعلومات منها فعالم آخر! هذه الـ ٣٧.٢ ترليون خلية، بعضها مسؤول عن العظام، وبعضها مسؤول عن الأعصاب، أخرى مسؤولة عن الدم … وهكذا، وكل واحدة منها تهتدي لما ينبغي أن تفعله ! {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
  2.  الزرافة ! الزرافة تحمل دماغها فوق عنق طويلة، وقد تصل المسافة بين قلبها وبين دماغها إلى ٣ أمتار، وحتى يتمكن قلبها من إيصال الدم إلى دماغها فإنه لا بد أن يكون قويا، ولذلك فقد يصل وزنه إلى ١١ كغم، بطول ٦٠ سم، وطول جدرانه ٧.٥ سم[8]، إذاً فهو يضخ الدم بقوة شديدة بعكس الجاذبية نحو الدماغ . ولكن ماذا سيحدث لو خفضت الزرافة رأسها لتشرب مثلا، هل ستنفجر عروقها ودماغها بسبب هذه القوة؟! لا، فإن الشرايين التي توصل الدم إلى الدماغ تحتوي على صمامات تخفف من الضغط عند انحناء رأس الزرافة. كما أن هناك شبكة من الأوعية الدموية أسفل الدماغ تعمل كالإسفنج، فتمتص تلك القوة ثم تغذي الدم. كما أن الشريان الذي ينزل الدم من الدماغ إلى القلب فيه صمامات تمنع الدم من الرجوع إلى الدماغ عندما تخفض الزرافة رأسها[9]فسبحان من {أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ}.
  3. (بكتيريا الفلجلم)! بكتيريا الفلجم لها ذيل يدور كمحرك، وهذا المحرك مؤلف من أجزاء متعددة كالمجداف والدوار والبطانات والحلقة ومحور الدفع وغيرها، وهي متداخلة بشكل متناسق، ولو فقد منها جزء لما عمل هذا المحرك .[10] في عمل كل عضو من هذه الأعضاء إبداع مذهل.. وما يذهل أكثر هو وجود هذا التناسق والترتيب والترابط في عمل هذه الأعضاء. إن هذا التكامل في العمل موجود في الخلية، وفي داخل العضو الواحد، وفي داخل جسم الإنسان، وفي داخل جسم الحيوان كذلك.. إن عمل هذه الأعضاء بهذا الشكل المتكامل يعني أنها وُجدت دفعة واحدة ليحصل بينها الترابط وتعمل، وإلا لما استطاع المخلوق أن يبقى حيا، أو أن يبقى سليما.[11] ليس هذا في داخل أجسام المخلوقات فحسب بل في الطبيعة عموما، فالله ﷻ جعل لكل مخلوق وظيفة؛ فمفترس وضحية، وحيوانات يكثر عددها، وأخرى يقل عددها، حشرات قد نراها مزعجة فإذا بها ذات أهمية كبيرة لضمان غذائنا.. أمور لا نعلمها، وأمور نتعلمها،
  4. تأمل في هذه الحادثة لما نزل المهاجروين الأوروبيون أستراليا، لم يكن فيها من الثدييات المشيمية إلا كلب الدنجو البري، ولما كان هؤلاء المهاجرون قد نزحوا من أوروبا، فقد تذكروا ما كان يهيئه لهم صيد الأرانب من فرصة طيّبة لممارسة الصيد والرّياضة… في محاولة لتحسين الطبيعة في أستراليا استورد (توماس أوستين) في عام (١٨٥٩م) نحو اثني عشر زوجا من الأرانب وأطلقها. ولم يكن لهذه الأرانب أعداء طبيعيون في أستراليا، ولذلك فقد تكاثرت بصورة مذهلة، وزاد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان ينتظر، وكانت النتيجة سيئة للغاية؛ فقد أحدثت الأرانب أضرارًا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي التي ترعاها الأغنام. وقد بُذلت محاولات عديدة للسيطرة على الأرانب، وبُنيت أسوار عبر القارة في كوينزلاند بلغ امتدادها ٧٠٠٠ ميل، ومع ذلك ثبت عدم فائدتها؛ فقد استطاعت الأرانب أن تتخطاها. ثم استخدم نوع من الطعم السام ولكن هذه المحاولة باءت هي الأخرى بالفشل.  ولم يمكن الوصول إلى حل إلا في السنوات الأخيرة، وكان ذلك باستخدام فيروس خاص يسبب مرضًا قتّالًا لهذه الأرانب هو مرض الحرض المخاطي. وقد لا يكون هذا هو الحل الأخير، فقد أخذنا نسمع أخيرًا عن ظهور أرانب حصينة لديها مقاومة كبيرة لهذا المرض في أستراليا… ومع ذلك فقد أدى انخفاض عدد الأرانب هنالك إلى منافع جمّة، وتحوّلت مناطق البراري القاحلة والجبال المقفرة التي بقيت مجدبة عشرات السنين إلى مروج خُضر يافعة. وقد ترتّب على ذلك زيادة في الإيراد من صناعة الأغنام وحدها قدّرت في سنة١٩٥٢- ١٩٥٣ بما يبلغ ٨٤ مليون جنيه! [12]
  5. وأما الكون وما فيه من أسرار وعجائب فآيات باهرة، ومشاهد آسرة، ومن أهم المظاهر التي أبهرت العقول بإتقانها العجيب: قضية الثوابت الكونية، فالكون ضُبط بقوانين دقيقة ثابتة صارمة، تسير وفقها مجريات الكون؛ ليكون مناسبا للعيش والحياة فيه، ولو وقع أي تغير في تلك الثوابت -ولو كان ضئيلا- فإنه من المستحيل أن يكون على صورته التي هو عليها الآن[13]، ومن صور ذلك :
  1. قوة الجاذبية، فهذا الثابت الكوني لايختلف عن غيره من مخلوقات الله، فهو مضبوط بشكل مذهل، إذ أنه لو كان مختلفا بمقدر جزء من 10^60 لما كان لنا وجود [14]!!
  2. موقع الأرض، فتفصل الأرض مسافة دقيقة عن الشمس، بحيث لو حصل تفاوت بسيط في هذا المدار المنتظم، فلن يبقى شيء على الأرض كما هو، لا الماء سيبقى كما هو، ولا المحيطات، ولا النبات، ولا البشر.[15]
  3.  هذه الأرض يحيط بها غلاف غازي فيه الغازات اللازمة للحياة بنسب دقيقة لو تغيرت تغييرا طفيفا لفسدت الحياة، ويمتد هذا الغلاف حولها إلى ارتفاع يزيد عن ٥٠٠ ميل، ليحول دون وصول الشهب القاتلة، ويحفظ درجة حرارة الأرض، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات.[16] وسبحان مَن قال في كتابه الكريم، وقال جل جلاله: {وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }..

 ومظاهر الإتقان والإحكام والضبط في الخلق كثيرة جدا، والمقصود هنا ذكر بعضها للتمثيل فقط.


هو الله!

والآن، وبعد هذه النماذج التي لا نستطيع وصفها إلا بأنها نزر يسير جدا جدا جدا أمام ما علمه علماء الطبيعة من عجائب الخلق.. لا يمكن لإنسان يحترم عقله وفطرته إلا أن يقر بأمرين :

بوجود خالق لهذه المخلوقات.

وأن هذا الخالق متصف بصفات الكمال المطلق، الذي لا يدخله نقص بوجه من الوجوه.

الله الحي القيوم ..

فمن تأمل في هذا الخلق المتقن، علم يقينا أن خالقه لا بد أن يكون متصفا بالحياة الكاملة؛ فلو لم يكن حيا لما خَلَق،{اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٥٥]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: ٦٥].

الله المتصف بالإرادة جل علاه ..

ولا يمكن أن يتم الخلق بدون إرادة؛ فغير المريد لا يقدر على أن يقوم بشيء له معنى، فضلا على أن يخلق مخلوقات متقنة يجعل لكل منها مهمة ووظيفة.

الله العليم..

ولا بد أن يكون متصفا بكمال العلم؛ فالخلق، والخلق المتقن، لا يمكن أن يتم بدون علم كامل، فالجاهل لا يمكنه أن يصنع أبسط الأشياء.. فإذا لاحظنا دقة خلق الخالق علمنا دقة علمه، وأنه لا تخفى عليه خافية، {وَأَسِرّوا قَولَكُم أَوِ اجهَروا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ. أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ}.

الله القدير ..

كما أن الخالق لهذا الإتقان لا بد أن يتصف بالقدرة التامة، فهذا الكون يسير على سنن وقوانين دقيقة، غير فوضوية، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} الطلاق: ١٢]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}.

الله الحكيم ..

ولا يمكن للخلق المتقن أن يتم بدون حكمة تامة بالغة، فغير الحكيم لا يمكنه وضع الشيء في موضعه المناسب، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.

الله الرحيم الكريم الوهاب ..

وإذا تأملت في تسخير الأرض وتذليلها لمعيشتنا، وتأملت كيف أن الرزق والطعام يصل إلى أضعف المخلوقات، وإذا تأملت في إغاثة الله تعالى لعباده بإنزال المطر،  علمت أن هذا الخالق رحيم رحمة وسعت كل شيء، كريم عظيم الكرم والجود، {فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: ٥٠]،{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ  الْغَفُورُ} [سبأ: ٢].

الله السميع البصير ..

ومن لوزام ذلك الخلق المتقن أن يكون الخالق سميعا بصيرا، {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى: ١١].

الله ذو الكمال والجلال ..

وآثار الكمال الموجودة في الخلق، تدل على كمال الخالق، لأن معطي الكمال أولى به، فخالق الأسماع والأبصار والنطق، ونحو ذلك من الصفات الكاملة، هو أحق بهذا الكمال على وجه لا يماثله فيه أحد من خلقه؛ فالفطرة والبديهة تقتضي أن يكون الخالق المستغني عن الخلق أولى بالكمال من المخلوق المحتاج الفقير إلى خالقه،  {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: ٢٧]، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: ١٧] . [17]

وهكذا يدلنا الخلق المتقن على الكمال المطلق للخالق، ثم يدلنا على بعض الصفات التي يمكن لعقولنا إدراك اتصافه سبحانه وتعالى بها من خلال التأمل.


 نتيجة واحدة فقط ! 

هل تذكر ذلك الطفل الرسام؟ لقد كان بعيدا جدا جدا بالنسبة لك أن يكون قد وصل إلى تلك الرسمة عن طريق تحريكه القلم بشكل عشوائي على الورقة..

لو أنك طلبت منه أن يعيد رسم تلك الصورة أمامك ففعل، فهل سيزداد استبعادك للأمر؟ بالتأكيد. ولو رسمها مرة ثالثة؟ سيزداد أكثر وأكثر.

وهكذا كلما تكرر الإبداع وكثر، وكلما اشتد الإتقان وعظم، كلما ازداد العقل والقلب يقينا بالإيمان بأن لهذا الكون خالقا عالما حكيما مريدا، كامل الصفات..

  عقولنا لا تقضي إلا بهذه النتيجة.

⋅ فإذا تأملت ما سبق علمت يقينا أن الإيمان بالخالق المتصف بالكمال المطلق هو ما يحصل به قناعة العقل، واطمئنان القلب، واستقرار النفس.

 يقول ابن تيمية -رحمه الله-:[18]

«إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المُعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مبسوطة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيأة للمطاعم والملابس والمآرب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت، المخول ما فيه. وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام وأن له صانعًا حكيمًا تام القدرة بالغ الحكمة»  .


أيقظ قلبك! 

إن هذه المخلوقات تدلنا وتهدينا إلى العلم بخالقنا وبكماله، فتبارك الله الذي جعل سبيل الوصول إليه سهلا ميسورا.. هي أمور بين يديك وفي داخلك وفي نفسك، لا يغفل عنها إلا عقل عليه غشاوة، أو قلب علَته القسوة، أو نفس استولى عليها الهوى، ولذلك فقد وجه الله ﷻ عباده إلى إعمال الفكر في هذه المخلوقات، فإن كان هذا العبد حائرا زالت حيرته، وإن كان قلبه قاسيا زالت قسوته، وإن كان كافرا هُدي قلبه، وإن كان مؤمنا زاد إيمانه.

قال تعالى: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون * وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} ، 

وقال ﷻ : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّار}.

