الشبهة:
قول الملحد والعلماني إن خلاف الفقهاء حول الأحكام يدل على أن الشريعة الإسلامية لا تنفع للتطبيق في هذا العصر، كيف الرد على هذه الشُبهة؟؟
الرد:
أولًا:
لا بد ابتداءً أن نؤكد على أصلين مهمين:
1- كمال الشريعة وكونها صالحة لكل زمان ومكان.
2- إلزامية الشريعة وكونها أنزلت لتحكم بين الناس.
والأدلة على هذين الأصلين كثيرة، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دينًا }، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}, وقال {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وبناء على هذين الأصلين، فإنّ دعوى عدم مناسبة الشريعة للعصر هي دعوى منافية للإيمان، فيها تشكيك في حكمة الله تعالى وكمال حكمه, فليس الله جل علاه بغافلا عن مرور زمان كبير بعد الرسالة الخاتمة حاشاه، ولكنه سبحانه أعلم بهذا، وجعلها الشريعة الخاتمة الحاكمة المهيمنة إلى قيام الساعة.
ويمكن مراجعة هذا الرابط لمزيد من الأدلة على هذا
اضغـــط هنـــا
وهذه صوتية تتحدث عن إشكالية التاريخية التى يتحدث عنها البعض ومفادها تعطيل النصوص في زماننا وعصرنا .
لسماعها اضغــــط هنــــا
ثانيًا:
الذي قدّر حصول الخلاف في بعض المسائل الشرعيّة هو الذي أنزل الشريعة ليُتعبَّد بها ويُتحاكَم إليها، والواجب تفهّم هذا الخلاف في إطاره الشرعي الصحيح، وليس الاعتراض على حكم الله فيما قدّره وأمر به، وتوهّم النقص في كمال حكمته سبحانه، بل إنّ وجود مساحة للعفو في الشريعة احتملت فيها الاجتهادات هو من سماحتها، وما دام الخلاف في إطار ما يحتمله الاجتهاد المبني على الأصول الشرعية فهو سائغ، بل هو من محاسن الشريعة ومما يكسب تطبيقها سعة وسهولة، وهو ما نوّع وعمّق الاجتهاد الفقهي ودفع العلماء للتعمّق في الشريعة والوقوف على معانيها وحكمها ومقاصدها العظيمة، وكل ذلك أوجد الثراء الفقهي العظيم.
ثالثًا:
لا يصح إبراز الشريعة على أنها لغز معقّد لا يمكن التعامل معه لكثرة الخلاف فيه كما هو حاصل من التشويه العلماني.
إن ثمة مساحات واسعة من الشريعة هي قطعية لا خلاف فيها، وإن اختلفوا في فروع مندرجة تحتها.
أما الأحكام الشرعية التي وقع فيها الخلاف فقد جاءت الشريعة بمنهجية علمية للتعامل مع هذا الخلاف، وهناك معيارية وآليات لترجيح الأقرب للصواب، وهذا المنهج قائم على الكتاب والسنة والبحث في دلائلهما عبر قواعد عامة ومقاصد كلية توصل لمعرفة مراد الله تعالى، وهو منهج مجمع عليه بين أهل العلم في الجملة، وما يقع بينهم من اختلاف فهو راجع لاختلافهم في تطبيق المنهج لا في المنهج نفسه.
ولمزيد من التوضيح، فإن الأحكام الشرعية لها مراتب:
1- منها ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وهو جملة واسعة من الأصول والثوابت التي لا يُختلف فيها، فلو قُدِّر مخالفة البعض فيها فالواجب رده رأسًا ولا يصح أن يُلتفت إليه.
2- ومنها ما هو مسائل إجماع.
ولا يصح فيها خلاف كذلك، ولا يجوز العدول عنها لرأي أي شخص، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، والخارج عن قولهم متوعد بقول الله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
3- ومنها ما هو مسائل خلاف.
وأكثر مسائل الخلاف لها أسبابها الموضوعية عند أهل العلم، كاختلافهم في العلم بوجود النص، أو العلم بصحته، أو معرفة معناه، أو اختلافهم في تنزيل الحكم على الواقعة، أو غير ذلك.
وهي على نوعين:
– خلاف سائغ: وهو ما كان واقعًا في مسائل الاجتهاد مما لم يرد فيه نص صريح ولا إجماع.
وهذا النوع لا إنكار فيه بشرط سلوك الطرق المعتبرة للترجيح، لا تلمُّس هوى النفس وما يناسب الإنسان.
– خلاف غير سائغ: إما لبعد عن الدليل، أو ضعف في الاستدلال، أو شذوذ في القول.
وهو ما يسمى بـ (زلة العالم) التي يحرم متابعته عليها، ولا يصح العدول عن القول الصحيح الراجح فيه.
رابعًا:
لا تلازم بين وقوع الخلاف في أحكام الشريعة ودعوى عدم مناسبة تطبيق الشريعة، فإن الاختلاف في المضامين التفصيلية التي تترتّب تحت أي مفهوم عام لا يستلزم إلغاءه أو الشك في أصله، وقد طُبّقت هذه الشريعة على مرّ القرون وحكمت الدنيا مع وجود الخلافات الفقهية، بل إنّ الناس اليوم يرجعون في الحكم لمفاهيم يختلفون في ذاتها لا في مجرد المضامين التفصيلية المتفرّعة عنها، فمفهوم الديمقراطية أو الحرية مثلًا نجد فيها مدارس واتجاهات اختلفت كثيرا في تفسيرها، ولم يؤثر ذلك في تبنّي أصحابها لها ومطالبتهم بها، والناس في عموم الحقول المعرفية لا يعلّقون العمل في حقل ما –أيّا كان- بالاتفاق التام على المضامين المعرفية لذلك الحقل.
والحقيقة أنّ المنطلق الذي ينطلق منه منكرو تحكيم الشريعة ليس وجود الخلاف الفقهي فيها، وإلا لكانت القوانين الوضعية أولى بالإنكار، فإن فيها من الخلافات والتناقض في تفسيرها والتبديل والتغيير وفقًا لأهواء البشر ما ليس موجودًا في الأحكام الشرعية، وإنما هم ينطلقون من خلفيات فكرية مصادمة لهيمنة الدين.
خامسًا:
من يدعي عدم مناسبة الأحكام الشرعية لهذا العصر لا يتوقف عند خلاف الفقهاء المعتبر، بل يتجاوزه إلى المعلوم من الدين بالضرورة، ويتجاوزه إلى مسائل الإجماع مثل بعض المحرمات والعقوبات الشرعية.
وللتوسع في معرفة الرد على هذه الشبهة يمكن مراجعة كتاب “سؤالات تحكيم الشريعة” في سؤال “الشريعة الغامضة”، وكذلك كتاب “ينبوع الغواية الفكرية” في مزلق الخلاف.
مقالة: هل اختلاف العلماء رحمة؟ وما الحِكمة من وجوده؟ وأي رأى نتبع عند الخلاف؟
والله أعلم، وصلِّ اللهـــم على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الكاتب: الفريق العلمي لقسم الأحكام الشرعيّة