من الشبهات المثارة حول النبي ﷺ زواجُه بصفيةَ بنتِ حُيَيِّ بنِ أخطب ، وللرد عليها لابد من ذكر نقاط مهمة :
الأولى :
من الأخطاء المنهجية عند مثيري الشبهة هو قبولُ الخبر الذي بنى عليه شبهته وردُّ الأخبار التي تنقضها مع أن مصدرهما واحد !
حينها يُسأل : ما المنهجية العلمية في قبولك لهذا الخبر – أقصد خبر الشبهة – ؟
وليس أمامه إلا خياران :
- الاعتماد في القبول والرد على منهجية علمية موضوعية.
- أن يقول: وجدتُّها في كتبكم !
أما الأول: فلن يجد منهجاً أدقَّ وأضبطَ من منهج المحدِّثين في نقد المرويّات ؛ إذ أنهم لا يقبلون الروايةَ إلا بعد تحقق خمسة شروط نذكرها باختصار شديد :
- الأول: اتصالُ السند ، أي أن كل راوٍ من رواته قد أخذَه مباشرةً عمّن فوقه من أول السند إلى منتهاه.
- الثاني: العدالة ، أي أن يكون الراوي غير متّصفٍ بالكذب والفِسْق ، فليس كلُّ مسلم تؤخَذ روايته.
- الثالث: الضبط، أن يكون الراوي ضابطاً للسند والمتن ضبطاً دقيقاً ، فمثلاً لو جاء (مسلمٌ صدوقٌ من عبّاد أهل الأرض) لكنه غير ضابط فلا تُقبل روايته !
- الرابع: أن يكون الحديثُ غيرَ شاذٍ عن رواية الأوثق حتى لو كان الراوي عدلاً ضابطاً !
- الخامس: أن لا تكون فيه علةٌ خفيّةٌ، بمعنى أنه لا يُكتفى في تصحيحه صحة ظاهره (وجود الشروط الأربع السابقة).
فلو روى أحد أئمة المسلمين – فضلاً عن عوامّهم – حديثاً واختلَّ شرطٌ واحدٌ رُدّت روايته حتى لو كانت مدحاً في النبي ﷺ !
بل المحدِّثون ضعَّفوا رواياتٍ هي حجةٌ لنا – لو صحّت – في إبطال هذه الشبهة ، منها :
– قصة اتفاق نفرٍ من كبار بني النَّضِير على قتل النبي ﷺ برمي حجرٍ ضخمٍ على رأسه ! [1]
– حوار حييِّ بنِ أخطبَ مع أخيه أبي ياسر التي رُويت عن ابنته صفية رضي الله عنها حيث ذكرت أن أباها عندما سئل عما في نفسه تجاه محمد ﷺ قال : ( عداوته ما بقيت ). [2]
وهذا يدل على موضوعية المحدِّثين في القبول والرد ، والكلام في هذا يطول ، ومن أراد الاستزادة وترسيخ اليقين فليراجع كتب العلم وشروحه .
أما الخيار الثاني يوقعه في خطأين استدلاليين:
- الأول: انتفاء المعيار العلمي الموضوعي في القبول والرد.
- الثاني انتقاء غير منهجي إذ ما نرد به عليه موجودٌ في نفس الكتب !
وهنا يلزمه أن يقبل كلَّ ما صحَّ من مرويّات المسلمين أو يرد الأخبار التي بنى عليها شبهته وحينها لا يحق له الاعتراض!
الثانية:
حيي بن أخطب سيدُ النَّضِير الذين أجلاهم النبيُّ ﷺ بعدما أجمعوا على الغدر به ، فأرسلوا إلى النبي ﷺ طالبين منه أن يخرج في ثلاثةٍ من أصحابه ليلتقي بثلاثةٍ من علمائهم ، زاعمين أنهم إن آمنوا به اتّبعوه ، ففعل فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر – مع أن النبي ﷺ عاهدَهم على غير ذلك – فأرسلت امراةٌ منهم إلى أخٍ أسلم تخبره بمكرِهِم ، فأخبر أخوها النبيَّ ﷺ قبل أن يصلَ إليهم ، فرجع وصبّحهم بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت إبِلُهم إلا السلاح ، فحملوا معهم حتى أبواب بيوتهم وخرّبوا منازلهم ![3]
وفي هذا النص ردٌ صريح على من زعم أن النبي ﷺ حاربهم وأخرجهم للاستيلاء على ممتلكاتهم لا لأنهم نقضوا العهد إذ لو كان هدفه ما قالوا لما ترك لهم إبلهم والحمْلَ الذي عليها !
بل ما قالوه يتعارض مع ما ورد في الأخبار الصحيحة في تعامل النبيِّ ﷺ مع اليهود !
مثلاً قصة جابر بن عبدالله رضي الله عنه مع اليهودي ، وقصة طعمة بن أبيرق ، وغيرها مما لا يَسعُ المقام ذكره وبسطه .
الثالثة:
من المعلوم أن النبيَّ ﷺ هُجِّر من مكة وآواه أهل المدينة وبايعوه، وتوالت الأحداث وحصل ما حصل مع ناقضي العهود – اليهود – وتم إجلاؤهم إلى خيبر ، ولا زالوا يريدون القضاء على النبيِّ ﷺ فاجتمع الأحزاب بعد أن ألّبهم حيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس متجهين للمدينة بعشرة آلاف محارب من شتى القبائل بقيادة أبي سفيان ، فشاور النبيُّ ﷺ أصحابه فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق فبادر النبيُّ ﷺ وصحابته إلى ذلك وبينما هم خارج المدينة والعدو أمامَهم دخل حيي بن أخطب ليهود بني قريظة واستنقضهم العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ فنقضوه ! فعلِمَ الرسولُ ﷺ والصحابة بذلك ، واشتدَّ خوفهم على نسائهم وذراريهم ، أمامهم العدو وخلفهم الخونة لا يستطيعون الحراك ، ولن تجد أبلغ من وصف الله لحالهم: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجر} [4]
فأتى نصر الله لهم فشتّتَ شملَ الأحزاب ، فعاد النبيُّ ﷺ إلى يهود بني قريظة – خائنيْ العهد – فحكّموا سعيداً ، فأمر بقتل محاربيهم ، فقُتلوا وقُتِلَ معهم حيي بن أخطب وذلك جزاءُ الخونة المرجفين .[5]
الرابعة :
قُتِلَ حيي بن أخطب لتأليبه العرب على النبيِّ ﷺ ولكن بقي كنانة ابن أبي الحقيق وغيره ممن استنهضوا العرب لمحاصرة المدينة ، فتوجه النبيَّ ﷺ بعد الحديبية إلى مكانهم – خيبر – للفتح ، فنزل بين خيبر وقبيلة غطَفان التي كانت من ضمن الذين حاصروا المدينة يومئذٍ ، وبعد سلسلة من فتح الحصون طلبوا من رسول الله ﷺ مصالحته ، فاشترط عليهم أن لايكتموه شيئاً فقبِلوا – فسأل كنانةَ بن أبي الحقيق عن مال رأس الفتنة ابن أخطب – فزعم أنه قد أُنفق ، فدلَّ عمُّ حيي النبيَّ ﷺ على ماله ، فاجتمع على ابن أبي الحقيق خيانة العهد المدني ، وتأليب الأحزاب ، ونقضه للشرط ، فأمر بقتله ، وكانت زوجته صفية بنت حيي بن أخطب .[6]
الخامسة:
شبهة المبطلين حول زواج النبيِّ ﷺ من صفيّةَ رضي الله عنها قائمةٌ على ركنين :
- ظلمها وعدم احترام مشاعرها ، وإرغامها على العيش معه سواءً كانت رقيقة أو زوجة.
- دخوله بها قبل انتهاء العدة.
أما الأول فباطل وذلك يتبين من وجهين :
- الوجه الأول: أقوالها.
- الوجه الثاني : مقتضى حالها.
فمن أقوالها أنها ذكرت ما دار بينها وبين النبيِّ ﷺ بعد اجتماعهما ، وأنها رضيت بحكمه على أبيها وزوجها بعد أن ذكّرها بجرمهما[7] الذي كان نهايته بموتهما ، ولو كان خبر النبي ﷺ مخالف للواقع ما رضيت أبداً !
أما مقتضى الحال فقد خيَّرها مرتين ، وبإجماع المسلمين اختارته.
فالتخيير الأول كان بين الإسلام والزواج به أو العتق واللَّحاق بقومها.
أما الثاني فهو بين البقاء معه أو الانفصال عنه ، دلّ على الأول قول رسول الله ﷺ لها : اختاري ،
فإن اخترتِ الإسلام أمسكتُكِ لنفسي ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك ، فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلامَ وصدَّقت بك قبل أن تدعوني [8]، ودلّ على الثاني قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جميلاً (٢٩) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فلو كان النبيُّ ﷺ كما يزعم المبطلون ما بقيت معه طرفة عين بعد التخيير ، والعجيب أنّي رأيتُ أحدَهم يقول: إقرارها بالبقاء معه كان سببه انعدام أهلها !
وهذا واضح البطلان حيث أن النبيَّ ﷺ صالَحَ قومَها ولم يُجْلِهم [9]، وعيشها بين قومها خيرٌ من العيش معه لو كان ظالماً لها ولقومِها .
بل على فرض انعدام قومها أليس الانفصال عنه والعيش في بيتٍ وحدها – داخل المدينة – خيرٌ من عيشها بين أذرعه على فراشٍ واحد ؟!!
إذ الناسُ لا يجالسون سيءَ الخُلُق فضلاً عن العيش مع من ظلمهم وسَفَكَ دماءهم !
فكان بقاؤها بعد التخيير مع مَن قتل أباها وزوجها مع وجود البديل فيه دلالة على كماله الخلْقي والخُلُقي وحبِّها له وعدله في حكمه على ذويها !
وياليت شعري كيف يكون مثيرُ هذه الشبهة أحرص من صفيةَ على نفسها وأهلها !
أما ركن الشبهة الثاني يردُّه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُ ﷺ خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا … .
رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
( قوله ” حلَّت ” أي : طهرت من الحيض ) [10]
وعند مسلم عن أنس رضي الله عنه: ” ثم دفَعَها – أي صفية – إلى أم سليم تصنعها له وتهيؤها وتعتدّ في بيتها ” .
قال النووي – رحمه الله – :
أما قوله “(تعتدّ ” فمعناه : تستبرىء .. ) [11]
والحمدلله ربِّ العالمين .
[1] انظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم ( ٤٨٦٦ ).
[2] انظر : ما شاع في السيرة ولم يثبت ص١٠٠ .
[3] فقه السيرة النبوية / د. زيد الزيد -بتصرف-
[4] المرجع السابق – بتصرف –
[5] انظر : البداية والنهاية لابن كثير .
[6] انظر : زاد المعاد لابن القيم.
[7] حديث ابن حبان في ” صحيحه ”
( ١١/٦٠٧ ) ، وحسنه الألباني .
[8] الطبقات الكبرى (١٢٣/٨ ).
[9] انظر زاد المعاد لابن القيم : غزوة خيبر .
[10] فتح الباري ( ٤٨٠/٧ ).
[11] شرح مسلم ( ٢٢٢/٩ ).