تعزيز اليقين

الدليلُ على وجودِ الآخرةِ وحياةِ البَرزخِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ مالكِ يومِ الدّينِ، والصّلاةُ والسّلامُ على الصّادِقِ الأمينِ..

في ظلالِ طُغيانِ الفلسفَةِ المادّيةِ زادَ التّشكيكُ في حياةِ البرزَخِ واليومِ الآخرِ، وقد يهتَزُّ بعضُ المؤمنينَ لكَثرةِ التّشكيكِ، وفي هذهِ السّطورِ نُحاولُ معًا ضبطَ الرّؤيةِ والبوصَلَةِ لعلّنا نقِفُ على أرضٍ ثابتةٍ ولِيَتَبيَّنَ للمؤمنينَ أنَّ إيمانَهُم مَعقولٌ، وليسَ كما يَزعُمُ المشكّكونَ، ونَتناوَلُ المسألةَ بإذنِ اللهِ تعالى في المَحاوِرِ التّاليةِ:

  1. الإيمانُ بالغَيبِ ومصدَرُهُ المَعرِفيُّ.
  2. هلِ الأمرُ مُحالٌ عقلًا؟
  3. مُقتضَى الحِكمةِ والعدلِ.

وباللهِ تعالى نَستعينُ، ونسألُهُ سبحانَهُ السّدادَ والقَبولَ.

  • أوّلًا: الإيمانُ بالغَيبِ ومصدَرُهُ المَعرفيُّ:

قالَ تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَيُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [سورة البقرة]، فمِنْ أَولى صِفاتِ المُتّقينِ إيمانُهم بالغَيبِ، والإيمانُ بالغَيبِ وسَطٌ بينَ مَوقِفَينِ مُتعارِضَينِ، أوَّلُهما هوَ مَوقِفُ مُعتَنِقي الأساطيرِ الذينَ يَقبلونَ ما يرِثونَهُ مِن حِكاياتٍ شَعبَويّةٍ لا بُرهانَ عليها سِوى رُسوخِها في حِكاياتِ الأجدادِ مُنذُ فجرِ التّاريخِ.

والمَوقِفُ الثّاني هوَ مَوقِفُ مَن يرتابُ فيما خرَجَ عنِ الحواسِّ، وقدْ زادَ أنصارُ هذا المَوقِفِ معَ انتشارِ الفلسفةِ المادّيَّةِ التي تَتبنّاها الحضَارةُ الغَربيّةُ الغالِبةُ.

وهُنا يأتي الإيمانُ بالغَيبِ الحَقِّ الذي لا يَستسلمُ لقِصَرِ المعرفَةِ على الحواسِّ، وكذلكَ لا يكونُ إيمانًا أعمى يَقبلُ المطروحَ بِلا تثَبُّتٍ، ولكنّهُ إيمانٌ يُعلِي مِن شأنِ العَقلِ ويَستَنِدُ للخَبرِ الصَّادِقِ، وكِلاهُما مَصدَرٌ أصيلٌ في المَعرفةِ الإنسانيّةِ، بلْ لا يستَطيعُ إنسانٌ تكوينَ رُؤىً وأفكارٍ صحيحةٍ مِن غيرِ أنْ يكونَ مُستنِدًا في حياتِهِ إلى الحَواسِّ والعقلِ والخَبرِ الصّادقِ، حتّى ولو زعمَ استغناءَهُ عنْ إحدَى تلكَ المَصادِرِ الثّلاثِ.

هُنا نَجِدُ الإيمانَ بالآخرةِ والبَرزَخِ لمْ يكُنْ فُجائيًّا، ولكنَّه استنَدَ لخُطُواتٍ:

١- براهينُ قاطِعةٌ على أنَّ لهذا الكَونِ خالِق متَّصِفٌ بالكمالِ ومُنَزَّهٌ عن النّقصِ.

٢- براهينُ قاطعةٌ على أنَّ نبيَّنا محمدٌ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ هوَ رسولُ هذا الخَالقِ، وأنَّ كتابَهُ القرآنَ هوَ كلامُ الرَّبِّ سبحانَهُ.

٣- تَصديقُ ما جاءَ في كتابِ اللهِ الذي ثبَتَ إعجازُهُ، وما أخبَرَنا بهِ نبيُّنا الذي ثبَتَ صِدقُهُ.

وهكذا يَتبَيَّنُ لنا أنَّ الإيمانَ بالغَيبِ في الإسلامِ مَبنِيٌّ على أساسٍ راسِخٍ، وأنَّهُ مَوقِفٌ عَقلانيٌّ؛ إذْ لا يُعقَلُ أنْ نؤمنَ بالكتابِ وبالرّسولِ ثمَّ نُكذِّبَ ما جَاءا بهِ مِن أخبارٍ، وقدْ ثبتَ لنا مِنَ القرآنِ والسُّنةِ وجودُ البَعثِ واليومِ الآخرِ وحياةِ البَرزخِ، قالَ تعالى :{وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 100)} [سورة ُالمؤمنون]، ولا يزالُ النّاس يَذكرونَ موقِفَ الصِّديقِ رضيَ اللهُ عنهُ حينَ قالَ: “إنْ كَانَ قالَ فقدْ صدَقَ”.