 وفي القرآن آيات كثيرة تستعمل الظواهر الكونية كدليل على عظمة الرب تعالى وكماله واستحقاقه وحده للروبية والألوهية، وهي تتضمن استثارة المكون الفطري في الإنسان، والذي يدعوه إلى نسبة مظاهر الإتقان إلى رب حكيم عليم، فعّال لما يريد، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء،  وإلى أن يتوجه بالعبادة لهذا الخالق العظيم وحده لاشريك.

ومن ذلك قوله تعالى:{أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون }

فانظر كيف لفت النظر إلى بعض الظواهر التي نراها بكثرة، ولكن غفلت قلوبنا عما فيها من إبداع كما قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }.

إن مجرد التأمل في خلق السماوات والأرض، وإنزال المطر، وإنبات النباتات وتنوعها= كفيل بعمارة قلبك بالإيمان.

 فكيف إذا وجهت النظر، وتأملت في الظواهر الكونية بالغة الإتقان، والتي قد يغفل عنها كثير منا!

{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} [الرعد: ٢].

وقال تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: ١٨٥]،

وقال: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف  بنيناها وزيناها وما لها من فروج}[ق: ٦]، وقال: {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: ٣].

وكم في القرآن من ذكر لهذه المخلوقات التي نراها حولنا، وهي من أعظم الأدلة على وجوده وكماله سبحانه واستحقاقه للألوهية وحده لاشريك له، فذكر الشمس والقمر، والليل والنهار، وإنزال المطر وإخراج النبات بسببه، وذكر الرعد والبرق، والسحاب والنجوم، وتسخير الرياح لذلك، وتسخيرها لسير السفن في البحر، وذكر خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، وحثنا على التفكر في الزواج، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وجعْلِ الليل سكنا لنا، وذكر المراحل التي يمر الإنسان بها في حياته، وتفضيل بعض الناس على بعضهم في الرزق، وذكر النحل والإبل والجبال، وغير ذلك..

         {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }

                                     سبحانه..

⇐ منقول من : صفحة المُيسّر في تعزيز اليقين

———————————————————————————–

[1] انظر: محاضرة الداروينة عرض ونقد، عبد الله العجيري.

[2]  Dave Hunt, In Defense of the Faith (Eugene: Harvest House Publishers, 1996), p.22.

[3]  https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/23829164

[4]  https://hypertextbook.com/facts/1998/StevenChen.shtml

[5] https://hypertextbook.com/facts/1998/StevenChen.shtml

https://www.nature.com/scitable/topicpage/dna-packaging-nucleosomes-and-%20chromatin-310

[6]  https://solarsystem.nasa.gov/solar-system/sun/by-the-numbers

[7]  Biochemistry Dental Students, 75

[8] Prothero, D. R.; Schoch, R. M. (2003). Horns, Tusks, and Flippers: The Evolution of Hoofed Mammals. Johns Hopkins University Press. pp. 67–72

The Sauropod Dinosaurs: Life in the Age of Giants, Mark Hallett, Mathew J. Wedel, JHU Press, Aug 16, 2016 – Nature, Page 96

[9] Mitchell, G.; Skinner, J. D. (1993). “How giraffe adapt to their extraordinary shape”.Transactions of the Royal Society of South Africa. 48 (2): 207–18

http://news.bbc.co.uk/earth/hi/earth_news/newsid_8368000/8368915.stm

[10]  Darwin’s Black Box, FREE PRESS – New York London Toronto Sydney, p. 2, 69

[11]  Darwin’s Black Box, FREE PRESS – New York London Toronto Sydney, p. 51

[12] الله يتجلى في عصر العلم، تحرير: جون كلوفرمونسيما، ٥٥.

[13] ظاهرة نقد الدين،د.سلطان العميري ج2

[14] شموع النهار، عبد الله العجيري ، دليل الإتقان

[15]  التصميم العظيم، ستيفن هوكنج، ١٨١- ١٨٣.

[16] الله يتجلى في عصر العلم، تحرير: جون كلوفرمونسيما، ١٢، ١٣.

[17] انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، (٤/ ١٥٤)، دار طيبة.

الأدلة العقلية النقلية، د. سعود العريفي، ٣٢٣، ٣٣٦.

[18] ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية، (١/ ٥٠٦).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى