عرض ونقد

إضاءاتٌ حولَ دعوى تشابهِ الإسلامِ معَ الأديانِ السابقةٍ

الحمدُ للهِ المُتفضِّلِ بالإنعامِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِهِ خيرِ الأنامِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ مصابيحِ الظلامِ ومَنْ سارَ على نهجِهِ واقتفى أثرَه واستقامَ، وبعدُ.

يتسائلُ البعضُ عنْ سببِ تشابهِ بعضِ عقائدِ الإسلامِ أوْ عباداتِه معَ بعضِ الأديانِ السابقةِ، وهلْ هوَ ناشيءٌ عنِ الاقتباسِ أمْ بسببِ وحدةِ المصدرِ؟، وإنْ كانَ السببُ هوَ وحدةَ المصدرِ فمَا تفسيرُ ذلكَ إذا كانَ الدينُ الأقدمُ دينًا وضعيًّا (ليسَ اليهوديةُ أوِ النصرانيةُ) مثلَ أديانِ سومرٍ القديمةِ أوِ الزراديشتيةِ.

فإليكَ هذهِ القواعدَ العامةَ التي يعينُ استحضارُها مجتمعةً على معرفةِ الإجابةِ[1] وذلكَ دونَ الحاجةِ للدخولِ في مناقشةٍ “تفصيليةٍ” لكلِّ جزءٍ ادُّعِيَ فيهِ التشابهُ ودونَ البحثِ في تاريخِ وعقائدِ وعباداتِ كلِّ دينٍ مِنْ هذهِ الأديانِ:

  • المُدَّعِي مُطالَبٌ بالدليلِ على دعواه ابتداءً، فلا بدَّ أولًا مِنْ إثباتِ أنَّ هذهِ الأمورَ المتشابهةَ موجودةٌ في هذهِ الدياناتِ السابقةِ قبلَ الإسلامِ ولمْ تُضَفْ بعدَ ظهورِ الإسلامِ، فحالُ هذهِ الأديانِ لا يتشابهُ معَ ثباتِ دينِ اللهِ الإسلامِ وعدمِ تبدُّلِه، بلْ حدثَ فيها تغييرٌ وتبديلٌ على مرِّ الزمانِ، وحدثَ لكتبِ أهلِها المقدسةِ في الغالبِ التحريفُ بالزيادةِ والنقصِ والتأثرِ بالثقافاتِ المحيطةِ.

فتمحيصُ السندِ التاريخيِّ يثبتُ أنَّ الكثيرَ مِنْ تلكَ الدعاوي ساقطةٌ، فمَا وصَلَنا مِنْ أمورٍ يُظنُ بها أنها تشابهُ ما جاءَ بهِ الإسلامُ قدْ جاءَ ذكرُها في مصادرَ قدْ كُتِبتْ بعدَ الإسلامِ بمدةٍ كافيةٍ لورودِ احتمالِ أنْ تكونَ تلكَ الدياناتُ هيَ التي تأثرتْ بالإسلامِ في صورتِها النهائيةِ، ومثالُ ذلكَ ما زُعِمَ مِنَ اقتباسِ الإسلامِ عنْ كتابِ الزراديشتيةِ المقدسِ والذي ثبتَ بعدَ ذلكَ أنَّه لمْ يُكتبْ في صيغتِه المتداولةِ الآنَ إلا بعدَ الإسلامِ بكثيرٍ، تقولُ ماري بويس: (لقدْ ظلَّ سائدًا أنَّ قصةَ ( آردا ويراذ ناماك ) أثَّرتْ في قصةِ المعراجِ الإسلاميةِ حتى تبيًَنَ أنَّ الصورةَ الأخيرةَ للقصةِ الفارسيةِ حديثةُ العهدِ بالنسبةِ للإسلامِ)[2].

  • التشابهُ بينَ الدياناتِ هوَ أمرٌ واردٌ، لأنَّ الدينَ الصحيحَ هوَ دينُ الله، فاللهُ سبحانَه هوَ المرسلُ لجميعِ الأنبياءِ مِنْ لدنْ أدمَ عليهِ السلامُ إلى محمدٍ ﷺ فهوَ الذي شرَّعَ، وهوَ الذي أوحى إلى رسلِه وأمرَهم بالتبليغِ، فلذلكَ مِنَ الضروريِّ أنْ يتفقوا في الأصولِ فهُم يخبرونَ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعنْ عالَمٍ غيبيٍّ واحدٍ، ويتفقونَ في أصولِ الشرائعِ والعباداتِ، لكنْ تختلفُ بعضُ تفاصيلِ الشرائعِ، قالَ سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [سُورَةُ البَيِّنَةِ: ٥] فمَا وُجِدَ مِنْ تشابهٍ بينها فمردُّهُ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى مصدرِ تلكَ الدياناتِ.
  • نحنُ لا نعلمُ كلَّ أنبياءِ اللهِ ورسلِه، فالقرآنُ لمْ يقصَّ علينا كلَّ أخبارِهم، فهناكَ أنبياءُ لا نعلمُ عنهم شيئًا ولا عنْ أديانِهم ولا عمَّا أصابَ أهلَها، فاللهُ سبحانَه يقولُ:{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [سُورَةُ فَاطِرٍ: ٢٤] إذًا هناك رسلٌ بُعِثوا ولا نعرفُهم.

فعدمُ العلمِ ليسَ علمًا بالعدمِ، فعدمُ علمِنا بقصصِ الكثيرِ منَ الأنبياءِ لا يستلزمُ عدمَ وجودِهم، بلْ ثبتَ بالخبرِ الصادقِ وجودُ أنبياءَ أخرينَ لمْ يأتِ ذكرُهم في القرآنِ والسنةِ.

فمَا وُجِدَ من تشابهٍ بينَ دينِ اللهِ الحقِّ وبينَ غيرِه منْ أديانٍ باطلةٍ فربَّما كانَ منْ تأثُّرِ هذا الدينِ الباطلِ بدينٍ مُوحى بهِ سابقٍ عليهِ.

  • ما يُزعمُ منْ أديانٍ وكتبٍ (بالآرميةِ والفارسيةِ والهيروغليفيةِ والسنسكريتيةِ….) أنَّ النبيَّ ﷺ اقتبسَ منها، تحتاجُ إلى جامعاتٍ متخصصةٍ وفرقِ باحثينَ للوصولِ إلى تلكَ الكتبِ وترجمةِ محتوياتِها وصياغتِها في دينٍ باللغةِ العربيةِ الفصحى، فهلْ كانَ محمدٌ الرجلُ العربيُّ الأميُّ الذي لمْ يُعرَفْ بكثرةِ الأسفارِ ولا بطلبِ العلمِ ولا بمعرفةِ تلكَ اللغاتِ، هوَ مَنْ قامَ بهذا الجهدِ الذي تنوءُ به كبرى الجامعاتِ صاحبةِ التمويلِ الكبيرِ والعددِ الوافرِ من الباحثينَ؟

يقولُ الدكتورُ عبدُ الرحيمِ الشريفُ: “كيفَ يستطيعُ سيدُنا محمدٌ ﷺ الاطلاعَ على كلِّ عاداتِ شعوبِ الأرضِ، مِنَ الهندِ إلى مصرَ، وينتقي تلكَ العباداتِ والقصصَ والعقائدَ؟ وأيَّةَ مراجعٍ علميةٍ كانتْ في مكتبتِه؟ وأيَّ جيشٍ منَ المدرسينَ استطاعَ تعليمَه كلَّ ذلكَ في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً، كانتِ الأنظارُ مصوَّبةً نحوَه كلَّ لحظةٍ منْ أتباعِه المخلصينَ وأعدائِه المتربصينَ؟”

فعلى مَنْ يريدُ إثباتَ هذهِ الدعوى أنْ يُعلِمَنا كيفَ نقلَ النبيُّ ﷺ هذهِ الأمورَ عنْ دينٍ أوْ ثقافةٍ معينةٍ وكيفَ ترجمَها منْ لغتِها الأصليةِ إلى اللغةِ العربيةِ؟

فمَا يزعمونَه منَ اقتباسٍ منْ كتبٍ كثيرةٍ بعضِها مندثرٍ ولغاتِها مختلفةٍ وبلادِها متباعدةٍ هوَ أمرٌ محالٌ على أيِّ رجلٍ متعلمٍ في ذلكَ الزمانِ. وإذا انضافَ لذلكَ أنَّ المكانَ هوَ مكةُ التي لمْ تكنْ حاضرةً ثقافيةً عالميةً كروما ولا مكانًا تجتمعُ فيه العلومُ والمعارفُ، فكيفَ بنا ومحمدٌ ﷺ كانَ أميًّا لا يقرأُ ولا يكتبُ؟

يقولُ أحمدُ آلُ بوطامي: (قالَ المؤرّخُ (ابنُ خلدونَ): إنّ الكتابةَ في العربِ كانتْ أعزَّ منْ بيضِ الأَنُوقِ، وإنَّ أكثرَهم كانوا أميينَ، ولا سيَّما سكّانُ الباديةِ، لأنَّ هذهِ الصناعةَ منَ الصنائعِ التابعةِ للعمرانِ. ولذلكَ ما كانَ العربُ يشيرونَ إلى الأميِّ بالأميِّة، وإنَّما كانوا يشيرونَ إلى مَنْ يعلمُ القراءةَ والكتابةَ بالعلمِ في هذا الأمرِ؛ إذْ إنَّ العلمَ بالقراءةِ والكتابةِ كانَ الاستثناءَ لا الأصلَ في الناسِ؛ وصمْتُ نصوصِ الوحيِ وكتبِ التاريخِ الإسلاميِّ عنْ وصفِ محمدٍ ﷺ بالقراءةِ والكتابةِ يكفي لإلزامِ الباحثِ أنْ يستصحبَ الأصلَ في ذاكَ الزمانِ؛ وهوَ أنَّ هذا النبيَّ ﷺ لا يقرأُ ولا يكتبُ)[3].

  • على مَنْ أرادَ أنْ يروِّجَ لهذهِ الدعوةِ أنْ يدرُسَ الإسلامَ بمنظومتِه المتكاملةِ مِنَ العقائدِ والشرائعِ، فعندَها سيتيقنُ أنَّ مثلَ هذا الدينِ الكاملِ لا يكونُ أبدًا منٍ تلفيقاتٍ مِنْ هنا وهناكَ، بلْ هوَ دينُ اللهِ الخاتمُ الذي ارتضاه اللهُ سبحانَه لعبادِه حتى قيامِ الساعةِ وفيه صلاحُهم وفلاحُهم. فالإسلامُ أبعدُ ما يكونُ عن التلفيقِ والاقتباسِ، فهذا الكمالُ والشمولُ دليلٌ على الأصالةِ وعلى وحدةِ المصدرِ، بلْ إنَّ المنصفَ إذا درسَ تلكَ المنظومةَ بتجردٍ واستنطقَ ما فيها من جمالٍ ومصلحةٍ تأكَّدَ مِنْ ربانيةِ مصدرِ الإسلامِ[4].

وختامًا يجدرُ بنا التذكيرُ بأنَّ الناظرَ في أدلةِ صحةِ نبوةِ محمد ﷺ المتواترةِ وما اتَّصفتْ بهِ مِنَ الظهورِ والضخامةِ لا يتطرقُ إليه أدنى شكٍ أنَّه مرسلٌ مِنَ اللهِ تعالى ربِّ العالمينَ. فالاستدلالُ على صدقِ نبوةِ الرسولِ ﷺ سهلٌ ميسورٌ، ويقنعُ العاميَّ والمتعلمَّ؛ لأنَّ الأدلةَ على صحةِ نبوةِ محمدٍ ﷺ متنوعةٌ مثلُ الإعجازِ بالقرآنِِ والكمالِ الشخصيِّ والأخلاقيِّ وحدوثِ المعجزاتِ والخوارقِ بينَ يديْهِ ﷺ وإخبارِه بالغيوبِ الصادقةِ، وتحتَ كلِّ نوعٍ منْ هذهِ الأنواعِ توجدُ أمثلةٌ كثيرةٌ جدًا وأفرادٌ متنوعةٌ[5].

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، ومَنْ سارَ على نهجِه واقتفى أثرَه بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.


[1] يمكن مراجعة المزيد حول دعوى التشابه مع الأديان الكتابية في كتاب (هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى)

[2] Boyce, Mary. Ed., Textual Sources for the Study of Zoroastrianism, 1984, Manchester University Press.

[3] أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي، الردّ الشافي الوافر على من نفى أميّة سيّد الأوائل والأواخر.

[4]  يمكن مراجعة كتاب تعرف على الإسلام للدكتور منقذ السقار.

[5]  يمكن مراجعة هذه المقالة على موقع المحاورون https://almohaweron.co/prophecy-evidence/ 

الكاتب: أحمد فوزي

القراءة الصوتية: ماهر القسي

التصميم: ندى الأشرم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى