بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
في مفهوم الخطاب:
يعتبرُ مصطلح “الخطاب” مصطلحاً حديثاً من مصطلحاتِ العلومِ اللغويةِ والفلسفةِ، ورغم ورودِه في التراثِ العربي إلا أنَّ المعاني الجديدةَ له تختلف عن الاستخداماتِ القديمة.
ففي المعاجمِ اللغويةِ التراثيةِ يُعرَّفُ الخطابُ بأنّه الكلامُ أو تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام ثمَّ نقل مِنْهُ إِلَى مَا يَقع بِهِ التخاطبُ من الْكَلَام لفظياً أَو نفسياً” (معجم دستور العلماء).
وفي القرآن: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}أي في القول والطلب، و{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي الحكمَ
بِالْبَيِّنَةِ أَو الْيَمين أَو الْفِقْه فِي الْقَضَاء للفصلِ بين الحقِّ والباطلِ (المعجم الوسيط). وعند السيوطي: فصلُ الخطابِ هو تَلْخِيص الْكَلَام إِلى إِلى الْمَقْصُود مع قربِ الملاءمةِ ( معجم مقاليد العلوم )[1].
وبالتالي فمجملُ القولِ إن الخطابَ يعني المخاطبةَ، وإنه يتأثرُ بأسلوبِ الخطيبِ وطبيعةِ المخاطَبِ وترتبطُ به القدرةُ الخطابيةُ وإلقاءُ الخطب وما تحويه من بلاغةٍ ومحاولاتٍ للإقناع والاستمالة.
أما عند اللغويينَ المعاصرينَ، فالخطاب يشير إلى مستوى التحليلِ ما فوق الجمل؛ أي تحليلُ النصوصِ سواءً كانت مكتوبةً أو منطوقةً ، كما يشيرإلى الجوانبِ النفسية والإشارية التي تكتَنِفُ الحديثَ، وعند الفيلسوفِ ميشال فوك و[2]Foucault ينصرفُ الخطابُ إلى مجموعِ سلوكياتِ الشخصِ أو المجموعةِ من الأشخاصِ التي تعكسُ جوانبَ الشخصيةِ في علاقتها مع سلطةٍ أخرى، وبالتالي يتسعُ مفهوم الخطابِ ليشملالألفاظَ -المكتوبةَ والمنطوقةَ- والإيماءاتِ والحركاتِ والإشاراتِ، والعاداتِ والتقاليدَ والأعيادَ القوميةَ والملابسَ الشعبية والرموزَ الروحيةَ، والأمثالَ الشعبية والأشعارَ الديوانية وأساليبَ هندسةِ البيوتِ وطرائقَ تعليمِ الأطفال إلى غير ذلك في مجتمع من المجتمعات.
الخطاب الديني:
والخطابُ الديني على هذا الأساس يُقصدُ به مجموعُ أساليبِ الخطابةِ المكتوبة والمسموعة والسلوكياتِ المجتمعية التي ترتبطُ برجالِ الدين أو المتدينينَ في مجتمع من المجتمعات.
وفي السياقِ الحالي، يقصد بالخطابِ الديني -خصوصاً- الخطابُ الإسلاميُّ، بمعنى الطرائقِ والأساليبِ التي يعرض بها المشايخُ والوُعاظُ وخطباءُ المساجدِ والفضائياتُ ومواقعُ التواصل والمتدينونَ الإسلامَ في ردِّهم على الأسئلةِ أو تعليقهِم على الأحداثِ أو مناظراتِهم لأصحابِ الأديانِ الأخرى أو الملحدينَ، أو في دروسهِم العلمية والوعظية الدورية، ويشملُ ذلك أيضاً الصورَ الذهنية للمتدينينَ سواءً من ناحيةِ السَّمْتِ العام المتحفظ والمنكفِئِ على الذاتِ والتراثِ أو من ناحيةِ الملابسِ التي تشكلُ منظومةً إسلاميةً معينةً مثل النقابِ والحجابِ للمرأةِ واللحيةِ والثوبِ القصيرِ للرجل، بما يعتبر صوراً نمطيةً يتم استدعائُها للأذهانِ نتيجةَ عقودٍ من عمل الآلةِ الإعلامية العالمية المشوِّهة لصورةِ الإسلام والمسلمين.
وفي الصورةِ النمطيةِ للمتدينين يغلبُ تصورُ الأمرِ والنهي والزجرِ والوعظ ِوالترهيبِ والتخويفِ بالعذاب والحرقِ في النار وفي القبرِ، والوعيدِ، في مقابلِ الخطابِ العلماني الذي يُصَوَّرُ نمطياً على أنّه المحرِّرُ للعقولِ والمنوِّرُ للأفهامِ والرائدُ للتحررِ من رِبْقِ التخلفِ والرجعيةِ والساعي إلى التقدمِ والتطورِ.
وشُيوعُ هذه الصورِ النمطيةِ وترسيخها في الأذهان من أكبرِ عواملِ الاتجاه للإلحادِ والهجومِ على الدين.
الإلحاد:
الإلحادُ في المفهومِ الغربي الحديث يعني إنكارَ الإلهِ، إذ أن كلمةَ atheist مكونة من شقين:a بادئةبمعنى (بلا أو بدون) وtheist التي تعني (رُبوبي أو معترف بوجود ربٍّ، وهي مشتقةٌ من الاسم Theo اليوناني بمعنى الرب[3]، واشتُقَّ منها اسم زيوس Zeus كبيرُ الأربابِ في الأساطيرِ اليونانية)، وينقسم مفهومُ الإلحادِ بهذا المعنى إلى قسمين: إلحادٌ إيجابيٌّ وإلحادٌ سلبيٌّ، فأمّا السلبيُّ فهو الذي يدَّعي إنكارَ الإلهِ لأنه لا يجدُ أدلةً كافيةً تثبتُ وجودَه، وأما الإلحادُ الإيجابيُّ فهو الذي يدَّعي إنكارَ الإلهِ لتوافرِ أدلةٍ تؤكدُ عدمَ وجودِه.
والإلحادُ الإيجابيُّ هو ما يطلق عليه الإلحادُ الصلبُ Solid atheism[4].
وعبرَ التاريخِ الأوروبيالحديث انتشرَ الملحدونَ المنكرونَ للإلهِ –من القسمين- وظهرَ معهم طائفةٌ أخرى هي اللاأدريين
Agnostics وهم الذين يقولون إن معرفة وجودِ الإلهِ من عدمهِ أمرٌ لا سبيلَ إليه وبالتالي لا ندرِي عن إمكانِ وجودِه من عدمِه، وظهرت كذلك طوائفُ من الربوبيين Theists وهمُ الذين يؤمنونَ بربٍّ للكونِ خلقَهُ وتركَهُ، فهو ليسَ إلهاً يعبدُ ولا وجودَ للأديانِ ولا للرسالاتِ، إنَّما الربُّ خلقَ الكونَ وتركه يعملُ بذاته.
ورغمَ تعدُّدِ فئاتِ الملحدينَ، وخفُوتِ نَجمهم في القرن العشرين، إلا أنَّهم اجتمعوا في هجمةٍ إلحاديةٍ معاصرةٍ منذ أواخر القرنِ العشرين فيما يسمى بالإلحاد الجديد Neo Atheism وصارَ لهم نجومٌ من العلماءِ الملحدين ممن يدْعون أنفسهم بالفرسانِ الأربعة[5].
ورغم ورودِ كلمةِ الإلحادِ في القرآن، إلا أنَّ معناها لا ينصرفُ إلى إنكارِ وجودِ الإله؛ وإنما جحودِ النعمةِ أو جحودِ الرسالةِ:{لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}[النحل: ١٠٣]، {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: ٤٠]، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}[الأعراف: ١٨٠]. وكلُّ من اشتهرَ بالإلحادِ في التاريخ الإسلامي لم يكن منكرا لوجودِ الإله: ابنُ الراوندي، أبو العلاءِ المعري، ابنُ سينا، أبو بكر الرازي[6].
إنما ظهرَ الإلحادُ بمفهومهِ الغربي –وهو السائد الآن- في العصرِ الحديثِ –القرن التاسع عشر والعشرين – بعدَ الاحتكاكِ الحضاريِّ بالغربِ وتجربةِ الاستدمار في البلدان العربية والإسلامية.
كيف يكونُ الخطاب الديني الإسلامي ممهدًا للإلحاد:
كما ذكرنا فإن الخطابَ الدينيَّ الإسلاميَّ هوَ مجموعُ الأساليبِ والطرقِ التي يقدمُها الدعاةُ والخطباءُ في طرحهم الإسلامَ كحلٍّ بديلٍ للنماذجِ الفكريةِ والثقافيةِ الأخرى. وبعد استقراءٍ لهذهِ الأساليبِ والطرقِ اتضحَ لنا أنَّ كثيرًا منها واقعٌ في إشكالاتٍ حقيقيةٍ تحتاجُ للمعالجةِ الجادةِ، وأنَّ النذرَ القليلَ هوَ من يتفادَى هذه الإشكالاتِ أو أكثرَها، وسنحاولُ في بيانِ سماتِ الخطابِ الديني المشكلِ أن نلتزمَ العدلَ والحياديةَ
وأن نقدمَ بعض النصائحِ التي قد تساهم في رفع ِكفاءةِ الدعوةِ بشكلٍ عام .
مشكلة البعد عن الواقع:
قد يقالُ بكلِّ ثقةٍ أن مشكلةَ كثيرٍ من الوعاظِ والخطباءِ والدعاةِ هو البعدُ عن الواقعِ والفتورُ الشديد في الوعيِ بمشكلاتِ العصرِ وبالأخصِّ المعرفةُ الدقيقةُ بتياراتِ الأفكارِ المؤثرةِ في الحاضرِ.
ومن الأمثلة على هذا الضعفِ هو ندرةُ الدخولِ والكلامِ فيما يخصُّ ملفاتٍ مهمةٍ كملفِ الإلحادِ والإنسانيةِ والردِّ عليها في العقدينِ الماضيينِ معَ وجودِ الحاجةِ الماسَّةِ إلى التعرضِ لهَا.
فإن َّالإلحادَ كمصطلحٍ آخرَ للادينيةِ ليسَ طارئًا جديدًا في الثقافاتِ الغربيةِ، بل له جذورهُ منذ عصرِ النهضةِ مرورا بالماركسيةِ ووصولًا إلى ما يُعرفُ بالإلحادِ الجديدِ منذُ حادثةِ ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ومعَ ذلك لم يكن هناكَ الاهتمامُ الكافي من جهةالدعاةِ للتصدي لهذه الأفكارِ وطرحها في المجالِ العام، بل كان التركيزُ الأكبرُ على مساحاتٍ قليلةِ الأثرِ والأهمية، كالنقدِ المتمركزِ حول الدينِ النصراني أو الفرقِ الشيعية.
مشكلة التنازلات:
ينشأُ عن مشكلةِ البعدِ عن الواقعِ وقلةِ الوعي والاطلاعِ على أفكارِ العدوِّ الحقيقيِّ مشكلةٌ أكبرُ، ألا وهي الكسلُ بالاهتمامِ الجادِ للبحثِ النقديِّ لهذه الأفكارِ من منظورٍ شرعيٍّ محكمٍ، فإنَّ عمليةَ نقدِ الأفكارِالمخالفةِ للإسلامِ تنبني على ثلاثِ أعمدةٍ، الخللُ في إحداها يحدثُ معضلاتٍ لا يحمدُ عقباها.
- العمودُ الأولُ: هو المعرفةُ المتينةُ بالدين الإسلامي نفسِه كالاطلاعِ على العلومِ الشرعية والفكرِ الإسلامي،ومعرفة المُحكَمِ من المُتشابهِ (خاصةً في مسائلِ علمِ العقيدةِ).
- العمودُ الثاني: هوَ معرفةُ دينِ العدوِّ (ولو كان لا دينياً بالمعنى الاصطلاحيِّ) وأفكارِه والاطلاعِ الجيدِ عليها لمعرفةِ مكامِنِ ضعفِها والخللِ الناشئِ بها وقولِ أئمتِها التي يستندُ عليها أصحابها.
- والعمود الثالث: هو ملكةُ العقلِ الناقدِ الذي يستفصلُ عن مفاهيمِ المخالفِ ويوزنُها بمعيارِ الشرعِ وينقي الأفكارَ ويصفيها ثم يأخذُ ما صفى منها ويدع ما كدرَ حتى يقبلَ منها الحقَّ ويردَّ الباطلَ بعلمٍ وعدلٍ.
وكما هو واضحٌ فإن هذه العمليةَ التي تنبني على الثلاثِ أعمدةٍ والرسوخِ فيها ليستْ بالعمليةِ السهلة، ولهذا يستصعبُهَا كثيرٌ من الدعاةِ وينتقلون إلى عمليةٍ أسهلَ منها بكثيرٍ ألا وهي التنازلُ عن المُحكَمِ لدرءِ التعارضِ بين النصِّ الشرعيِّ والنصِّ الغربيِّ. فإن التمسكَ بالمُحكمِ والاستفصالَ عن ما يصادمها من دينِ المخالفِ يحتاجُ إلى وقتٍ وتريث. أسهلُ من ذلك كلِّهِ هو أن تُغيِّرَ المحكمَ الذي عندَكَ عبرَ آلةِ التأويلِ الفاسدِ وتزحزحهُ إلى مجالِ المتشابِه والمشكوكِ فيه، كي تهّوِّنَ من حرارةِ احتكاكِ المذهبينِ والتصادمِ الواضحِ بينهما.
الأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ منها: قبولُ نظرية التطور بكلِّ جوانبها وتأويل ما قد يصادمها منالنصوص الشرعية أو الحكم على الأحاديث الصحيحة بما أسمِّيه “التضعيف الفوري” التي يوهم ظاهرُهاالمخالفةَ لمذهبِ المُخَالف.
ولو تأملنا في هذه الطرق لوجدنا أنَّها تنازلاتٌ لا تحلُّ المشكلة بل تزيدها تعقيدًا مع مرور الوقت.
فمن الأسئلة البديهية التي تخطر على بال أيِّ متابعٍ لهذه التأويلات: ما هو معيار التأويل الذي يُعد داخل دائرة التأويل المقبول، وإن كانت دائرةُ التأويل لا حدود لها، بل تتَّسع إلى احتضان كلِّ المذاهب والأفكار المخالفة أو أكثرها، فما أهمية الدين أصلًا وماذا يقدم لنا غير المطروح؟
فهؤلاء المؤولة بتعبير ابن تيمية -رحمه الله – لا للإسلام نصروا ولا للملاحدة كسروا ..
مشكلة الكلام في غير الفن:
وهي مشكلةٌ كبيرةٌ على مستوى الخطاب الديني ألا وهي تطرُّق الداعيةِ إلى ما لا يحسن أو الإجابة على أسئلةٍ في مجالاتٍ هو قليل التطلُّع عليها، والإشكال في هذا الفعل أنه يكفي أن يحدث مرةً واحدةً كي تسقط الثقةُ عن هذا الداعية بالكلية، فإنَّ من تكلم في غير فنِّه أتى بالعجائب ومن تكلم في غير فنه مرةً لايمنعه أن يتكلم في غير فنِّه مرات. كان السلف يقولون كلمة “لا أدري ” هي نصف العلم، وهذا حق، فإن ّالعلم بجهل النفس عن موضوعٍ ما، أفضلُ بكثيرٍ من عدم العلم بجهل النفس والكلام في مسألة بعيدة عن التخصص بجزمٍ وثقةٍ = وهو ما يُعرف بالجهل المركب. فليس الداعية مُطالبًا بأن يجيب على كل سؤالٍ يُطرح عليه، والصحيح أن يقول “لا أدري” وأن يدلَّ السائلَ على من هو أعلم منه بهذه المسألة .
فهذا أقرب للحق ويقلل من فُرَص أعداء الإسلام في الانتهازية وجمع مادتهم للنقد والسخرية .
مشكلة التركيز على الوعيد:
إن الوعيد (كالوعد) من سمات الخطاب الشرعي المؤثر، لكنَّه وحده لا يكفي في إنشاء خطابٍ متكاملِ الأركان، لاسيما عندما يكون هو محور الخطاب ويُعاد ويُكَرَّر فيه نفسُ الأقوالِ كالحديث عن عذاب القبر. قليلٌ من الخُطَّابِ والدعاة من يمزج بين تمرير المفاهيم العلمية مع المفاهيم الإيمانية، وإن كان هذا هو الأقرب للخطاب القرآني، فإن القرآن لم يقتصر على آيات التخويف من عذاب الآخرة والحثِّ على ترك المعاصي، بل إنَّ الخطاب العقلي والجدلي جزءٌ مركزي فيه، {أَمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ شَيْء أَمْ هُم الْخَالِقُونَ}، {لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَة إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا}، {مَا اتَّخَذ اللهَّ مِن وَلَد وَمَا كَان مَعَه مِن إِلَٰه إِذا لَّذَهَب كُل إِلَٰه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُم عَلَىَٰ بَعْض سُبْحَان اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُون الْقُرْآن وَلَوْ كَان مِن عِند غَيْر اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيرا}، {وَلَقَد نَعْلَم أَنَّهُم يَقُولُون إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُون إِلَيْه أَعْجَمِي وَهَٰذَا لِسَان عَرَبِي مبِين}، وكثيرٌ من الآيات الأخرى التي تُعتبر آيات جدلية من الدرجة الأولى.
فالتركيز على أدلة صحة الإسلام وبيان مميزات النموذج الإسلامي وهيمنته على النماذج الأخرى من أهم ما يحتاج إليه الداعيةُ في خطابه العام والخاص، بل إن النقد ولو على سبيل الإجمال للتيارات والمذاهب المخالفة لابدَّ أن يكون ركنًا أساسًا من أركان الخطاب الديني، وكذلك الحديث عن العلوم الشرعية وإعطاء نبذات مختصرة عن موضوعاتها وعن أهميتها في حياة المسلم، كعلم الحديث ومنهجية المحدثين في التصحيح والتضعيف وعلم أصول الفقه وأصول التفسير وعلم العقيدة .
وقد يُعترض هنا باعتراضٍ نصه: أن العوام ليسوا مهتمين بتفاصيل هذه العلوم ولن يتذكروا هذه المعلومات بعد انتهاء الخطبة. وهذا الاعتراضُ غير صحيح؛ لأنَّ الهدفَ من ذكر هذه المعلومات ليس إخراج المتخصصين في هذه العلوم وإنَّما الهدفُ هو تمريرُ جِدية الدين، وأنَّ الدينَ علمٌ، ينبني على علومٍ لا يصح أن يُستهانَ بها ولا يليق أن يتكلم فيه كلُّ من هبَّ ودبَّ.
وأنْ يعلم العوامُ مَظانَّ العلم، فإن أُشكِل عليهم أمرٌ ما في دينهم يعلمون في أي مجالٍ يبحثون عن مبتغاهم وأي علماء يسألون. فلا ينبغي أن يكون الشاب المسلم العاقل طالبًا جامعيًا ولم يمر عليه مصطلحُ المتنِ والسندِ ولا يفقه الفرقَ بينهما، ولو تم تحقيقُ هذين الهدفين فقط لكفى بها منفعة للأمة.
مشكلة الأسلوب والألفاظ:
الخطابُ الوعظي المُستَهلَك أحدُ سمات الخطاب ضعيف التأثير، فإنَّ مثالَ الحلوى المكشوفة الشهير الذي يتم فيه تمثيلُ المرأة المحجبة بالحلوى المغطاة، مثالٌ قد أكل عليه الدهرُ وشرب، بل أصبح مادةَ سخريةٍ عند شبابِ وسائلِ التواصلِ، وكذلك بعض الألفاظ والعبارات “الملغمة”، التي حالما تُذكر تنفجر أبوابُ السخرية والتهكم من كل حَدبٍ وصَوبٍ. فلا داعي للجوء إلى عباراتٍ وأمثلةٍ مُستهلكة ولو كانت صحيحةً فلا شكَّ أنَّ في غيرها الكفاية.
في عالم السرعة أصبحت بعضُ أساليبِ الخطابِ أضعفَ تأثيرًا ، كالتحدث باللغة العربية الفصيحة ببطءٍ على مدار ساعة أو أكثر، ولا بأس في رأيي أن يلجأ الداعيةُ إلى أساليبٍ أخرى مادامت لا تخالف محكمَ الشريعة أو تتخلى عن الثوابت، كالكلام بالعامية لتوصيل الرسالة، خاصةً إلى طبقة الشباب، وأنتُستخدم المصطلحاتُ المنتشرةُ بين الشباب، وذلك لا شكَّ أنه يُشعر المخاطَب بقربٍ وعنايةٍ خاصةٍ وواقعية للخطاب. ومن الطرق التي تساعد على الوصول لشريحةٍ أكبر من الناس هو نشر بعض المقاطع
http://www.youtube.com/watch?v=JPaVvJ7AOSo
المجزَّئة جانب المحاضرات مدتها لا تتجاوز الدقائق المعدودة ويكون لها عناوينٌ جذَّابةٌ تراعي جوانبَ الخطاب المؤثِّر ويَسْهُل نشرُها في وسائل التواصل.
كما أن أسلوبَ العباراتِ مؤثرٌ في الخطاب الديني فكذلك المظهر والسمت العام للداعية يؤثر على متلقي المعلومة ولو بلا وعي، وإن وافق أسلوبُه أكثر سمات الخطاب المؤثر فسمتُه العامُّ من اللباسِ الحسنِ والبنيةِ الجسميةِ وحفاظه على صحته عبر ممارسة الرياضة وقوة بدنه له تأثيرٌ كبيرٌ في رفع جدية خطابه واختلافه عن النمطِ السائدِ المنتشرِ الذي يُصوَّر فيه الداعيةُ على أنَّه سمينٌ وقليلُ الحركة.
وبذلك يتبين لنا أنَّ الأمة بحاجةٍ إلى تجديدٍ للخطاب الديني فعلًا، لكن شتان بين خطابٍ يقلل من قيمة الوحي والتراث وبين خطابٍ يجعلهم المركزَ والمصدرَ ويرفع من شأنهما ويقوِّي حجتهما.
والله أعلم،،
والحمد لله
[1] المعاجم من موقع الموسوعة العربية: http://arabiclexicon.hawramani.com/
[2] Gordon Waitt, “Doing Foucauldian Discourse Analysis–Revealing Social Identities in Hay, I,” Qualitative Research Methods in Human Geography, 2010.
[3] Online etymology dictionary: https://www.etymonline.com/search?q=atheist&source=ds_search (Accessed February 21, 2020).
[4] Maryanne Cline Horowitz, “New Dictionary of the History of Ideas,” vol 1, p. 169 [Atheism], Thomson Gale 2005.
[5] وهم Sam Harris Daniel Dennett, and Christopher Hitchens, Richard Dawkins.
[6] عبد الرحمن بدوي. (١٩٩٣م ). من تاريخ الإلحاد في الإسلام. الطبعة الثانية. القاهرة: سينا للنشر.
الكاتب: أحمد صديق الوكيل - عنتر صلحي عبد اللاه