الوجود الإلهي ومشكلة الشر!
“هي مشكلة المشاكل في جميع العصور، وليس البحث فيها مقصورا على القرن العشرين، ولا نظن أن عصرا من العصور يأتي غدا دون أن تُعرض فيه هذه المشكلة على وجه من الوجوه، وأن يدور فيه السؤال والجواب على محور قديم جديد”([1]) [العقّاد]
- تاريخ الشُّبهة:
منذ آلاف السنين وقضيَّة الشر حاضرة في الفكر الإنساني، ابتداءً بطائفة الشُكّاك الذين جاؤوا بعد أرسطو واعترضوا على الوجود الإلهي بسبب حصول الشر في العالم، مرورا بالفيلسوف اليوناني إيبيقور وأتباعه الذين أنكروا العناية الإلهية للسّبب ذاته، وحتى جاء الاهتمامُ البالغ بأسس هذا الموضوع في الفكر الإسلامي وتناوله بتعمُّق واستقصاء، ثمَّ كان بروز القضيّة في الفكر الغربي تزامنا مع عصر النهضة، ومحاولة علماء كثيرين أن يقدّموا جوابا مقنعا يصلح لتهدئة الناس تجاه هذه القضية التي بدأت تتحول في النفوس إلى “مشكلة” خصوصا مع التَّدْميراتِ التي أحدثها زلزال لشبونة الشهير وما يشابهه من وقائع تأخذ الإنسان بغتة، ثمّ جاءت القاضية باندلاع الحربين العالميتين فاحتلَّت تلك القضيَّةُ مكانةً عُظْمى من الاحتجاج والجدل.
ومع اشتداد الآلام، طفق بعض رجال الدين المسيحي في الغرب يصرّحون بعبارات تدلّ على إدراكهم لعمق المأزق، إذ يقول جون ستون –وهو من رجال اللاهوت-: “إن حقيقة المعاناة تشكل بلا شك التحدي الأعظم الوحيد للإيمان المسيحي، وقد كانت هكذا في كل جيل، إن توزيعها ودرجتها تبدو أنها عشوائية تماما، ومن ثم غير عادلة، فالأرواح الحساسة تتساءل: هل يتوافق ذلك مع عدالة الله ومحبته؟!”([2])
وتسبَّب هذا كلُّه في اعتماد كثير من الناقدين للأديان من الملاحدة والربوبيِّين على مشكلة الشر واستدلالهم بها في موقفهم تجاه الإله، سواء بإنكار وجوده في حالة الملحدين، أو إنكار تدبيره للكون في حالة الربوبيّين.
ومن أبرز الملاحدة المحتجّين بتلك القضية من فلاسفة الغرب وعلمائه المحدَثين: هولباخ الذي اعتبر مظاهر الشرّ الواقعة في الكون مناقضة لاتصاف الإله بالرحمة والعدل، ونيتشه الذي وصف الإله “بالشرّير” للسبب ذاته، وداروين الذي اعتبر الشرور من وسائل التشكيك في وجود الله وعدله.
وكذا كانت قضيَّةُ الشَّرِّ أحدَ الأسباب التي دعت أنتوني فلو، ولي ستروبل إلى الإلحاد قبل رجوعهما إلى الإيمان.
- عرضُ الشُّبهة:
مع اختلاف أساليب الاحتجاج بتلك القضيَّة، فإنَّ طريقة الفيلسوف اليوناني إيبيقور هي الأكثر حضورًا واعتمادًا عند جُلِّ من يتعرَّض لمشكلة الشَّرِّ، وحاصلُها: أنه إذا افترضنا أن الله كلّيُّ الرحمة والقدرة والإرادة كما يقول المؤمنون، فإنَّ الأمرَ لا يخلو من أربعة احتمالات:
- إما أنَّ اللهَ يريد أن يمنع الشر ولا يستطيع.
- وإما أنَّه يستطيع ولا يريد.
- وإما أنَّه لا يستطيع ولا يريد.
- وإما أنَّه يستطيع ويريد.
فإن كان الأوَّل؛ فهو عاجز ليس كلي القدرة فلن يكون إلها، وإن كان الثاني؛ فهو قاسٍ ليس كلي الرحمة فلن يكون إلها كذلك، وإن كان الثالث؛ فهو أشدُّ عجزًا ونقصًا،وإن كان الرابع؛ فليس لوجود الشر في الكون تفسير إلا أنَّ الإله غير موجود([3]).
- مُجمَل الرَّدِّ على الشُّبهة:
يمكن تجليةُ الجوابِ عن مشكلة الشر بإيضاح جملة من الأصول الكلية، تُمهِّد بين يدي الجواب التفصيلي، على النحو التالي:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ سبحانَهُ موصوفٌ أبدًا بالحكمة ولا يَفعلُ شيئًا إلا لغايةٍ حميدةٍ، فالكون مشتمل على أعلى درجات الدّقة والإتقان والجمال، فيستحيل أن يكون ذلك بلا غاية، فجميع أسماء الله وصفاته وآياته المشهودة في الكون تمنع أن يصدر عنه فعل إلا لحكمة بالغة.
الثَّاني: أنَّ البَشَرَ لا يُمْكِنُ أن يحيطوا بكمال الله في علمه وحـكمته، ويستحيل عليهم أن يعلموا بكل مقاصد الله في خلق الكون وأحـداثه، لأنه متصف بكمال العلم وهم متصفون بنقصه، فكماله يمنع ذلك وكذا حكمته سبحانه، بل إن الإنسان لو أطْلَع غيره على جميع شأنه عُدَّ سفيها جاهلا، وشأن الرب أعظم من أن يَطَّلِعَ كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته([4]).
الثالث: حِكمة الله سبحانه منها ما يظهر ومنها ما يخفى، والواجب على الإنسان أن يردّ ما يخفى إلى ما يظهر، فالحِكم الظاهرة من خلق الله كافية في تأسيس اليقين بأن الله تعالى لا يفعل في الكون إلا ما هو خير وصلاح.
الرابع: أن الكمال الإلهي يستوجب تعدد أصناف الموجودات واختلاف طبائعها، فاتصافه بالقدرة يستوجب وجود الخلق، ووجود المتضادات في الكون، واتصافه بالإحسان يستوجب وجود العطاء، واتصافه بالعفو يستوجب وجود المخطئ والمذنب، واتصافه بالعدل يستوجب وجود الظالمين والمظلومين، وكذلك الحال في كل معاني الكمال الإلهي، ومن ثمّ، فإن وجـود الشر الإضافي في الموجودات هو حَدَث لازم في الوجود؛ لأنه بوقوع جنسه تنجلي عدد من الكمالات الإلهية، كالقدرة على خلق المتضادات، وانجلاء معاني الملك والجلال والجبروت وغيرها([5]).
الخامس: أنَّ التكليفَ بالشَّرائعِ التعبُّديَّة قائمٌ على حُرِّيَّةِ الإرادة، ولو جعل اللهُ النَّاسَ كلَّهم مجبرين على أعمالهم لما صحَّ في العقل أن يُكلَّفَ أحد بشيء. واتصاف الإنسان بحرية الاختيار يستلزم وجود الصواب والخطأ، والقدرة على فعل الحسن والقبيح، وهذا يقتضي ضرورة صدور الشر من الإنسان، وحدوثه منه في الواقع، وبذلك يحصل التفاضل بين الناس، ويتحقق التمايز بينهم.
فهذا إجمال للأصول الكلية الناظمة للنظر الصحيح في هذه المشكلة، ونشرع الآن في تفصيل ما أجمل، وتوضيح ما أشكل، وبَسطِ ما اختُصِر.
- مُفصَّل الرَّدِّ على الشُّبهة:
لقد خاضَ النَّاسُ كثيرًا على اختلافِ اختصاصاتهم الفَلْسَفِيَّة والدِّينيَّةِ والمعرِفيَّةِ في هذه القضيَّة، وقدَّموا لها حلولاً بحسب منطلقاتهم الفَلْسَفِيَّة أو الدِّينيَّة، وليس من شأننا أن نستقصي في ذكر ذلك، ولكنَّنا سنذكر ما رأيناه الأضبطَ في تحديد الرُّؤية المستقيمة للقضيَّة انبثاقًا من منهاج أهل السُّنَّة والجماعة في الأصول، وقد وقع المعترضون في أخطاءٍ أبرزها ما يلي:
أولا: سوء تصوُّرهم للكمال الإلهي، فإنهم اختزلوه في صفة الرحمة دون النظر لصفات أخرى كالحكمة والعلم وغيرها من الصفات، ونتيجة لذلك رأوا أن اتصاف الله بالرحمة يلزم منه انتفاء وقوع مظاهر الشر في الكون، ولكن الكمال الإلهي في حقيقته لا يتمّ إلا بتضافر هذه الصفات معاً واستحضارها مجتمعة دون إغفال واحدة منها لما يترتّب عليها من آثار، ولو أنّهم فعلوا ذلك لعلموا أن مظاهر الشرّ قد تقع لحِكم تترتّب عليها لا للشرّ ذاته، فقد يفعل الأب بابنه فعلا ظاهره الشرّ لكنه يفعله حرصا على خير يأتيه بعده أو دفعا لشرّ أعظم وأخطر منه، ولسنا نقصد من هذا المثال المطابقة بين الصورتين ولا تشبيه خلق الشر بفعل الإنسان، ولكن المقصود هو أن وقوع الشر لا يلزم منه انعدام الرحمة، وهي صورة عقلية ضرورية، فمثل المدّعي أن وقوع الشر ينافي الألوهية كمثل من يدّعي أن حرص الوالد على ولده بطريقة تسبب الألم للابن = منافٍ الأبوّة!
وقد يعترض البعض: بأن الإنسان يفعل الشر لأجل الحكمة لأنه ناقص القدرة، لكنّ الله كامل القدرة، ولذلك لا يصحّ في حقِّه هذا الفعل.
وهذا الاعتراض باطل، لأنَّ استنتاجَ أنَّ كامل القدرة لا يخلق ما ظاهره الشرِّ لعدم وجود حكمة من ذلك = يحوي قفزا حكميًّا، فعدم المعرفة بحكمته ليس معرفة بعدمها.
كما أن هذا الاستنتاج قد تمّ بحكمة وعلم ناقصين وهما علم وحكمة الإنسان، وقد علمنا أن حكمة الله كاملة وعلمه كامل تماما ككمال رحمته وقدرته، فكيف يمكن أن نحاكم الكامل بالناقص؟!
ومن ذلك يُعلم: أن الفعل إنما يُحكم عليه بما يتعلق به من اعتبارات وجوديّة، ولا علاقة له -هنا- بتمام قدرة فاعله من نقصها، فإن تعلّقت به اعتبارات صالحة فهو خير، وإن كان شرّا في الظاهر.
فأصل الاعتراض هنا: هو النظر لصفة الرحمة دون تضافرها مع الصفات الأخرى، لا سيما صفتي العلم والحكمة، فهذه المسألة – بل جميع مسائل القدر- ترتبط بصفة الحكمة ارتباطا وثيقا، ولذلك يقول ابن القيّم رحمه الله عن باب القدر: “هو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، والحكمة آخيته (محوره وصلبه) التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها”([6]).
ثانيا: الظنُّ الخاطئ بإمكانيَّة الإحاطة بكمال الله، فالبشر جميعا عاجزون عن ذلك، ويتأكَّد عجزهم في مجال الحكمة والعلم والغايات، لكونه ألصق بالربوبيّة وأدقّ من غيره، قال تعالى: ” عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا“(الجنّ: 26)، وقال: “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا“(طه: 110).
وما أحسن كلام ابن القيّم رحمه الله في هذا الباب إذ يقول: “فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته … ، فإن علوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه، كما يضمحلُّ ضوءُ السِّراجِ الضَّعيفِ في عَيْن الشمس”([7]).
فالمؤمنون يستحضرون العظمة الإلهية من كل جوانبها، في العلم والقدرة والحكمة والجلال والجبروت في تعاملهم مع تلك القضيّة، وأمّا المعـترضون فيغفلون عن هـذه الحقيقة، وكأنهم يعترضون على مخلوق محـدود القدرة والعلم والحـكمة، وكأنه يمكن للبشر أن يحيطوا بعلم الله وحكمته وقدرته.
يقول ابن القيّم مبيّنا شناعة هذا الخطأ: “فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القِحَة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين = عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه، وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك، فسبحان الله رب العالمين! تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون”([8])
وكشف هذين الخطأين يكفي في الجواب عن هذا الاعتراض، ولكننا سنزيد أمورا طلبا لجلاء الصورة:
ثالثا: التصوُّرُ الخاطئ لطبيعة الوجود، فالطبيعة لها لوازمها التي لا يمكن قيامها إلا بها وإذا حدث اضطراب في أحدها سيختلّ نظامها تماما، وستصبح شيئا آخر غير نفسها، ونتيجة لاختلاف أنماط العيش في هذه الحياة، كان حدوث الآلام والأضرار جزءًا مهمًّا منها، فإذا لم توجد بعض الطيور التي تتغذّى على بعض الحشرات لتكاثرت بصورة مرعبة، وفي المقابل إذا تم القضاء على نوع معيّن من الحيوانات المفترسة لاختلّ النظام البيئي، فكذلك إنّ كل أنواع الشرور الموجودة في الكون ما هي إلا مكوّن أساسي في طبيعة الحياة، وهذا هو ما سمّاه الأستاذ عبّاس العقّاد بـ (حلّ التكافل بين أجزاء الوجود) ، يقول في بيانه: “خلاصة الحل الذي نطلق عليه اسم (حل التكافل بين أجزاء الوجود) : أنَّ المعتقدين به يرون أن الشر لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزء متمِّمٌ له أو شرطٌ لازمٌ لتحققه، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشِّدَّة، ولا معنى لفضيلةٍ من الفضائلِ بغيرِ نقيصةٍ تقابلها وترجِعُ عليها”([9]).
فالمعترض على الوجود الإلهي بقضيّة الشر، لا يعترض على وقوع الشر فحسب، وإنما هو في الحقيقة يعترض على طبيعة الوجود بأكمله، وقوانينه ومساره.
ويبرز هذا المعنى قولُ ابن تيمية رحمه الله: “خَلْقُ هذه الطَّبيعةِ بدونِ لوازمها ممتنعٌ، فإنَّ وجودَ الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ، ولو خُلِقَتْ على غير هذا الوجه لكانت غيرَ هذه، ولكانَ عالَمًا آخرَ غيرَ هذا، قال: ومِنَ الأشياء ما تكون ذاتُه مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفكُّ عنه-كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى-، فإذا قيل: لِمَ لَمْ تخلق الحركة المعيَّنة باقية؟ قيل: لأنَّ ذاتَ الحركة تتضمَّن النُّقلةَ من مكان إلى مكان، والتحوُّلَ من حالٍ إلى حالٍ، فإذا قُدِّر ما ليس كذلك لم يكن حركةً”([10]).
فطبيعة الوجود تقتضي أن يكون للشيء جوانبُ نافعةٌ وأخرى ضارَّةٌ، ومن يعترض على وجود الجوانب الضارَّة؛ فإنه يعترض على وجود الشيء كلّه؛ لأن جانبيه لا ينفصلان، فالنار تهدي السائرين وتُنضج الطعام وتُدفئ في البرد، ولكنها تحرق من لمسها أو اقترب منها، وسؤال المعترض هو كسؤال: هلّا تجرّدت النار عن الإحراق؟! وكسؤال: لماذا لا يتصف المخلوق بالعلم والغنى الكاملين؟!([11])، إنها إن تجرّدت عن ذلك فلن تكون نارا، وإنه لو تجرّد عن نقصه وفقره لم يكن مخلوقا، وكذلك العالم الذي نعيشه، فإنه لو تجرّد عن وقوع الشرّ فيه لصار شيئا آخر.
وليس في المصير إلى هذا النوع من الجواب تعلُّقٌ بالمجهول، أو احتجاجٌ بالجهل العَدَمِيِّ، وإنما هو في حقيقته رجوع إلى المحكمات، واحتكام إلى العلم اليقيني، فإن العقلاء يسلمون بأن في قدرة الطبيب الماهر الصادق وعلمه ما يجعله يفعل أمورا لا يعلمون لها حِكمةً ولا فائدةً، ولا يشترطون معرفة الحكمة التفصيلية منها أو إدراكها بالحسّ، ومع ذلك فهم لا يقدحون في علمه وحكمته، فمن باب أولى أن يسلّموا بعلم الله وحكمته.
فإن قيل: إذا كان الله متَّصِفًا بكمال القدرة فلا يمتنع عليه أن يجد طريقة لإظهار مقتضيات حكمته، وترتيب قوانين الكون من غير وجود الشر.
قيل: إن هذا السؤال فضلا عما فيه من خطأ في افتراض وجود الملزوم بغير لازمه الضروري، فإنه ناشئ عن تكبيرٍ وتضخيمٍ للذات الصغيرة الحقيرة، فحقيقته: راجعةٌ إلى أن محدودَ القدرة والعلم يفترض أن هناك طرقًا أخرى لتدبير الكون أكملَ مما وضعه الله، وأنه يمكن له أن يقترح على الله (كامل العلم والقدرة) فعل ذلك، وهذا منافٍ للعقل والمنطق.
رابعا: القصورُ في تصوُّر الشرِّ، فإنَّ كافَّةَ الشُّرورِ الواقعةِ في الدنيا ليست شرورا محضة، وإنما تحوي جوانبَ من الخير قلّت أو كثُرت، فالله تعالى لا يخلق شرا محضا؛ لأن خلق الشر المحض منافٍ للحكمة، وهو نوع من العبث الذي ينزه الله عنه، وكل الشرور التي توجد في الخلق فهي شرور إضافية نسبية([12]).
“فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة، ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟! وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتفلة في بحر؟!وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك؟! وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها، كم تؤذى مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة، وكم تعطش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تشف من مورد، وتحرق من زرع، ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟! فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شرٌّ كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه”([13]).
ويبدو هذا المعنى جليًّا في قصة موسى مع الخضر، فإنه فعل أفعالا ظاهرها الشر، ولم يفهم موسى عليه السلام منها إلا أنها شر محض، ولكن الخضر كشف عن الخير الخفي الذي كان وراء أفعاله، فأثبت له أن أفعاله كانت شرورًا نسبية إضافية، وقد علق الرازي على هذه الحادثة بقوله: “كلُّ ما في العالم من مِحنةٍ وبليَّةٍ وألمٍ ومشقَّةٍ فهو وإنْ كان عذابًا وألمًا في الظَّاهر إلا أنَّه حِكْمَةٌ ورحمةٌ في الحقيقة، وتحقيقُه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثيرٌ”([14]).
خامسا: الخطأ في تقييم الحياة في الدنيا، فإنّ المعترض ينطلق من أن غاية الحياة في الدنيا تنحصر في الظفر بالخير المطلق، الذي لا كدر فيه ولا ضرر، ولكن هذا غير صحيح، فالحياة الدنيا ما هي إلا مَعْبَرٌ إلى الحياة الآخرة التي يحصل فيها الاستقرار الدائم، فالشرور الدنيوية لا تخرج في طبيعتها عما يحصل لأي مسافر في طريقه من المشقة والتعب “وعندما ينجح المؤمنون في التغلب على العقبات التي ملأت طريقهم، وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء، فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}”([15]).
سادسًا: الوقوع في مغالطة القفز الحكمي، فحتى مع التسليم-جدلاً- بثبوت مشكلة الشر، فإنه لا يوجد أي ترابط عقلي أو منطقي بين وجود الشر وعدم وجود الله، وغاية ما تدلُّ عليه هذه المشكلة هو القدح في صفة من صفات الإله -تعالى الله عن ذلك- كما أن هذه المشكلة معارضة بأدلة أقوى منها، فالأدلة على وجود الله أقوى وأظهر من هذا الاعتراض الضعيف، ولا يصح في مناهج الاستدلال أن نترك الدليل القوي في مقابلة الدليل الأضعف.
وهذا يدلُّ على أن استدلال الملاحدة هنا هو استدلال عاطفيٌّ نفسيٌّ وليس قائما على الاستدلال العقلي المجرّد، ومما يؤكد ذلك: أن الملاحدة كثيرا ما يعترضون على الشرور الحسّية الواقعة في الكون ويهملون الشرور المعنوية كالفساد الأخلاقي من كذب وخيانة وجشع وغير ذلك، مع أن مفاسد الشرور المعنوية أعظم وهي قائمة في الكون بفعل الإنسان.
وفي هذا السياق يقول العقّاد: “ليس الشر إذن مشكلة كونية، ولا مشكلة عقلية، إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عصي على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني، الذي يرفض الألم، ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبا على طبائع الأمور”([16])
سابعا: الحُكمُ بالأقلِّ على الأكثر، فالشرُّ وإنْ كان واقعًا في الدنيا إلا أنه لا يغلب الخير الذي فيها، فالأصل في حياة الكائنات هو الاستقامة، والشرُّ طارئٌ عليها، وليس مقبولا في العقل والمنطق أن نحكم على الحياة بالنادر منها وندع الكثير الغالب، يقول ابن القيّم مؤكِّدًا هذا المعنى: “ومن تأمَّلَ هذا الوجود علم أنَّ الخيرَ فيه غالب، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر، ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيرُه غالبٌ لأجل ما يعرِضُ فيه من الشَّرِّ، لفات الخيرُ الغالِبُ، وفواتُ الخيرِ الغالِبِ شرٌّ غالِبٌ”([17]).
ثامنا: الانتقائية غير المنهجية، فالعالم مشحون بالدلائل على حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة وفضله العميم، ولكن المعترضين تغافلوا عن ذلك كلّه وتمسّكوا بأمور قليلة خفيت عنهم الحكمة منها، والمنهج الصَّحِيحُ يقتضي أن يقاس المجهول على المعلوم، وأن يُردَّ المتشابهُ إلى الـمُحْكَمِ وليس العَكْس، فالواجب على من رأى في مشاهد الكون أمورا لم يفهم حكمتها هو إرجاع ذلك إلى ما يراه من مشاهد الإحكام الأخرى، التي هي أكثر في العدد، وأظهر في الدلالة، يقول الزمخشري في ردّ هذا الخطأ الاستدلالي: “وخفاءُ وجهِ الحسنِ علينا لا يَقْدَحُ في حُسنِه-أي في حُسن فعل الله سبحانه- كما لا يَقْدَحُ في حُسْنِ أكثرِ مخلوقاتِه جهلُنا بداعي الحكمة إلى خلقها”([18])، وبهذا يتبيّن فساد هذا الاعتراض وبطلانه.
تاسعا: التناقض المنهجي، فإن كثيرا من أتباع التيار الإلحادي لا يسلّمون بالقيم المطلقة ولا المبادئ الكلّية، ويرون كلَّ شيء نسبيًّا، ومن ثم فلا يصحّ منهم اعتقاد وقوع الشرّ المطلق فضلا عن إنكاره وفق هذه المنطلقات لأنه نقيض الخير، ولهذا قلَب الفيلسوف بيترج ونكريفت الدعوى على أتباع التيار الإلحادي، فإن اعتراض الملحد هنا “معناه أن لديه مفهوما عما يجب أن يكون، وأن هذا المفهوم يقابل شيئا واقعيا، وهذه حقيقة اسمها الخير الأسمى، حسنا.. إنها اسم آخر لله، فإن لم يكن الله موجودا فمن أين جئنا بمعيار الخير الذي يحكم به على الشر بأنه شر؟!”([19]).
فهذه أغلاط تسعةٌ وقع فيها المعترضون على وجود الله وكماله بقضية الشر، ولعلّ الطريقة الصحيحة في التعامل مع هذه القضية قد اتضحت بالمسلكين الإجمالي والتفصيلي،وبذلك ينفضُّ هذا الإشكال، ويزول الضباب عن أعين المتخبِّطين فيه، والله أعلم.