أصلُ هذا الاعتراض قائمٌ على استحالة انخرامِ السنن الكونيّة، أو النواميس الكونيّة، إذ المعجزة في حقيقتها: أمرٌ خارق لقوانين النظام الكوني.
وليس هذا الاعتراض بجديد، بل كان له وجود في الفكر الإسلامي قبل أكثر من سبعة قرون، إذ ذكره أبو عبد الله الرازي في بعض كتبه (المطالب العالية من العلم الإلهي (8/35-40) , وشرح المواقف في علم الكلام , الجرجاني (8/235-236)).
وهؤلاء المعترضون قد وقعوا في مغالطة شنيعة، هي ما يُسمى: بـ”الانقلاب الإقراري“، ومعنى هذه المغالطة: أن ينكر المرء إمكان حدوث شيء، مع إقراره بإمكان حدوث ما هو أعظم منه في الوجود والحقيقة.
فإحداث المعجزات مهما عظُمت،ليس بأعظم من إحداث الكون، وخرم قوانين الكون ليس بأشد من وضع القوانين ابتداءً!فالذي يقرّ بحدوث الكون من عدمٍ= ملزمٌ ضرورةً بالإقرار بإمكان المعجزات ولا بدّ، يقول شيله ماخر: “إن الإيمان بالمعجزات لا ينفك عن الإيمان بالله”، أي أنّه لازمٌ له، فلا يُتصوّر أنّ عاقلًا يؤمن بالله وبقدرته على خلق الكون، وسَنّ القوانين، ثم لا يؤمن بقدرة الله على خرم هذه القوانين، هذا على افترض أن المعترض مؤمن بالله ابتداءً.
ويقول مصطفى صبري كاشفًا عن الأصول العقلية التي يستند إليها الإيمان بإمكان المعجزات، وعن أساس الغلط عند من ينكر ذلك، فيقول: “نعم، معنى عموم قدرة الله على كل شيء أنه قادر على كل شيء ممكن إمكانًا عقليًّا، لكن نظام هذا الإمكان أوسع بكثير مما يظنه منكرو المعجزات، فيدخل في الممكن كل ما ليس بمحال عقلي، وما هو مستلزم للمحال، كالجمع بين النقيضين، ورفعهما، والدور، والتسلسل”.
ومن عجيب أسباب إنكار بعض منكري المعجزات وحتى النبوّات، هو تصوّرهم باستحالتها وعدم إمكانها، ولو سألتهم ما الإمكان الذي تقيسون عليه؟!
لوجدتهم غفلةً وغيًا يقيسون الإمكان من عدمه بقدرة الإنسان، متناسين قدرة الله الذي لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فهو خالقهما ومن فيهما.
فالله الذي خلق هذا الكون من عدمٍ ودبّر أمره، لا يصعب عليه أن يرسل للناس بشرًا منهم ويوحي إليه، ويُظهر على يديه من خوارق العادات ما شاء، وما المعجزات والنبوات إلامن الدلائل البيّنة على عظيم قدرة الله تبارك وتعالى.
ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد من شرح هذه القضية مبينًا الأصل الذي ينطلق منه المؤمنون بالمعجزات، وكاشفًا عن اتساقهم مع الأصول العقلية، فيقول: “يؤمن المسلم بالنواميس الكونية أشد من إيمان الدعاة إلى تقرير تلك النواميس باسم العلم العصري، أو العلوم التجريبية؛ لأنه يؤمن بأن النواميس سنة الله في خلقه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[فاطر:43]، ولكنه يؤمن كذلك بإمكان المعجزات؛ لأنها ليست أعجب مما هو حادث مشاهد أمام الأبصار والبصائر، وليست هي بمحتاجة إلى القدرة التي نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم، وكل ساعة… فلا يجوز لأحد أن ينكرها لأننا تعودنا فيما علمناه في العصر على الأقل أمورًا كثيرة كانت في تقدير الأقدمين من خوارق العادات، وهي اليوم من الممكنات المتواترات، وما جاز فيما نعلمه يجوز فيما نجهله، وهو أكثر من المعلوم لنا الآن بكثير” التفكير فريضة إسلامية (81).