من الأسئلة التي يُثيرها المبطِلون تشكيكًا في النبوّات سؤال / لماذا توقّفت النبوة ؟ وفيما يلي الجواب :
- أولًا /
هذا السؤال لا يصح أن يصدر ممن ينكر وقوع النبوّات ؛ لأن مضمونه هو الإقرار بوقوع النبوّة في زمن دون زمن ، وهذا ما ينكره الربوبيّ ، فكيف يسأل عن توقّفها وهي – في اعتقاده – لم تقع ؟!
ثم إذا كان يحكم على كل من ادّعى النبوّة بالكذب فهو قد خالف الواقع ؛ لأن الدعوى لم تنقطع حتى اليوم !
فإن قيل / هو يلزمكم بمقالتكم عن ختم النبوة وادّعى أن هذا لا يستقيم مع كمال الخالقِ سبحانه وتعالى .
قلنا / لا يصح للسائل أن يجعلها قادحًا في حكمة الله – تعالى – ؛ لأن عدم العلم بالحكمة ليس علمًا بالعدم ، وتوهُّم تعارضِها مع كمال الخالق أوقعَ السائلَ في مغالطة الحصر الزائف ، فحقيقة قوله إما أن تكون النبوّة مستمرة باستمرار البشر وإما أنها لم تقع ! بينما هناك قسمةٌ ثالثةٌ تجاهَلَها – بقصدٍ أو دون قصد – وهي أنّ النبوّة تحقّقت في الواقع ثم انقطعت لحكمةٍ اقتضتْ ذلك .
أما نحن فقد أثبتنا وقوعَها ثم حكمنا بتوقُّفِها , أي لم نُثبت الشِّقَّ الثاني إلا بعد ثبوت الشقِّ الأول ، وثبوته دلّت عليه الأدلةُ العقليّةُ والأخبارُ المتواترة ، ومن اشترط رؤيةَ النبيِّ ﷺ للتصديق به فهو واهمٌ لعدّة أسباب ، منها :
- ضرورة الخبر كمصدرٍ من مصادر المعرفة ، ولازم التنكُّر له يُفضي – في أقلّ الأحوال – إلى عدمِ ترجيح أي خبرٍ – ممكن عقلًا – مهما كانت غرابته وعدم اتساقه مع الواقع ، وهذا مستحيل ؛ لأن الناسَ مُجمِعون على أنّ ما شاهدوه علِموه بالمشاهدة ، وما غاب عنهم علِموه بالخبر .
- شخصيةُ النبيِّ ﷺ لا يمكن تجاهلها والتوقّف في الحكم عليها ؛ لأن أخبارَه وأحوالَه هي أعظمُ ما توفّرت فيها الدواعي والهمم لنقلها ، وإذا كان الأمرُ كذلك فالموقف الصحيح هو أخذ كلِّ ما ثبت عنه – وفق معايير موضوعية – ومن ذلك أحواله ومعجزاته وغيرها وإلا فقد وقع المستدِل على أمرٍ خلاف واقعه في الانتقاء غير المنهجيّ ، وإنكار المعجزات لعلّة مخالفتها العقل لا يمتُّ إليه بصلة ؛ لأن العقلَ يجعلها في حيِّز الممكنات ، لكونها أهون على الخالقِ من خلق السماوات والأرض وما بينهما !
- ثانيًا /
إذا تبيَّن لكَ أن السؤال لا يصح إلا ممن يُقِرُّ بوقوعها ، فعلى السائل الجادِّ في تطلُّب الجواب أن يُفتّشَ في رسالات الله تعالى ؛ لأنه أعلم بنفسه وبغيره ، والرسلُ أعلمُ الناس به ، كيف لا وهم الذين اصطفاهم واختصّهم برسالاته ؟! .
وهذا المعنى – أعني الرجوعَ للأعلم – يتفق عليه البشر ، مؤمنُهم وكافرُهم ، عربُهم وعجمُهم ، ألا ترى كيف أنّ الناس في شؤونهم الدنيوية يأخذونها عن أهل الاختصاص ، وكلما أشكل عليهم شيء عادوا إليهم ؟!
فالمريض لا يتوجّه لأي أحد طلبًا للعلاج ، وإنما يقصد الأطباء لعلمه أنهم امتازوا عن غيرهم بالدراسة والتدقيق فيما يعرُض لبدن الإنسان من الأسقام والأوجاع .
فإذا كان الحال كذلك في الأشياء المحسوسة لكافة الناس ، كان الحال في تطلُّب حِكم أفعال الله تعالى أشدُّ وأولى .
- ثالثًا /
مثار السؤال هو التصوّر الخاطئ لضرورة النبوّة ، فالقائلون بضرورتها – خصوصاً المسلمين – لا يعنون مجرد وجود النبي ﷺ ، وإنما يعنون تلك العلوم التي جاءوا بها كالتعريف بالخالق على وجه التفصيل ، والغاية من وجودِنا ، ومآلنا بعد الموت إلخ …
يقول أبو الأعلى المودودي :
” ونحن إذا تتبّعنا آي القرآن بُغية أن نعرف الأسباب التي لأجلها ظهرت الحاجة إلى إرسال نبيٍّ في أمةٍ من أمم الأرض ، علمنا أن هذه الأسباب أربعة :
- كانت هذه الأمة ما جاءها من الله نبي من قبل ولا كان لتعاليم نبيٍّ مبعوث في أمة غيرها أن تصل إليها .
- كان قد أرسل إليها نبيٌّ من قبل ولكن كان تعليمه قد انمحى أو لعبت به يد النسيان والتحريف حتى لم يَعُدْ بإمكان الناس أن يتّبعوه اتّباعًا كاملًا صحيحًا.
- كان قد أُرسل إليها نبيٌ من قبل ولكنّ تعاليمَه ما كانت كاملة ولا هدايته كانت شاملة فألحّت الحاجةُ إلى المزيد من الأنبياء لإكمال الدين.
- كان قد أُرسل إليها نبيٌّ ولكن كانت الحاجة تقتضي أن يرسل معه نبيًا آخرَ لتصديقه وتأييده ، والظاهر أن كلَّ سبب من هذه الأسباب الأربعة قد زال بعد النبيِّ ﷺ ، فلا حاجة للأمة الإسلامية ولا لأية أُمةٍ أُخرى في العالم إلى أن يرسَل إليها نبي جديد بعد محمد ﷺ “.
- رابعًا /
إذا علِمتَ أنّ الطريقَ الصحيحَ المُوصلَ إلى إجابة السؤال هو النظرُ فيما أتى به النبيُّون ، فاعلم أن أنبياء الأمم على مرِّ التاريخ لم يدّعِ أحدٌ منهم أنه خاتم النبيّين سِوى محمدٍ ﷺ ، ففي التوراة والإنجيل – آخرِ الكتب السماوية قبل القرآن – البشارات ببعثةِ نبيٍّ آخرَ الزمان ، والأمّتان – اليهود والنصارى – يُقرُّون بهذا ولا ينكرونه ، والنبيُّ المبشَّر به هو محمدٌ ﷺ بمقتضى دِلالة العقلِ والصفات الواردة في كتُبهم ؛ حيث لا تنطبق إلا عليه ، وليس هذا موطنُ التفصيل في ذلك ، وأما القرآنُ الكريمُ فقد صرّح بأن محمدًا ﷺ خاتمُ النبيّين لا نبيَّ بعدَه ، وجَعَل النبيَّ الخاتمَ مبعوثٍ للناس كافةً بعد أن وعدَ بحفظ رسالته عن التحريف والتبديل .
يقول الألوسيُّ – رحمه الله – :
” فكأن محمدًا ﷺ موجودٌ كلّ عصر بين أظهرنا ، والوحيُ غيرُ منقطع منا … يذكّر الناسَ بصحة نبوّته في سائر الأقطار … والشريعةُ المحمديّةُ في عصرٍ من العصور غضّة طريّة تؤتي أُكُلَها كل حينٍ بإذن ربها ، لم يعتريها ما اعترى سائرَ الشرائع ؛ لما اختصت به من الخصائص والأسرار التي أُودعت فيها ، فكما أنّ في زمن حياة نبيِّنا محمدٍ ﷺ وأيامِ بعثته لم تمسّ الحاجةُ إلى إرسال رسولٍ آخرَ ، كذلك في القرون التي بعدَه لا حاجة إلى رسولٍ آخرَ وتشريع شريعةٍ أخرى، فالقرآنُ العظيمُ كلما يُتلى تلاوةً على وجهه كأن السامعَ يسمعُه من رسولِ الله ﷺ ، ففائدة البعثة لم تزلْ موجودةً ثابتةً ، وهي دعوةُ الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى مصالح المعاش والمعاد ، وإعلامُهم بالأمور التي تعجز عنها عقولُهم … ”
الخُلاصة:
ضرورة الوحي لا يُقصد بها مجرّد وجود المُوحَى إليه ، وإنما المقصود هو الوحي ، وقد ثبت وقوعه بدلائلَ قطعيّة، كما أنّ الوحيَ النازلَ محفوظٌ عن التحريف والتبديل، وخطابُه للثقلين في كل زمانٍ ومكان، وبتحقُّق ما سبق انتفتْ حاجةُ الناس لوحيٍ إلهي جديد .