  • ثانيًا: هلِ الأمرُ مُحالٌ عقلًا؟

 كثيرٌ منَ الإشكالاتِ قدْ تزولُ لَو علِمَ النّاسُ الفرقَ بينَ المُستحيلِ عادةً وبينَ المُستحيلِ عقلًا، فالمُستحيلُ عادةً هوَ ممكِنٌ عقلًا إلّا أَنّهُ يخالفُ ما اعتَدْنا عليهِ منْ نظامٍ وما نَعرفُهُ مِنْ قوانينِ هذا العالَمِ، وهذا النّوعُ ممكنٌ عقلًا ويقعُ إذا شاءَ اللهُ لهُ أنْ يقعَ، وأمّا المستَحيلُ العقلِيُّ فهوَ كاجتِماعِ النّقيضَينِ أوْ يكونَ جُزءُ الشّيءِ أكبرُ مِنْ كُلِّهِ، ومِثلُ تلكَ الأمورِ التي تَحمِلُ تناقُضًا في ذاتِها ولا يمكِنُ تصوُّرُ وُقوعِها عقلًا بأيِّ حالٍ.

وإنَّ ربَّ العالمينَ قادرٌ على أنْ يبعَثَ النَّاسَ للحسابِ، وإنَّ مَنْ يؤمِنُ أنَّ اللهَ تعالى خلقَ هذا الكَونَ ثُمَّ يُشكِّكُ في قدرتِهِ سبحانهُ على إعادةِ خَلقِهِ قدْ وقعَ في الانقلابِ الإقرارِيِّ، ويكونُ قدْ خالَفَ دِلالاتِ العَقلِ، قالَ تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [سورة يس].

وقالَ سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [سورة الأحقاف].

▪︎ فماذا عنِ البَرزَخِ؟

تخيَّلْ مَعي لوْ كانَ عالَمُنا لا أحلامَ في ولا رؤىً، وكانَ النَّومُ عبارةً عنْ سكونٍ لا يُبصِرُ فيهِ المَرءُ شيئًا ثمَّ جاءَ شخصٌ وقالَ: هناكَ إمكانيَّةُ أنْ ترَى أمورًا وأنْ تُسافرَ في منامِكَ وتَعيشَ حُزنًا أو فرَحًا.. فما رَدُّ فِعلِ النّاسِ حينَها؟

 الظنُّ أنَّهُم قدْ يتَعجَّبونَ ويُشكِّكُ بعضُهُم في إمكانيّةِ ذلكَ لغَرابَتِهِ عندَهُم ولأنّهم لم يَعهَدوا ذلكَ في عالَمِهِم، بينما نحنُ نعلمُ أنَّ طِفلانِ على فِراشٍ واحِدٍ قدْ يَرى أحدُهُم ما يَسرُّهُ ويَرى آخَرُ ما يوقِظُهُ باكِيًا، نعلمُ ذلكَ ولا نَشُكُّ فيهِ أبدًا، وإنَّ اللهَ الذي جعلَنَا على هذه الحالِ في الرُّؤى والأحلامِ قادِرٌ على أنْ يجعَلَ لنَا حياةً في القُبورِ تَغلِبُ فيها أرواحُنا الأجسادَ، ونكونَ في حالٍ لا يُدرِكُهُ أهلُ الدُّنيا كما يَغيبُ عنهُم تفاصيلُ رؤىً يراها مَن هُم في نَومِهِم وأمامَ أعيُنِهِم، وربُّنا على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

  • ثالثًا: مُقتضَى الحِكمةِ والعدلِ:

إنَّ اللهَ تعالى متَّصفٌ بالكَمالِ المطلَقِ وُمنَزَّهٌ عنْ مُطلَقِ النَّقصِ، وقدْ خَلَقَ الإنسانَ خَلقًا فريدًا مُتميِّزًا عنْ سائِرِ المخلوقاتِ في أرضِنا، وأهمُّ ما تمَيَّزَ بهِ الإنسانُ هوَ العقلُ الذي يُدرِكُ الخيرَ والشّرَّ والحَسَنَ والقبيحَ، ولا يكونُ ذلكَ عبَثًا، وقدِ اختلَفَتْ خَياراتُ النّاسِ بينَ مَنْ كانَ منَ الأبرارِ وآخرُ سلَكَ سبيلَ الأشرارِ، ولا يَستوي هذا وذاكَ عندَ ربِّ العالمينَ، ودُنيانا لا نجِدُ فيها دائمًا الجزاءَ، فكانَ البعثُ لَيَنفِي العبَثَ، ثُمَّ كانَ للجزاءِ الأَوفَى، فلا يَضِيعُ حقُّ مظلومٍ، ولا يُفلِتُ ظالمٌ بظُلمِهِ، ولا يَضيعُ جُهدُ طائِعٍ، وليُجزَى العاصِي بما عَمِلَ.

قالَ تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}[سورة المؤمنون].

وقالَ جلَّ وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}[سورة ص].

الخُلاصَةُ:

لمْ يكُنْ إيمانُنا باليومِ الآخِرِ والبَرزَخِ إيمانًا مُجرَّدًا منَ البُرهانِ، بلْ يَستَنِدُ لأُسُسٍ عقليَّةٍ بعدَ تَيَقُّنٍ واطمِئنانٍ لبُرهانِ وجودِ اللهِ تعالى وكمالِهِ وإرسالِهِ محمدًا صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ، فكانَ تَصديقُ ما في الكتابِ والسُّنّةِ لازِمٌ عَقلِيٌّ، وإنَّ الأمرَ في دائرةِ الإمكانِ العَقليِّ، وإنَّ اللهَ تعالى لمْ يخلُقْنا عبَثًا وما كانَ لِيَترُكَنا سبحانَهُ مِنْ غيرِ بَعثٍ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}[سورة النجم]. واللهَ تعالى أسألُ أن يَجزِيَنا بالإحسانِ إحسانًا، وبالسّيئاتِ عفوًا وغُفرانًا، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

الكاتب: علي جلال

القراءة الصوتية: ماهر غازي القيسي

التصميم: قمر القصاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى