عرض ونقد

 دفعُ الاعتراضاتِ على التَّداوي بأبوالِ الإبِلِ وألبانِها

 تميَّزَ الدِّينُ الإسلاميُّ بشمولِه لكلِّ مجالاتِ الواقعِ ونواحي الحياة، فهو يدخلُ في أغلبِ تفاصيلِ حياةِ الإنسانِ المسلم، ولا يكتفي بالإرشادِ إلى المأموراتِ والمنهيَّاتِ الشَّرعيَّةِ؛ بل يتوسَّعُ ليشملَ ما يدخلُ في اهتمامِ المسلمِ وحاجتِه من صحَّةٍ وتعليمٍ وغذاءٍ ودواءٍ وتعاملات، وتهدفُ هذه التوسُّعاتُ إلى تنظيمِ الحياةِ وإكسابِ المسلمِ الإعانةَ والقدرةَ اللَّازمةَ لممارسةِ دورِه الطَّبيعيِّ في الحياةِ الَّذي يتمحورُ حولَ القيامِ بعبادةِ اللهِ على الوجهِ الأكمل.

 ولهذا نجدُ كثيرًا منَ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ أشارتْ إلى تنظيمِ صحَّةِ المسلمِ، وأرشدتْ الى التَّداوي والحثِّ على ذلك، ودعَتْ إلى الاهتمامِ بصحَّةِ الإنسان، وحدَّدتْ بعضُ تلكَ النُّصوصِ أدويةً معيَّنةً لمعالجةِ بعضِ الأمراضِ وطريقةَ استخدامِها، ومِنْ ذلك الحديثُ الَّذي اتَّفقَ على إخراجِه البخاريُّ بالرَّقمِ: (233)، ومسلم بالرَّقمِ: (1671): (عن أنسِ بنِ مالك، أنَّ ناسًا مِنْ عُرينةَ قدِموا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ، فاجْتوَوها، فقالَ لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “إنْ شئتمْ أن تخرجوا إلى إبِلِ الصَّدقةِ فتشربوا من ألبانِها وأبوالِها”. ففعلوا فصحُّوا) واللُّفظ للبخاريِّ.

وقد دلَّ الحديثُ وبصورةٍ واضحةٍ لا لَبسَ فيها أنَّ هؤلاء النَّفرَ قد حصلَ لهمُ الشِّفاءُ بعد تداويهم بأبوالِ الإبِلِ وألبانِها، ولا جَرمَ أنَّ هذا منَ الواقعِ المصدِّقِ لِما جاءَ في الحديث، فإنَّ شفاءَهم وقعَ وتحقَّقَ بعدَ شربِهم لأبوالِ الإبلِ وألبانِها، بل جاءَ في بعضِ الرِّواياتِ أنَّهم سَمِنوا وهذا أمرٌ زائدٌ على الشِّفاء.

يُشارُ إلى أنَّ ابنَ حجرٍ ذكرَ في فتحِ الباري: وفيه (أي في الحديثِ منَ الفوائدِ): (مشروعيَّةُ الطبِّ والتَّداوي بألبانِ الإبلِ وأبوالِها، وفيه أنَّ كلَّ جسدٍ يطبَّبُ بما اعتادَه) “1”، والَّذين وردَ ذكرُهم في الحديثِ هم أهلُ باديةٍ كانوا يتداوون بأبوالِ الإبلِ وألبانِها واعتادوا على ذلك، كما أنَّ التَّداوي بها مشروعٌ وجائزٌ لغيرِ منِ اعتادَ عليها.

والتَّداوي بأبوالِ الإبلِ وألبانِها معروفٌ عندَ أهلِ الطِّبِّ المتقدِّمين، ذكرَ ذلك ابنُ سينا في كتابِه القانون: (وأنفعُ الأبوالِ: بولُ الجملِ الأعرابيِّ وهو النَّجيب)”2″، وفي هذا إشارةٌ إلى اعتمادِ أهلِ الطِّبِّ المتقدِّمين لأبوالِ الإبلِ وألبانِها كدواءٍ لعلاجِ بعضِ الأمراض، وذكرَ ابنُ المنذِر: (وفي تركِ أهلِ العلمِ بيعَ النَّاسِ أبعارَ الغنمِ في أسواقِهم واستعمالَ أبوالِ الإبلِ في أدويتِهم قديمًا وحديثًا مِنْ غيرِ نكيرٍ دليلٌ على طهارتِها)”3″، والَّذي يهمُّنا هنا هو إشارةُ ابنِ المنذرِ إلى استعمالِ أبوالِ الإبلِ وألبانِها قديمًا وحديثًا في أدويتِهم وهو محلُّ الاستشهادِ ومبتغاه.

وما زالَ النَّاسُ في الواقعِ وفي زمانِنا الحاضرِ يستخدمون أبوالَ الإبلِ وألبانَها في علاجِ بعضِ الأمراضِ؛ مثلَ الدَّماملِ والقروحِ والقرعةِ واعتلالِ الكبدِ، بل إنَّ النِّساءَ يستخدمْنَ بولَ الإبلِ لأجلِ إطالةِ الشَّعرِ وإكسابِه الشُّقرةَ -أي اللَّونَ الأشقر-، ويتحصَّلون على نتائجَ طيِّبةٍ باستخدامِهم لأبوالِ الإبل.

وقد قدحَ بعضُ النَّاسِ في مفهومِ الحديثِ وذكروا أنَّ البولَ يتكوَّنُ مِن موادَّ سامَّةٍ قد تسبِّبَ التَّسمُّمَ وبعضَ المضاعفاتِ المرضيَّة، بيدَ أنَّ إصابةَ بعضَ الأشخاصِ بالتَّسمُّمِ لأجلِ شربِهم بولَ الإبلِ أو عدمِ استفادتِهم منه لا يقدحُ أبدًا في كونِ أبوالِ الإبلِ وألبانِها دواءً، لأنَّ هذا مِنْ طبيعةِ الأدويةِ، فلا يوجدُ دواءٌ ينفعُ معَ كلِّ أحدٍ، ولا يوجدُ دواءٌ يشفي كلَّ مَنْ تناولَه، فالدَّواءُ الواحدُ قد يشفي أحدَهم، وقد يؤدِّي إلى موتِ الآخرِ، وقد يسبِّبُ أعراضًا جانبيَّةً عندَ الآخَر، ولهذا تجدُ في التَّحذيراتِ المرفقةِ في نشراتِ الأدويةِ أنَّ هذا الدَّواءَ مثلًا لا يستعملُه مَنْ كان لديه تحسُّسٌ من المركَّبِ الفلانيِّ، أو كان يعاني من المرضِ الفلانيّ، وبالجملةِ فإنَّ عدمَ جدوى الدَّواءِ، أو عدمَ شفائِه لبعضِ الأمراضِ، أو تَسبُّبِ الدَّواءِ في بعضِ الأعراضِ الجانبيَّةِ لدى مجموعةٍ منَ النَّاسِ؛ يُعدُّ مِنْ طبيعةِ الأدويةِ، ولم تخرجْ أبوالُ الإبلِ او ألبانُها مِنْ هذه القاعدةِ.

وانطلاقًا مِنْ هذا الحديثِ، واستنادًا إلى عاداتِ العربِ في أدوائِهم، فقد أُجريتْ بعضُ الدِّراساتِ العلميَّةِ داخلَ نطاقِ العالَمِ الإسلاميِّ؛ لمعرفةِ كفاءةِ أبوالِ الإبلِ وألبانِها في شفاءِ بعضِ الأمراضِ، وعمدتْ هذه الدِّراساتُ إلى تحليلِ مادَّةِ أبوالِ الإبلِ وآثارِها على الأمراضِ، وخلَصَتْ تلك الأبحاثُ إلى أنَّ أبوالَ الإبلِ تحتوي على نسبةٍ عاليةٍ منَ البوتاسيوم، كما أثبتَتْ تأثيرَ أبوالِ الإبلِ على أمراضِ الكبدِ والقروحِ والدَّماملِ وعلى قشرةِ الشَّعر، وغيرِها مِنَ الأمراضِ، ومِنْ أمثلةِ هذه الدِّراساتِ؛ ما أجراه الطَّالبُ في مرحلةِ الماجستيرِ بكليَّةِ المختبراتِ الطبيَّةِ بجامعةِ الجزيرةِ (محمَّد أُوهاج محمَّد)، وأجازتْه عمادةُ الشُّؤونِ العلميَّةِ بالجامعةِ، وبإشرافِ عميدِ الكليَّةِ، والَّذي خلَصَ إلى تأثيرِ أبوالِ الإبلِ على أمراضِ الكبدِ، وغيرِ ذلك منَ الأبحاثِ العلميَّةِ في جامعاتِ الدُّولِ الإسلاميَّةِ”4″.

والتقطَتْ بعضُ المراكزِ الغربيَّةِ القفازَ استنادًا على استعمالِ المسلمين والعربِ قديمًا وحديثًا لأبوالِ الإبلِ وألبانِها كدواءٍ، فأجرَتِ الدِّراساتِ والبحوثَ العلميَّةَ على أبوالِ الإبلِ، ومِنْ هذه المعاهدِ: معهدُ الصِّحَّةِ الوطنيِّ التَّابعِ لوزارةِ الصِّحَّةِ والخدماتِ الإنسانيَّةِ الأمريكيَّة، وجاءَ في ملخَّصِ هذه الدِّراسةِ مترجمًا من اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ إلى العربيَّةِ ما يلي: (أظهرَ بولُ الإبلِ سمية خلويَّةً ضدَّ سلالاتِ الخلايا السَّرطانيَّةِ البشريَّةِ المختلفة، ولكن ليسَ كلَّها، مع تأثيرٍ هامشيٍّ فقط على الخلايا الظّعهاريَّةِ غيرِ السَّرطانيَّةِ والخلايا اللِّيفيَّةِ الطَّبيعيَّةِ، ومنَ المثيرِ للاهتمامِ، أنَّ 216 مجم / مل من أبوالِ الإبلِ المجفَّفةِ بالتَّجميدِ تمنعُ تكاثرَ الخلايا، وتسبَّبتْ في أكثرَ من 80 ٪ مِنْ موتِ الخلايا المبرمجةِ في الخلايا السَّرطانيَّةِ المختلفة، بما في ذلك سرطانُ الثَّديِّ والأورامُ الأروميَّةِ النُّخاعيَّةِ) “5”، ولا يفوتني أنْ أذكُرَ أنَّ هذه الدِّراسةَ كان استنادُها إلى استخدامِ العربِ لأبوالِ الإبلِ، وهناك دراسةٌ أخرى مِنْ مجلَّةِ الكيمياءِ الحيويَّةِ الأمريكيَّةِ، والتي قامتْ بتحليلِ أبوالِ الإبلِ وخلصَتْ إلى أنَّه يحتوي على قدرٍ ضئيلٍ جدًّا من اليوريا ولا يحتوي على أيِّ نسبةٍ منَ الأمونيا “6”.

وختامًا نلفتُ الانتباهَ إلى أنَّه قد يُستقذَر مِنَ استعمالِ أبوالِ الإبلِ في الأدويةِ والمعالجاتِ؛ معَ أنَّ كونَ أبوالَ الإبلِ ممَّا تستقذرُه النَّفسُ لا يقدحُ في كونِه دواءً، لأنَّ الدَّواءَ لا يُشربُ للتَّلذُّذِ بطعمِه، وهذا من طبيعةِ الأدويةِ؛ فإنَّ غالبَ الأدويةِ لا تستطيبُها النَّفسُ ولا تهنأُ بتناولِها، ويشقُّ على النَّفسِ كثيرًا تناوُلُ بعضِ الأدويةِ  ويصعبُ عليها ذلك، ولهذا يلجأُ المستخدمون له إلى خلطِ البولِ بالحليبِ حتَّى يكونَ مستساغًا، كما أنَّ في تركيباتِ بعضِ الأدويةِ ما يتجاوزُ مسألةَ مجرَّدِ الاستقذارِ إلى كونِها تتركّبُ مِنْ موادَّ سامَّةٍ وقاتلة، مثلُ ما هو معروفٌ في سمِّ العقربِ والأفعى والَّني تدخلُ في تركيباتِ بعضِ الأدوية، وغيرِها من المواد الكيميائيَّةِ الَّتي تُستعملُ في الاشتقاقاتِ الدَّوائيَّةِ.


شرحُ غريبِ الكلمات:

1- اجتووها: أصابَهم الجوى؛ وهو المرضُ وداءُ الجوف.

2- النَّجيب: القويُّ الشَّديد.

3- الأمونيا: غازٌ سامٌّ، وهو ما يُعرفُ بغازِ النشادر.


المراجع:

1- القانونُ في الطِّبِّ لابنِ سينا ج 1 ص 112 – تحقيقُ محمَّد أمين الضَّنَّاويّ.

2- فتحُ الباري شرحُ صحيحِ البخاريِّ ج 1  ص 341 طبعةُ دارِ المعرفة.

3- الأوسطُ في السُّننِ والإجماعِ والاختلافِ لابنِ المنذر ج 2 ص 199 طبعةُ دارِ طيبة الطبعة الأولى.

4 – جامعةُ الجزيرةِ – عمادة الشؤون العلميَّةِ والدِّراساتِ العليا – دراسةٌ بعنوان (دراسةٌ في المكوناتِ الكيميائيَّةِ وبعضِ الاستخداماتِ الطبيَّةِ لبولِ الإبلِ العربيّةِ) اسمُ الباحثِ: محمّد أوهاج محمد – نوفمبر 1998 م .

5- www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/22922085

6- www.jbc.org/content/64/3/615.full.pdf

الكاتب: معتصم قريب الله

القراءة الصوتية: محمد ريان

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى