تعزيز اليقين

العدالة والضبط في رواية الصحابي للحديث النبوي

 

تمهيد

        وضع علماء الحديث قواعد صارمة وشروطًا واضحة لابد من تحققها كي يوصف الحديث النبوي أو الخبر محل الدراسة بشكل عام بأنه صحيح (أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا، ولا معللاً) [١] ، فتحقق صفتي العدالة والضبط في رواة الحديث شرط أساسي لقبوله.

 (المُرادُ بالعَدْلِ : مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُهُ على مُلازمةِ التَّقوى والمُروءةِ)[٢]،

( والضَّبْطُ: ضبطان، ضَبْطُ صَدْرٍ :وهُو أَنْ يُثْبِتَ ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ مِن استحضارِهِ مَتى شاء، وضَبْطُ كِتابٍ : وهُو صيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤدِّيَ منهُ )[٣].

وتطبق هذه القواعد على سائر الرواة ، ولأجلها وضع علم الجرح والتعديل الذي يعتني بتصنيف الرواة عدالة وضبطا وبه يتمكن المحدثون بجانب علوم الحديث الأخرى من الحكم على إسناد الحديث صحة وضعفا، إلا أن للصحابة استثناء من هذا العلم إذ يشهد لهم بالعدالة والضبط دون حاجة للعودة إلى (الجرح والتعديل).

(للصحابة بأسرهم خصيصة وهي : أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة)[٤].

(ولأن السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أمور الدين، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها، وأولهم والمقدر عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشد جهلاً، وأعظم إنكاراً، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم هم وغيرهم من الرواة، حتى يصح العمل بما رواه الثقات منهم، وتقوم به الحجة؛ فإن المجهول لا تصح روايته، ولا ينبغي العمل بما رواه، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل؛ فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح؛ لأن الله – عز وجل – ورسوله زكياهم وعدلاهم، وذلك مشهور لا نحتاج لذكره، ويجيء كثير منه في كتابنا هذا، فلا نطول به هنا)[٥].

وخلاصة ذلك أن المستهدف في رواة كل طبقات الإسناد هو تحقق العدالة والضبط، أما في طبقة الصحابي فإن مدار التحقيق فيها هو إثبات الصحبة، فمتى ثبتت صفة الصحبة فلا حاجة لمزيد تحقيق في العدالة والضبط، ويتناول هذا المقال شيئا من حيثيات هذا الحكم المجمع عليه في شأن رواية الصحابي ومناقشة بعض ما قد يستشكل حوله، نسأل الله تعالى الإخلاص والتوفيق والصواب.

عدالة الصحابة

أولاً : من هو الصحابي؟

قال الحافظ ابن حجر: (وأصح ُّ ما وقفت عليه من ذلك، أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالأعمى )[٦]، وفي إثبات الصحبة جاء في مقدمة ابن الصلاح (ثم إن كون الواحد منهم صحابيا : تارة يعرف بالتواتر وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي وتارة بقوله وإخباره عن نفسه – بعد ثبوت عدالته – بأنه صحابي والله أعلم)، وساق السيوطي أبياتا في تعريف الصحابة قائلا فيها :

حَدُّ الصَّحَابِي: مُسْلِمًا لاقَى الرَّسُولْ   …

                    وَإِنْ بِلا رِوَايَةٍ عَنْهُ وَطُولْ

 

كَذَاكَ الاتْبَاعُ مَعَ الصَّحَابَةِ       …

    وَقِيلَ: مَعْ طُولٍ وَمَعْ رِوَايَةِ

 

وَقِيلَ: مَعْ طُولٍ، وَقِيلَ: الْغَزْوِ أَوْ … 

                  عَامٍ، وَقِيلَ: مُدْرِكُ الْعَصْرِ وَلَوْ

 

وَشَرْطُهُ الْمَوْتُ عَلَى الدِّينِ وَلَوْ   …      

         تَخَلَّلَ الرِّدَّةُ. وَالْجِنُّ رَأَوْا

 

دُخُولَهُمْ دُونَ مَلائِكٍ. وَمَا           …     

            نَشْرِطْ بُلُوغًا فِي الأَصَحِّ فِيهِمَا

 

وَتُعْرَفُ الصُّحْبَةُ بِالتَّوَاتُرِ          …   

           وَشُهْرَةٍ وَقَوْلِ صَحْبٍ آخَرِ

 

أَوْ تَابِعِيٍّ، وَالأَصَحُّ: يُقْبَلُ             .

..           إِذَا ادَّعَى مُعَاصِرٌ مُعَدَّلُ

 

وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُمْ لا يَشْتَبِهْ        …     

   النَّوَوِيْ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهْ [٧]

ثانياً : أدلة ثبوت عدالة الصحابة

وعدالة الصحابة عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية ، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة ، يقول الخطيب البغدادي: (عدالة الصحابة ثابتة معلومة، بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن، في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك ….، وكلها مطابقة لما ورد في القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع بتعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم – مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم – إلى تعديل أحد من الخلق ...) [٨]،ويستدل لذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، من أبرزها:

[أولاً : من القرآن :]
يقول الله – عز وجل – {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨)} سورة الفتح
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كنا ألفا وأربعمئة [٩]
فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم تزكية لا يخبر بها ولا يقدر عليها إلا الله، وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي الله عنهم.
قال ابن تيمية رحمه الله (والرضا من الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد أن يوافيه على موجبات الرضا – ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا) [١٠]
يقول الله – عز وجل – { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)} سورة التوبة
والدلالة في هذه الآية ظاهرة، قال ابن تيمية: (فرضيَ عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرضَ عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان) [١١]
يقول الله تبارك وتعالى {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)} سورة الحديد
أي وعد الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح الحسنى ووعد الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح الحسنى [١٢]
يقول الله تبارك وتعالى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)}سورة الحشر
وفي الآيات كلام عن أعمال القلوب أثبته الله لهم [١٣]، فإن كنا فيمن دون الصحابة نستدل بالأعمال الظاهرة على العدالة وعلى نقاء الباطن، ففي شأن الصحابة جاء ثبوت عدالة الباطن من رب العالمين مباشرة وهو وحده تبارك وتعالى العليم بالقلوب وما يدور فيها.

[ثانياً : من السنة :]
عن أبي سعيد، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه) [١٤]
عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل ما يوعدون، وأنا أمنةٌ ٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) [١٥]
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم) [١٦]، وفي رواية أخرى (احفظوني في أصحابي) [١٧]
نستنتج من العرض السابق للآيات والأحاديث في مناقب الصحابة ما يلي:
١- إن الله – عز وجل – زكَّى ظاهرهم وباطنهم.
٢- بسبب توفيق الله – عز وجل – لهم لأعظم خلال الخير ظاهرا وباطناً، أخبرنا أنه رضي عنهم، وتاب عليهم، ووعدهم الحسنى.
٣- وبسبب ما سبق أمرنا بالاستغفار لهم والترضي عليهم وأمر النبي بإكرامهم وحفظ حقوقهم ونهينا عن سبهم وبغضهم.
٤- ومن الطبيعي بعد ذلك أن يكونوا خير القرون، وأماناً لهذه الأمة، ومن ثم يكون اقتداء الأمة فيهم واجباً، بل هو الطريق الوحيد إلى الجنة.
قال ابن عبد البر رحمه الله (أجمع أهل الحق من المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول)[١٨]
وقال ابن حجر رحمه الله (اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة) [١٩]
قال الخطيب البغدادي رحمه الله (على انه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وانهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤن من بعدهم ابد الآبدين هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء) [٢٠]

[ثالثا: العدالة والعصمة]
ومن أسباب وقوع بعض الإشكالات في فهم (عدالة الصحابة) أو حتى عدالة الرواة من بعدهم هو الخلط بين مفهوم العدالة والعصمة، فيستدل المعارض بوقوع بعض الذنوب والأخطاء من الصحابي ليطعن في عدالته، والواقع أن العدالة ليست مساوية للعصمة وإلا لما وصف بالعدالة سوى الأنبياء والمرسلين، ولكن (معنى عدالة الصحابة: ” أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور، وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم، ومما ينبغي أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا – كان ذلك كفارة لهم – وتابوا وحسنت توبتهم، وهم في نفس الوقت قلة نادرة جداً؛ لا ينبغي أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وجانبوا المآثم، والمعاصي ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا، ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى بقوله: “وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية عليهم، وإنما المراد: قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك ولله الحمد! فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح) [٢١]
إذن فاعتبار وقوع الخطأ في الاجتهاد أو وقوع الذنب ناقضا من نواقض العدالة هو في الحقيقة محاولة للإلزام بما لا يلزم وبما لم يدعه أحد من أهل العلم.

[رابعاً: دعوى تحقق شروط الصحبة للمنافقين  ]
إذ يقال تبعا لتعريف الصحابي المعمول به عند أكثر أهل العلم والمذكور عاليا فقد يدخل في ذلك المنافقين الذين أسروا الكفر وأعلنوا الإسلام وبالتالي لا نأمن أن يدسوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، لا سيما أن الصحابة قد يروي بعضهم عن بعض ما لم يسمعوه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم.

والتعليق على ذلك من وجوه:
أولها: ينبني هذا القول على اعتبار خفاء أمر المنافقين تماما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا غير صحيح، فقد كشف الله تعالى أمر المنافقين لرسوله صلى الله عليه وسلم ولصحابته بكشف صفاتهم في القرآن الكريم، كما في سورة التوبة وسورة محمد وسورة النساء وسورة الأحزاب وغيرهم، وقد قال الله تعالى عنهم {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠)} سورة محمد،

وقال تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) } سورة التوبة،

كما جاء في سياق أخبار الصحابة ما يدل على علمهم بهم، ففي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه لما تخلف عن غزوة تبوك قال (فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَطُفْتُ فِيهِمْ ، أحزنني أَنِّى لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ..) [٢٢]، وفيه أيضا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم اعتراف كعب بن مالك بأنه تخلف بلا عذر (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ)، وفي هذا دلالة على إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله لكذب المتخلفين الذين تعللوا بأعذار مختلقة وإن قبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وقال عبد الله بن مسعود عن صلاة الجماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ)[٢٣].

 وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الامة وقد ناشده عمر: أأنا من المنافقين ؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك)[٢٤]

ثانيها: اعتبار أن كل أو جل (من رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأعلنوا الإسلام) كانوا يروون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
وبالتالي فقد يكون بعض المنافقين الأخفياء قد تحولوا إلى رواة أساسيين للسنة النبوية يدسون فيها ما شاءوا دون ضابط، وهذا غير صحيح ومخالف للواقع وسيأتي تفصيل هذه النقطة في الكلام عن ضبط الصحابة.

يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي في الأنوار الكاشفة (وعلى كل حال فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرف أصحابه المنافقين يقيناً أو ظناً أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق، ومما يدل على ذلك، وعلى قلتهم وذلتهم وانقماعهم ونفرة الناس عنهم، أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حراك، ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن ذلك يعرضه لزيادة التهمة ويجر إليه ما يكره، وقد سمي أهل السير والتاريخ جماعة من المنافقين لا يعرف عن أحد منهم أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الذين حدثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم) [٢٥].

[خامسا: الاستدلال بما وقع بين الصحابة من خلاف واقتتال على إسقاط عدالتهم]

أولا: وقوع الاختلاف والفتن بل والاقتتال ليس دليلا – بالضرورة – على فساد الدين والنفوس وقد وصف القرآن الكريم الطائفتين المقتتلتين بالمؤمنين حتى مع وصفه لإحداهما بالبغي { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) } سورة الحجرات، وقد وقع شيئا من هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حادث الإفك وفيه (..فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول فقالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي) فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت)[٢٦] ولم ينف ذلك عمن وقعوا في الأمر صفة الإيمان ولا العدالة واستمر القرآن الكريم في تعديلهم والنبي صلى الله عليه وسلم في الثناء عليهم حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، بل واستمرت أخوتهم ومودتهم بعد زوال الغمة وأسباب الضيق والفتنة.

هذا في العموم، فإذا ما ثبت بالدليل البين عدم تعمد الباطل وإرادته، ووقوع الخلاف بسبب الاجتهاد واختلاط الأمور وصعوبة الموقف على أرض الواقع فهذا أدعى لفك الارتباط غير الضروري بين تلك المقدمة وهذه النتيجة.

ثانيا: التحقيق قبل النظر، ففي هذه الوقعة تحديدا كثر الكذب والخلط، والروايات التي يستدل بها الجازمون على التفسيرات الباطلة والنتائج المخالفة لشهادة القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم لا تثبت وإن انتشرت واشتهرت، وهذا ليس حكما عاطفيا وإنما هو نتاج إعمال آلية علم الحديث في التحقيق والتدقيق في تلك الروايات وهي الآلية المشهود لها بالدقة المتناهية والحيادية المطلقة ، وبالتأكيد ليس هذا موطن بسط هذا ولكن يكفي فيه الإشارة إلى وجوب التحقيق قبل الحكم، ومن النافع في ذلك مطالعة كتب مثل (حقبة من التاريخ) لعثمان الخميس، (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي، (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين) لمحمد أمحزون.

ثالثا: دراسة أثر ذلك في الروايات الحديثية، فإذا كان الاستدلال في النهاية يصب في نقطة قبول روايات الصحابة وردها، فمن باب أولى النظر في مروياتهم (الصحيحة) الثابتة هل ظهر فيها ما يوحي باستخدامهم لمكانتهم من النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوا عليه بادعاء ما يؤيد مواقفهم اللاحقة والانتقاص من مخالفيهم!

والبينة على من أدعى، ومن جميل ما يذكر هنا قول الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في رده على أبي رية عن عدم ثبوت حديث في فضل معاوية رضي الله عنه (ذكر -أي أبي رية – عن أئمة السنة إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، ثم ابن حجر، ما حاصله أنه لم يصح في فضل معاوية حديث، أقول: -أي اليماني – هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضى أن يكون كل ما روي في فضله خاصة مجزوماً بوضعه، وبعد ففي القضية برهان دامغ لما يفتريه أعداء السنة على الصحابة وعلى معاوية وعلى الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث، وعلى أئمة الحديث، وعلى قواعدهم في النقد، أما الصحابة رضي الله عنهم ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن معاوية كان عشرين سنة أميراً على الشام وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمع كثير من الصحابة منهم كثير ممن أسلم ويوم فتح مكة أو بعده وفيهم جماعة من الأعراب وكانت الدواعي إلى التعصب له والتزلف إليه متوفرة فلو كان ثم مساغ لأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أحد لقيه وسمع منه مسلماً لأقدم بعضهم على الكذب في فضل معاوية وجهر بذلك أما أعيان التابعين فينقل ذلك جماعة ممن يوثقهم أئمة السنة فيصح عندهم ضرورة.

فإذا لم يصح خبر واحد ثبت صحة القول بأن الصحابة كلهم عدول في الرواية وأنه لم يكن منهم أحد مهما خفت منزلته وقوي الباعث له محتملاً منه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم
وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ما دام في فضيلة له وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يجده ترغيب ولا ترهيب في حمل أحد منهم على ذلك فقد كان في وسعه أن يحدث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد حدث عدد كبير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضائل لأنفسهم وقبلها منهم الناس ورووها وصحتها أئمة السنة، ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكر في أن الكذب أو يحمل غيره على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مهما اشتدت حاجته إلى ذلك.

ومن تدبر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدل على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث) [٢٧].

ضبط الصحابة

إذا كان الصحابة قد حققوا شرط العدالة لتوافر الأدلة الشرعية على ذلك، فلماذا يجزم لهم بتحقيق شرط الضبط أو لماذا لا يتم التمييز بينهم في شرط الضبط كما يحدث مع من بعدهم من الرواة العدول؟ ومناقشة هذه النقطة فيه عدة أمور.

أولا: الأسباب العامة لقوة ضبط الصحابة [٢٨]
فقد توفر لعموم الصحابة أسبابا متعددة تعينهم على الوصول لدرجة عالية من الضبط في رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مناسب لقدر المسئولية الشرعية الملقاة على عاتقهم إذ سيحملون أمانة نقل الدين الخاتم الذي لن يأتي بعده رسول آخر، والمتأمل في حياة الصحابة وتاريخهم وما ذكره القرآن الكريم عنهم من توثيق وثناء وما جاء في السنة من مثل ذلك يرى قدر تميزهم لا عمن بعدهم فقط ولكن عن أصحاب الأنبياء قبلهم، وهذا من تدبير وحكمة ربنا تبارك وتعالى.

[١- منهجية النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمهم.]
فقد تميزت منهجية النبي صلى الله عليه وسلم في أداء رسالته وتعليم صحابته بأمور تعين الأكثرية على الاستيعاب وعدم النسيان بسهولة، ومن المعلوم بالضرورة في حياتنا أن منهجية المعلم تمثل عاملا أساسيا في قدرة التلميذ على الاستيعاب وصعوبة النسيان، ومن ذلك:
أ‌. تخولهم بالموعظة: فمن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على نفع أصحابه المؤمنين أنه كان ينتقي أوقات نشاطهم للتعليم والتحديث، ويتجنب الإكثار والإطالة وأوقات الكسل والتعب، فيسهل هذا على المستمع الاستيعاب وعدم النسيان أو الشرود، وقد بوب الإمام البخاري بابا في كتاب العلم فقال (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم لكيلا ينفروا) ومما جاء فيه من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) [٢٩].
ب‌. تمهل النبي صلى الله عليه وسلم عند الأداء: فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سريعا في الكلام بصورة يسهل معها فوات بعض الكلام وصعوبة حفظ المستمع له، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في وصف طريقته صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه) [٣٠]، وقد أنكرت رضي الله عنها على أبي هريرة رضي الله عنه سرده للحديث سردا وعللت نقدها بأن هذا لم يكن الأسلوب الذي انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم في الأداء فقالت (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام يبينه، فصل، يحفظه من حفظ إليه)[٣١]، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يملي الكلام إملاء في ذاكرة أصحابه.
ج‌. تكرار العبارة: وهذا كثير في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان يكرر العبارة عدة مرات بقصد الحفظ والفهم وبقصد تأكيد أهمية الموضوع المطروح على سواء، والدليل على أن الهدف لم يكن فقط التأكيد على أهمية الموضوع ولكن أيضا الحرص على تيسير حفظ وفهم الحديث ما ورد في صحيح البخاري عن أنيس بن مالك رضي الله عنه إذ قال عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا) [٣٢].

[٢-  علو إسنادهم.]
فقد كان الصحابة يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم دون واسطة، فمع كون أذهانهم أصفى ممن بعدهم وقدراتهم أعلى منهم، فإن القدر المطلوب حفظه أقل بكثير ممن وجب على من بعدهم حفظه، فالصحابي لا يحفظ سوى متن الحديث فقط وينصب ذهنه كله على استيعابه تلقيا وأداء، أما من لحقهم من الرواة فقد وجب عليهم حفظ المتون وأسانيدها وأسماء رواتها، وقد نجح الكثير من المحدثين والرواة في ضبط هذه المتون وأسانيدها على كثرتها وطولها، فضبط الصحابة للمتون فقط أولى وأيسر بكثير.

[٣- اقتران تحملهم بوقائع ومشاهد حضروها.]
ومن المعلوم بالضرورة في حياة الناس أن ما يسمعه الإنسان سماعا مجردا يختلف عما يسمعه في موقف أو حدث، فما يسمعه الإنسان في المواقف والمشاهد يعلق بالذهن أكثر بكثير مما يسمعه سردا، لذلك يلجأ وينصح المهتمون بالتعليم المتقدم أن تكون الدراسة قدر المستطاع مرتبطة بالتطبيق العملي واختلاق مواقف عملية تعين على ترسيخ المعلومة في ذهن الطالب بخلاف الحفظ والاستظهار المجرد، وهذا النموذج ظاهر متكرر فيما رواه الصحابة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحتى الأحاديث القولية كثيرا ما يذكرون الموقف المصاحب الذي قالها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[٤- اقتران بعض الأحاديث بأمور خارقة حضروها.]
وهذه حالة أخص من السابقة، فإذا كانت المواقف العملية العادية تعين على التذكر والاستيعاب وتصعب النسيان، فكيف بالأحاديث التي تعلقت بوقوع أمر خارق من معجزات ودلائل نبوة رسول الله عليه وسلم، فهذا أدعى لاستقرارها في الصدر وضعف احتمال الوهم والنسيان.

[٥- سيلان أذهانهم وصفاء فطرتهم ]
فبساطة الحياة العربية في ذلك الحين كانت سببا في صفاء الأذهان وسعة الاستيعاب وهو ما كان يظهر في قدراتهم الكبيرة على حفظ آلاف الأبيات من الشعر والأنساب الطويلة المعقدة بل وقدرة الشعراء منهم على ارتجال عشرات ومئات الأبيات الموزونة المحققة لكل القواعد بتلقائية شديدة، فقد كانوا ذوي طبيعة وإمكانيات تجعل مهمة حفظ الحديث أيسر بكثير مما قد يتصور إذا ما نظر في طبيعة وإمكانيات المتأخرين بجانب العوامل الأخيرة المعينة على الحفظ التي تم وسيتم ذكرها.

[٦- التقوى والورع.]
وهنا قد يتطرق إلى الذهن أن أثر التقوى والورع ينصب فقط على جانب العدالة ولا علاقة له بالضبط، ولكن في الحقيقة أن بينهما ارتباط يظهر بوضوح عندما تزداد تلك التقوى وذاك الورع إلى أعلى حد، وهو ما لا يصل إليه بعد الأنبياء والمرسلين مثل الصحابة، إذ أن شدة الورع تدفع إلى تجنب الرواية والتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد الناقل في قلبه يقينا جازما بأنه يتذكر ما يريد تبليغه بوضوح وأنه قادر على تبليغه على وجهه الصحيح، والمتأمل في سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ أن كثيرا منهم كانوا يتجنبون التحديث قدر المستطاع ولا يحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة مثل الاستفتاء أو وقوع موقف أو نازلة يعلم الصحابي فيها كلام أو فعل للنبي صلى الله عليه وسلم [٣٣]، وهذا أيضا في حد ذاته معين على الضبط، فكما أن التلقي مع وجود أحداث ومواقف يعين على الحفظ كما تقدم فإن الأداء مع وجود المواقف التي تستدعي الأداء يزيد من تركيز ودقة المؤدي بخلاف التحديث المطلق كما كان في الأجيال اللاحقة، وسنفصل في نقطة قادمة في أعداد الصحابة المكثرين من الحديث وأعداد أحاديثهم.

[٧- توظيف ما تحملوه من الحديث قولا وعملا.]
فمن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث مثلا في كيفية الصلاة ومقادير الزكاة وأحكام الصيام وفي الأذكار وما يقال في كل حين وفي البيوع والمعاملات والزواج والتربية، وهو يطبق كل هذا العلم بشكل يومي في كل أعماله حتى إذا أحتاج لأن يذكر شيئا منها للناس كما سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ليس كمن سمع كل هذا العلم في محاضرة أو درس وحفظه ثم لم يعمل به ولم يطبقه، فحال الأول أدعى للتذكر والاستيعاب بخلاف الثاني الذي تزداد احتمالات نسيانه، ومما لا شك فيه أن الصحابة كانوا أحرص الناس على العمل بما علموا فازداد رسوخ السنة في أذهانهم، وتقرير هذا الحرص والجزم به ليس عاطفيا وإنما يستنتج من ثناء الله تبارك وتعالى عليهم وتبشيرهم بالجنة ويشاهد بوضوح في سيرهم وتاريخهم، بل ثبت أن هذا كان حال الكثير منهم من القرآن الكريم نفسه إذ لم يكن ينتقل لحفظ عشر آيات جدد إلا بعد أن يعمل ويعي تماما العشر آيات السابقة.

[٨- تثبتهم في رواية الحديث.]
فقد اتخذوا منهجا ربانيا قويما في المحافظة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد تمثل ذلك في شدة احتياطهم عند الرواية حتى قلت أحاديث الكثير منهم، وفي تثبتهم في قبول ما يسمعون، وهذا الحرص والتثبت كان له مظاهر كثيرة في حياة وسلوك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كالسفر لأجل التأكد من حديث واحد، لهذا فقد بوب البخاري في كتاب العلم من صحيحه باب (الخروج في طلب العلم) وعلق الأثر الذي يفيد أن جابر بن عبد الله الأنصاري رحل إلى مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه في حديث واحد، كما رحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر في حديث كما في مسند أحمد، قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (وتتبع ذلك يكثر)، ومن ذلك طلب عمر بن الخطاب البينة أحيانا على الحديث كقصته مع أبي موسى الأشعري في الاستئذان عندما طلب منه شاهدا آخر على هذا الحديث فلما عوتب من أبي بن كعب رضي الله عنه (يا ابن الخطاب لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عمر رضي الله عنه (سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت) [٣٤] فعكس ذلك منهجيته العامة، وورد مثل هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يستحلف الراوي عند تلقي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه (أصول الحديث) (وهذا لا يعني أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أن يرويه راويان فأكثر، أو أن يشهد الناس على الراوي، أو يستحلف، بل كان الصحابة يتثبتون في قبول الأخبار ويتبعون الطريقة التي ترتاح لها ضمائرهم مخافة الخطأ في الرواية وحرصا على الضبط والإتقان حين التحديث).

[٩- عناية بعض الصحابة بأحاديث موضوعات خاصة.]
فقد عرف عن بعض الصحابة شدة الاهتمام بالأحاديث المتعلقة بموضوع معين وهذا بلا شك له دور كبير في زيادة ضبط وحفظ هذا الصحابي لأحاديث هذا الباب لشدة عنايته وتركيزه عليها كأنها تخصص، ومن ذلك مثلا اهتمام عدي بن حاتم رضي الله عنه بأحاديث الصيد لأن بيئته كانت بيئة صيد، وكاهتمام وعناية أبي ذر رضي الله عنه بأحاديث الزهد والرقائق وفضائل الأعمال، وهو موضوع يناسب خلقه وشخصيته، فكانت الأحاديث المتعلقة بهذه الأبواب تشكل معظم رواياته، وكاهتمام حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن والمنافقين، وكاهتمام ابن عباس رضي الله عنهما بالأحاديث المتعلقة بتفسير كتاب الله عز وجل وكأنها ترجمة حقيقية لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بتعلم الكتاب والتأويل، وغير ذلك.

[١٠- مذاكرة الحديث وكتابته.]
فقد كان للصحابة عناية بمذاكرة الحديث وتثبيت ما حملوه وضبط ما سمعوه ولم يكن الأمر متروكا مهملا في الذاكرة دون اهتمام، فقد وردت عنهم آثار تبين حرصهم على مذاكرة الحديث وعنايتهم باستظهاره، ومن ذلك ما قاله أنس رضي الله عنه (كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه)[٣٥] ، وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يجزئ ليله ثلاثة أجزاء، جزء للقرآن وجزء للنوم وجزء يتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) [٣٦] ، ومثل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعلي بن طالب وابن مسعود وأبي سعيد الخدري في التطبيق وتوصية الآخرين بهذه المدارسة والمذاكرة للحديث النبوي الشريف.

كما كان للكتابة دور مُعين على هذا الحفظ والضبط، فلم تكن الكتابة منعدمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن الكثيرون، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال (اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق) [٣٧] ، وقد عرف عبد الله بن عمرو رضي الله عنه بصحيفته الصادقة التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وقال أبو هريرة (ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه وكنت أعيه بقلبي ولا أكتب بيدي واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن له) [٣٨]، وثبتت أيضا الكتابة لأنس بن مالك رضي الله عنه [٣٩].

ثانيا: نظرة أكثر تفصيلا لواقع الرواية عند الصحابة

وبعدما هذه الجولة التي تناولنا فيها الأسباب العامة التي تبين لماذا ضبط الصحابة (إجمالا) أعلى من غيرهم (إجمالا)، وبالتالي فإن تقييمه في المجمل لا يتطلب خوض نفس الخطوات التي تطبق على غيرهم، ننظر الآن نظرة أكثر تفصيلا في واقع رواية الصحابة للحديث النبوي، فإن البعض يظن أن عشرات الألوف ممن أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولقوه ولو مرة وماتوا على الإسلام – وهو التعريف المشهور لمصطلح الصحابي – كلهم أو حتى معظمهم يروون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يظن أيضا أن توثيق ضبط الصحابة تعني توثيق ضبط عشرات الألوف من البشر في آن واحد والمساواة بينهم جميعا في هذا وهو ما يصعب استيعابه، وهو في الحقيقة ليس مقصودا وليس واقعيا، وهو ما سنوضحه في النقاط التالية.

[١- المكثرون في الرواية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:]

قال الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه: (ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثروا الرواية عنه وعمّروا: أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثا، وحمل عنه الثقات) [٣٩].
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب (وقد ألف في الصحابة كتب كثيرة تناولت أحوالهم وعلمهم، وأوجز الآن في عدد من روى عنه – عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ – من الصحابة وعدد مروياتهم، فقد روى عنه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سبعة من الصحابة، لكل منهم أكثر من ألف حديث، وأحد عشر صحابيًا، لكل واحد منهم أكثر من مائتي حديث، وواحد وعشرون صحابيًا، لكل واحد أكثر من مائة حديث، وأما أصحاب العشرات فكثيرون، يقربون من المائة، وأما من له عشرة أحاديث أو أقل من ذلك فهم فوق المائة. وهناك نحو ثلاثمائة صحابي روى كل واحد منهم عن الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حديثًا واحدًا) [٤١]
أخذا في الاعتبار أن هذه الأعداد ليست أعداد المتون ولكن أعداد الأسانيد والطرق المؤدية للمتن، فالمتن الواحد قد يكون له عشرات الأسانيد كلها معدودة ضمن تلك الأعداد الكلية، والمتأمل في هذه الأرقام يدرك أن الظن الذي سبق الإشارة إليه من كون عشرات الآلاف من الصحابة كلهم يروون الحديث النبوي بنفس الدرجة ونفس الكم لا علاقة له بالواقع، فجل السنة النبوية مدار روايتها على عدد غير كبير من الصحابة كلهم معروفون مشهورون، وليسوا مجهولين ممن لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو أكثر قليلا ثم عادوا لقبائلهم وبواديهم كما يتصور البعض، بل ومن أكثر منهم في الرواية فلإكثاره حيثيات معلومة من سيرته وطبيعة علاقته مع النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته له وعمره حين تلقى والسنوات التي أتيح له فيها الأداء – تأخر الوفاة – وطبيعة حياته خلال تلك السنوات من تفرغ للعلم والتحديث بخلاف الكثير من الصحابة بما فيهم الخلفاء الراشدون.

وقد فصل الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه (السنة قبل التدوين) في سيرة كل من السبعة رضي الله عنهم أجمعين، ولكن أكتفي هنا بنقل ما ذكره عن مروياتهم لتعلق هذا بنقطة البحث:
• أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (ت٥٩هجري)، روى الإمام أحمد بن حنبل في ” مسنده ” [٣٨٤٨] حَدِيثًا وفيها مُكَرَّرٌ كثير باللفظ والمعنى، ويصفو له بعد حذف المُكَرَّرٌ خير كثير، وروى له الإمام بقي بن مَخْلَدْ (٢٠١ – ٢٧٦ هـ) في ” مسنده ” [٥٣٧٤] خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حَدِيثًا.
• عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تـ ٧٣هـ)، وتبلغُ جملةُ مروياتِه (٢٦٣٠) ألفَيْ حديثٍ وستمائة وثلاثينَ حديثًا.
• أنس بن مالك رضي الله عنه (تـ 93هـ)، وتبلغُ جملةُ مروياتِه (٢٢٨٦) ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثًا.
• أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها (تـ ٥٨هـ)، وعددُ أحاديثها (٢٢١٠) ألفان ومائتان وعشرة أحاديث.
• عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (تـ ٦٨هـ)، وعددُ أحاديثِه (١٦٦٠) ألف وستمائة وستون حديثًا.
• جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه (ت٨٧هـ)، وعددُ أحاديثِه (١٥٤٠) ألف وخمسمائة وأربعون حديثًا.
• سعد بن مالك بن سنان “أبو سعيد الخدري” الأنصاري رضي الله عنه (تـ ٧٤هـ)، وعددُ أحاديثِه (١١٧٠) ألفٌ ومائةٌ وسبعون حديثًا (٤٢)

[٢- قلة الانفراد: ] ومن المعلوم المفهوم أيضا أن نسبة عدد من الأحاديث إلى صحابي معين لا يعني أنه قد انفرد بها وحده، وبالتالي لا يكون لضبطها مرجع إلا ذاكرته وحده، ولكن هذا العدد يشمل أحاديث رواها غيره من الصحابة ووافقوه فيها، وهذا التكرار والموافقة شاهد ضبط، وكمثال على هذا فإن أكثر الصحابة رواية على الإطلاق وهو أبو هريرة رضي الله عنه والذي يكثر الهجوم عليه ممن يستهدفون تقويض المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بدعوى أن كثرة أحاديثه دلالة إما على الاختلاق أو على عدم الضبط، لم ينفرد بالكثير من الأحاديث مقارنة بالعدد الكبير الذي رواه، يقول الباحث محمد بن علي بن جميل المطري (فإن أكثر الأحاديث الصحيحة الثابتة عن حافظ الصحابة أبي هريرة رضي الله عنه لم يتفرد بروايتها وحده، بل رواها معه غيره من الصحابة الكرام، وقد قال الشيخ المحدث محمد ضياء الرحمن الأعظمي في كتابه “أبو هريرة في ضوء مروياته بشواهدها وحال انفرادها”، وهي رسالة ماجستير: “الأحاديث التي انفرد بها أبو هريرة قليلة جدًّا، لا يتجاوز الصحيح منها مائتين وعشرين حديثًا”، وقال: “هذا ما تبين لي اليوم، ومن الممكن غدًا أن أطَّلع على شواهد لهذه المنفردات أيضًا إن شاء الله”.
وقد قمت في هذا البحث بدراسة الأحاديث التي ذكرها، فبحثي هذا هو مكمل لبحث الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي جزاه الله خيرًا…) [٤٣] ثم قال (بعد هذا التتبع والتحقيق وجدت أن الأحاديث الثابتة الصحيحة والحسنة التي تفرد بها أبو هريرة رضي الله عنه هي نحو ١١٠ أحاديث فقط، والله أعلم، ولا أنسى أن أقول كما قال المحدث الأعظمي في رسالته التي بحثي هذا متمِّمٌ لها: هذا ما تبين لي اليوم، ومن الممكن غدًا أن أطَّلع على شواهد لهذه المنفردات أيضًا أو يجد غيري) [٤٤]، ثم أورد تلك الأحاديث مصنفة على الأبواب الفقهية، فذكر حديثين في العقيدة، وتسعة أحاديث في الأحكام، وأربعين في الفضائل والترغيب والترهيب والآداب، وستة في الجهاد، وثمانية عشر في قصص الأنبياء والأمم السابقة، وعشر أحاديث في الشمائل والسيرة النبوية، وثلاثة خاصة بأبي هريرة ومواقف له مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإحدى عشرة في الفتن وعلامات الساعة، وإحدى عشرة في موضوعات متنوعة.
وهذا مجرد مثال لأكثر الصحابة رواية على الإطلاق.

[٣- مراجعة الصحابة بعضهم لبعض:] وهذا ثابت كثيرا في سيرة الصحابة الكرام – كتعليق السيدة عائشة على حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعا في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه – إذ يراجعون بعضهم بعضا في مروياتهم إذا بدا فيها تعارض، فلم يكن الصحابة يسكتون إذا سمعوا ما قد يتوهم فيه الخطأ، وثبوت المناقشة والإنكار في بعض الأحاديث يعكس الموافقة والقبول في جل الأحاديث الأخرى، وهذا توثيق عملي للضبط يشبه ما يطبقه المحدثون عمليا ونظريا على روايات الأجيال اللاحقة، والعجيب أن وقوع هذه المراجعات يحاول البعض استخدامها كنقطة نقص في حين أنها نقطة قوة، ويشبه ذلك استخدام بعضهم للانتقادات اليسيرة التي ذكرها مثلا الدارقطني على صحيح البخاري كدليل لإسقاط صحيح البخاري في حين أن قلة هذه الانتقادات وطبيعتها في الحقيقة هو ثناء وتوثيق كبير لصحيح البخاري.

[٤- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:] وهذا مما قد لا يحلو للبعض اعتباره دليلا “علميا” إلا أن المؤمن بالله تعالى ربا وبرسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ليؤمن أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي بالعلم والحفظ ليعد حجة جلية يستند إليها في النظر إلى هذا الصحابي وحجية روايته، وقد ثبت دعاءه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس ولأبي هريرة رضي الله عنهم جميعا بالعلم والحفظ والبركة، وكلاهما من السبعة المكثرين، روى البخاري في صحيحه عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ ضَمَّنِى النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ) [٤٥]، وروى أيضا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – دَخَلَ الْخَلاَءَ ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ « مَنْ وَضَعَ هَذَا » . فَأُخْبِرَ فَقَالَ (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّين) [٤٦]، وروى البخاري عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ (ابْسُطْ رِدَاءَكَ) فَبَسَطْتُهُ. قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ (ضُمُّهُ) فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ [٤٧]، وروى عنه أيضا (يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ وَيَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يَتَحَدَّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ إِنَّ إِخْوَانِى مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ وَإِنَّ إِخْوَانِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى مِلْءِ بَطْنِى فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا (أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ حَدِيثِى هَذَا ثُمَّ يَجْمَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ) فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَىَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِى فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِى بِهِ وَلَوْلاَ آيَتَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ فِى كِتَابِهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا أَبَدًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إِلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ [٤٨]، فذكر أبو هريرة هنا تفسيرا علميا عمليا وتفسيرا إيمانيا لقدرته على الحفظ والأداء أكثر من غيره، وقد شهد عموم الصحابة له بذلك وأقروه عليه [٤٩].


المراجع

[١] معرفة أنواع علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح).
[٢] نُزْهَةِ النَّظَر في تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَر في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر، الحافظ ابن حجر العسقلاني.
[٣] المرجع السابق.
[٤] معرفة أنواع علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح).
[٥] أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير.
[٦] الإصابة ١/٧ , وانظر تعريف البخاري (الجامع الصحيح) مع الفتح ٧/٣
[٧] ألفية السيوطي في علم الحديث.
[٨] الكفاية في علم الرواية ص ٩٣-٩٦ , وانظر شرح الواسطية للهراس
[٩] صحيح البخاري: كتاب المغازي – باب غزوة الحديبية – حديث (٤١٥٤)
[١٠] الصارم المسلول ٥٧٢,٥٧٣
[١١] الصارم المسلول ٥٧٢
[١٢] حقبة من التاريخ، عثمان الخميس
[١٣] المرجع السابق
[١٤] رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب محمد
[١٥] صحيح مسلم: (حديث ٢٥٣١)
[١٦] رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم بسند صحيح
[١٧] رواه ابن ماجة ٢/٦٤ وأحمد ١/٨١  والحاكم ١/١١٤
[١٨] الاستيعاب ١/٨٠ 
[١٩] الإصابة (1/17)
[٢٠] الكفاية في علم الرواية
[٢١] عدالة الصحابة رضي الله عنهم ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني
[٢٢] صحيح البخاري (٤٤١٨).
[٢٣] صحيح مسلم (١٥٢٠).
[٢٤] سير أعلام النبلاء، الذهبي.
[٢٥] الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن المعلمي اليماني.
[٢٦] صحيح البخاري (٤٤٧٣)، صحيح مسلم (٢٧٧٠)
[٢٧] الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن المعلمي اليماني.
[٢٨] جل هذه النقطة وما تحتها مستفاد باختصار وتصرف من كتاب (أسباب تفوق الصحابة في ضبط الحديث) للدكتور سلطان سند العكايلة، والدكتور محمد عيد محمود الصاحب، كلية الشريعة، الجامعة الأردنية.
[٢٩] صحيح البخاري (٦٨)، صحيح مسلم (٢٨٢١)
[٣٠] صحيح البخاري (٣٣٧٤)، صحيح مسلم (٧١)
[٣١] أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد حسن واللفظ للترمذي
[٣٢] صحيح البخاري (٩٥)
[٣٣] راجع (الأنوار الكاشفة)، ص٦١، ص١٩٥، طبعة دار عالم الفوائد
[٣٤] صحيح مسلم (٢١٥٤)
[٣٥] الجامع لأخلاق الرواة للخطيب البغدادي
[٣٦] غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير الجزري
[٣٧] أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما
[٣٨] أخرجه أحمد بن حنبل في المسند
[٣٩] صحيح مسلم (٥٤)، المحدث الفاصل للرامهرمزي، تقييد العلم للخطيب البغدادي.
[٤٠] معرفة أنواع علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح)
[٤١] السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب
[٤٢] المرجع السابق
[٤٣] (الأحاديث الصحيحة التي تفرد بروايتها أبو هريرة رضي الله عنه) للباحث محمد بن علي بن جميل المطري، موقع الألوكة.
[٤٤] المرجع السابق
[٤٥] صحيح البخاري (٣٥٤٦)
[٤٦] صحيح البخاري (١٤٣)
[٤٧] صحيح البخاري (١١٩ – ٣٤٤٨)
[٤٨] صحيح البخاري (٢٢٢٣)، صحيح مسلم (٢٤٩٣)
[٤٩] راجع (الأنوار الكاشفة)، ص٢٠٤، وص٢٠٥، طبعة دار عالم الفوائد

الكاتب: معتز عبدالرحمن - سامر سليم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى