تعزيز اليقين

لو وُجِد القرآن في صحراء

إن انكشاف الحق لطالب الحق أمر سهل مُيسر، غير أن للنفوس أمراضاً وأغراضاً : قد تأبى الخضوع: أنفة وكِبْراً، أو جحوداً وعُلواً، حتى إذا ما خلت بنفسها وجدت اضطراباً وقلقاً عن عدم الركون للحق… ولولا: خوف وَصْمَةِ الهزيمة لرأيته منادياً  في خلوته، ومُعلناً في جلوته: أن قد عرفت الحق فرجعت إليه … بيد أن هذا الأمر: يكون صعبًا  إلا على نفوس كان الحق هدفها، والمعرفة اليقينية قصدها، وانكشاف الأخطاء منهجها.

وإن من المتعارف عليه بين الناس: إذا اختلف الجمعان حول قضية ما، ثم سلّم أحد الجمعين: بالصحة لقول الجمع الآخر، وبالخطأ لما كانوا عليه من القول، فالواجب على غير ذوي الاختصاص: السكوت والانصياع لما انتهى البحث إليه، ولنضرب لهذا مثلاً: لو اختلف علماء الأحياء أو الفيزياء حول تفسير ظاهرة كونية، وتباينت آراؤهم واختلفت تفسيراتهم إلى حد التعارض… فعقدوا لأجل ذلك لقاء التناظر والحوار بين جميع المختلفين في الموضوع، وبعد عرض الآراء ومناقشتها، انتهى البحث إلى الاعتراف بتفسير واحد وبطلان التفاسير الأخرى… ثم مضت أزمان، وأجريت تجارب و بحوث من قبل المختصين فلم تزدهم إلا يقيناً بصحة ما انتهي إليه، فهل يعقل أن يأتي شخص لا تربطه بذلك التخصص أي صلة، ولا تجمع بينه وبين قضية البحث أي رابطة – غير أنه أراد أن يتكلم ليسمع الناس صوته – لِنَقْضِ العلماء وذي الاختصاص … إن مصير من سلك هذا الطريق: السخرية والازدراء، والاتهام بالسفاهة الجنون، والإخراج عن دائرة العقلاء.

إذا تقرر هذا واتضح: فإن جميع الدارسين والمختصين في علوم اللغة قد اتحدت كلمتهم على أن جميع لغات العالم ولهجاته: لا تخلوا من قسمين شعر ونثر: وإنك إذا نظرت في القرآن الكريم وتأملت طريقة الكلام فيه، وجدته مخالفاً تمام المخالفة لكلام البشر، فلا هو شعر موزون ولا كلام منثور: فلزم بناء على هذا أن لا يكون من جنس كلام البشر، إذ لو كان كذلك: لما خرج عن النثر أو الشعر، ولكنه ليس كذلك، فلزم ضرورة البحث عن مصدر له من خارج البشر.

وإننا إذاً لو فتحنا هذا الكتاب وقمنا بقراءته : لوجدنا فيه ثلاث حقائق كبرى متعلقة بتحقيق النسبة: لمن تكون؟

  • الحقيقة الأولى: الإعلان أنه من عند الله عز وجل: خالق الكون: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: ٦] وهذا الإقرار لم ينازع فيه أحد منذ نزل هذا القرآن إلى اليوم، وتذكّر أن المنازع ينبغي أن لا يكون من جنس البشر.
  • الحقيقة الثانية: إعلان ناقل القرآن أن ليس له إلا النقل والتبليغ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: ١٥] وهذه القضية لو وجدت قاضيًا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، وذلك أنها ليست من جنس “الدعاوى” فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع “الإقرار” الذي يؤخذ به صاحبه ، وضع بين عينيك هنا: أن المُبلِّغ أميّ: لا يقرأ ولا يكتب، عاش في عصر الجاهلية، شهد الجميع له بالصدق والأمانة.
  • الحقيقة الثالثة: إعلان استحالة قدرة جميع المخلوقات على معارضة القرآن الكريم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨] فأي تحدي تراه ماثلاً أمام عينيك الآن؟ إذ لا يتصور في الذهن: أن عاقلاً من البشر : يُقَدِمُ كلاماً يقع التخاطب به من شعر أو نثر، ثم يتحدى الناس عن مجاراته ومعارضته، لكن القرآن الكريم يثبت هذا بأعلى أنواع التحدي كل ذلك لأن الكلام ليس من جنس كلام البشر من حيث التركيب والوضع وكيفية النظم … فهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع، على صحة نسبة هذا القرآن لله تعالى، حيث تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه ، وذلك وقع رغم توالي القرون والسنين.
    إن الوقوف على هذه الحقائق وحدها تجعلك تجزم:”أن هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد ملقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه”.
    إن التأمل  في القرآن الكريم وحده كاف لمن كانت له بصيرة وذكاء، وتجرد لطلب الحق وإذعان لحججه، وذلك أن هذا الكتاب  لا يتلاءم في أي شيء مع كلام البشر، ولا يشبه شيئاً منها، وتحصيل هذا وتفصيله، والإحاطة به، يحتاج إلى مدارسة وفي كُتب جمّة خاصة ، لكن هذا المقال سيكتفي بمسلكين اثنين:

الأول من داخل القرآن، والثاني من داخل واجد القرآن (القارئ)

  • أولا:

النظر في داخل القرآن (النظم والمحتوى):

أولا
النظم والتركيب:
فطريقة القرآن الكريم مختلفة تمام الاختلاف في عرض وتركيب الكلمات، “فصورة نظمه العجيب وأسلوبه الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، في مقاطع آياته وانتهاء فواصل كلماته.. ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.. ولا استطاع أحد مماثلته في شيء، بل حارت فيه العقول وتحيرت الأحلام..ولم تهتدي إلى مثله في جنس كلام البشر.. من نثر، أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر ، ومن عجائب محاولات المنازعة ما وقع لأبي يوسف الكندي: إذ قيل له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أيامًا كثيرة، ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت لي سورة المائدة فنظرت، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلًا عامًا، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا إلا في أجلاد.

هذا ما يخص النظم، أما المحتوى: فإن في القرآن من المعارف والعلوم ما تضيق عنه الكتب والمجلدات: من تعريف بالله تعالى وصفاته الجليلة، ودعوة الخلق إلى عبادته وإقامة الحجج على ذلك، والرد على كل المخالفين في الاعتقاد بالدلائل القاطعة، وما فيه أيضا من أخبار الأمم المتنوعة، وكأن كاتبه: قد عايش تلك الأمم والشعوب وحضر سلمها وحربها، ثم ما تضمّنه أيضاً من الشرائع والأحكام وما بيّنه من الحلال والحرام وهدى إليه من مصالح الدنيا وأرشد إليه من مكارم الأخلاق : مع الانسجام التام للفطر والعقول، قال الله تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: ٤٩، ٥٠] إضافة  إلى هذا ما فيه من حديث عن الدار الآخرة على جهة تَذْهَلُ العقول أمامها: فكيف يكون إنتاجاً بشرياً؟

  • ثانيا:

لذة القرآن الكريم وانعدام الملل من تَكراره:

هذه اللّذة يجدها كل من قرأ القرآن أو استمع إليه، فإن له صنيعاً بالقلوب وتأثيراً في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً: إذا قرع السمع خلص له إلى القلب: من اللّذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الرغبة والقلق، وتغشاها الخوف والفرق ، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب ، وتميل إليه الأفئدة وتجد من السكينة إليه ما لا تجدها في غيره {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: ٢٣]


والخاتمة
التي نضعها بين يديك خذ نفساً ولو يسيراً من اللغة العربية، ثم تعال إلى القرآن وسوف يخبرك عن يقين أنه الحق الذي {
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: ٤٢] .

الكاتب: رشيد الذاكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى