عرض ونقد

دعوى التعارضِ بينَ الدينِ الحقِّ والعلمِ الماديِّ التجريبيِّ

الحمدُ للهِ وحدهُ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدهُ,

إنَّ ادعاءَ التعارضِ بينَ الدينِ والعلمِ يعتبرُ القاعدةَ الصُّلْبَةَ التي ينطلقُ منها ناقدِي الأديانِ في عصرنَا، فكلمَا تحدثُوا عن مواقفِهِمُ المعاديةِ للدينِ استدلُّوا بأنَّ العلمَ التجريبيَّ أثبتَ خطأَ الدينِ، ويستندونَ في تأييدِ موقفِهِمْ إلى الصراعِ الذي نشأَ في الغربِ بين العلماءِ التجريبيينَ ورجالِ الكنيسةِ في القرنِ السابعِ عشرَ، حيثُ ظهرتِ العديدُ منَ النظرياتِ العلميةِ التي خطَّأتْ تصوراتِ الكنيسةِ عنِ الكونِ والحياةِ، خاصةً نظرياتِ جالِيلْيُو وكِبْلَر في علمِ الفلكِ، وتطوَّرَ الأمرُ إلى أنْ أصبحَ العلمُ الماديُّ في القرنِ التاسعِ عشرَ هوَ الإلهُ الجديدُ، ولُقِّبَ هذا القرنُ بعصرِ عبادةِ العلمِ، وأصبحَ رجالُ العلمِ التجريبيِّ أنبياءَ العقولِ ومنقذِي البشريَّةِ، واعتقدوا أنَّ الأديانَ مجردُ خرافاتٍ وضعهَا بشرٌ ولا علاقةَ لها بخالقِ الكونِ.

 ويَتَّضِحُ منْ هذهِ المقدمةِ أنَّ دعوى التعارضِ بينَ العلمِ والدينِ الإسلاميِّ هيَ دعوى دَخِيلَةٌ على المسلمينَ، حيثُ تلقفَهَا العلمَانِيُّون والملاحدةُ العربُ مُدَّعِينَ أنَّ الإسلامَ لا يختلفُ عنِ المسيحيةِ -التي تعتقدُهَا الكنيسةُ- وغيرِهَا من العقائدِ الوثنيةِ في مناقضةِ العلمِ، ولكنَّ تعميمَ هذا الاعتراضِ على كلِّ الأديانِ والخلطَ بينَ النماذجِ المختلفةِ؛ فكرةٌ باطلةٌ، كما أنهم لمْ يتمكنُوا من إثباتِ ادعائِهِم بمناقضةِ الدينِ الإسلاميِّ للعلمِ التجريبيِّ، علاوةً على شدَّةِ اهتمامِ الدينِ الإسلاميِّ بالعلمِ، كما في قولهِ تعالى في سورةِ العلقِ:” {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)}، ورفْعِهُ لمكانةِ العلماءِ، كما في قولِهِ تعالى في الآيةِ ١٨ منْ سورةِ آلِ عمرانَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ (١٨)}، وقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩)، وقوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١). ففي الآياتِ إشارةٌ واضحةٌ بأنَّ الذين يشهدونَ بالوحدانيةِ المطلقةِ هم اللهُ عزَّ وجلَّ وملائكتُهُ وأولو العلمِ، وفيها دلالةٌ بأنَّ العلماءَ يتميَّزُونَ بعلومهمْ ومعارفهمْ عن الذينَ لا يعلمونَ.

وكما روى أبو أُمَامَة البَاهِلِيُّ: ” ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ ﷺ  رجلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ : فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ : إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ” صحيح الترمذي.

 ويقولُ ﷺ : “منْ سلكَ طريقاً يلتمسُ فيه عِلماً، سَهَّلَ اللهُ لهُ بهِ طريقاً إلى الجنَّةِ” (مسلم). وهذهِ الفضيلةُ لا تختصُّ بطلبِ العلمِ الشرعيِّ فحسبُ، بلْ إنَّها تمتَدُّ إلى كلِّ علمٍ يكونُ للمسلمِ ولغيرِهِ فيهِ نفعٌ في معيشتِه وحياتِه اليوميةِ ما لم يتعارضْ معَ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ.

 دعونَا قبلَ تأكيدِ امتناعِ التعارضِ بينَ الدينِ الحقِّ والعلمِ الماديِّ التجريبيِّ نوضحُ بعضَ المفاهيمِ، مثلَ:

   الوحيُ: والمقصودُ بهِ شرعًا أنَّه إعلامٌ وإخبارٌ منَ اللهِ تعالى لأحدٍ من خلقِهِ بمعاني التشريعِ والدين الذي يريدُ اللهُ من عبادِه في الأرضِ العملَ بهِ، ولكنْ بطريقةٍ سرِّيَّةٍ خفيَّةٍ غيرِ معتادةٍ للبشرِ، ويكونُ على أنواعٍ شتَّى، فمنهُ ما يكونُ مكالمةً بينَ العبدْ وربِّهِ؛ كما كلَّمَ اللهُ موسَى تكليمًا، ومنهُ مَا يكونُ إلهامًا يقذِفُهُ اللهُ في قلبِ مُصطَفَاهُ على وجهٍ من العلمِ الضروريِّ لا يستطيعُ لهُ دفعًا ولا يجدُ فيهِ شكًّا، ومنهُ مَا يكونُ منامًا صادقًا يجيءُ في تحقُّقِهِ ووقوعِهِ كما يجيءُ فَلَقُ الصُّبحِ في تبلُّجِهِ وسطوعهِ، ومنهُ ما يكونُ بواسطةِ أمينِ الوحيِ جبريلَ -عليه السلامُ- وهوَ من أشهرِ أنواعِ الوحيِ وأكثرِهَا، ووحيُ القرآنِ كلُّهُ من هذَا القبيلِ، وهوَ المصطَلَحُ عليهِ بالوحيِ الجليِّ.

وعلى هذا فإنَّ مصدرَ الوحيِ الوحيدِ هوَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- لا أحدَ سواهُ، وهوَ منْ يحدِّدُ طريقتَهُ وطبيعتَهُ، والأنبياءُ من البشرِ ليسوا إلا متلقِينَ للوحيِ فقط، كما قالَ تعالى: {ومَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكلِّمَهُ اللَّهُ إلّا وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإذنِهِ ما يشاءُ} ﴿الشورى: ٥١﴾.

   والوحيُ في الإسلامِ غيرُ مقْتَصِرٍ علَى القرآنِ فقط، بلْ هناكَ عدَّةُ دلائلَ في القرآنِ أنَّ اللهَ أوحَى لنبيِّهِ بأحكامٍ وأخبارٍ أَعَمَّ ممَا ثَبَتَ في نصِّ القرآنِ وهيَ ممَّا بلَّغَهَا من سُنَّتِهِ وعلَّمَهَا لأمتهِ، دلَّ على ذلكَ أكثرُ من آيةٍ، منهَا على سبيلِ المثالِ ما وردَ في الآية ١١٣ من سورةِ النساءِ: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.

 فعَطْفُ الحكمةِ على الكتابِ يُقْصَدُ بهَا عندَ أغلبِ المفسرينَ أنهَا سنَّةُ النبيِّ -ﷺ-، ويُرَجِّحُ ذلكَ القولَ أنهُ ثَبَتَ بالتواتُرِ القطعيِّ تعليمُ النبيِّ لأصحابِهِ كثيرًا من أمورِ الدينِ لمْ تُذكرْ في القرآنِ، كصفةِ الصلواتِ ومواقيتِهَا…إلخ.

كذلكَ ما وردَ في سورةِ القيامةِ: {فإذا قَرأناهُ فاتّبِع قُرآنَه (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)}؛ فثبَتَ أنَّ للقرآنِ بيانًا تكفَّلَ اللهُ تعالى بهِ وجعلَهُ على لسانِ رسولِهِ -ﷺ-.

 كما وردتْ أكثرُ من آيةٍ دلَّتْ على نزولِ الوحيِ على النبيِّ -ﷺ- في مواقفَ معينةٍ بأخبارٍ ليستْ واردةً في القرآنِ، كإخبارِهِ بنزولِ الملائكةِ في غزوةِ بدرٍ، والأمرِ بتحويلِ القبلةِ إلى الكعبةِ، والإذنِ للنبيِّ ﷺ بفتحِ مكةَ، فكلُّهَا أمورٌ لمْ تردْ في القرآنِ إلا بعدَ تنفيذِهَا وتحقُّقِهَا على أرضِ الواقعِ، إذن فليسَ كلُّ ما أُوحيَ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وردَ ذكرُهُ في القرآنِ.

 أمَّا العلومُ التجريبيةُ أو الطبيعيةُ فيقصدُ بهَا: العلومُ التي تهتمُّ بدراسةِ النواحِي الفيزيائيةِ الطبيعيةِ الماديةِ لكافةِ الظواهرِ الموجودةِ على الأرضِ والكونِ المحيطِ بنَا. 

 كما تُستَخدمُ كلمةُ علمٍ تجريبيٍّ كتوجُّهٍ بحثيٍّ يَتَّبِعُ منهجيةً علميةً، نتمكنُ من خلالها منَ التعمقِ في معرفةِ الأشياءِ من حولِنَا، في حينٍ تحاولُ الفلسفةُ الطبيعيةُ والعلومُ الاجتماعيةُ تطبيقَ هذهِ المنهجياتِ العلميةَ على مواضيعَ مختلفةٍ.

 وتُشكِّلُ العلومُ الطبيعيةُ أساسًا للعلومِ التطبيقيةِ؛لذلك كثيرًا ماتُصَنَّفانِ معًا كعلومٍ طبيعيةٍ تتميزُ عن العلومِ الاجتماعيةِ والإنسانياتِ،وعلومِ الغيبياتِ والفنونِ وما إلى ذلك.

 والفارقُ بينَ الوحيِ والعلومِ التجريبيةِ من حيثُ اليقينيةُ واضحٌ وبيِّنٌ،  فمصدرُ الوحيِ هو اللهُ خالقُ هذا الكونِ بكلِّ ما فيهِ من الظواهرِ الطبيعيةِ التي هي موضعُ دراسةِ العلومِ التجريبيةِ التي يجرِيها العلماءُ، فعِلْمُ اللهِ هوَ العِلمُ الشاملُ المحيطُ الذي لا يعتريهِ خطأٌ ولا يشوبهُ نقصٌ, وعِلْمُ الإنسانِ محدودٌ يقبلُ الازديادَ ومعرَّضٌ للخطأ.

 يحاولُ العلمُ الطبيعيُ شرحَ كيفيةِ عملِ العالَمِ والظواهرِ الموجودةِ فيه بعيدًا عن التفسيراتِ الغيبيةِ قدرَ الإمكانِ، وذلكَ عن طريقِ وضعِ نظرياتٍ لسيروراتٍ طبيعيةٍ، وبالتالي ليسَ كلُّ ما يُتَوَصَّلُ إليهِ بالمنهجِ التجريبيِّ يقينيٌّ؛ فالكثيرُ منَ الأمورِ العلميةِ ليستْ حقائقَ علميةً ثابتةً وما هي إلا ظنونٌ علميةٌ لمْ تصلْ إلى درجةِ الحقيقةِ اليقينيةِ، وإنمَا هيَ نظرياتٌ ظنيةٌ قابلةٌ للتغييرِ،ويُصَرِّحُ أصحابُها بأنهم يمكنُ أنْ يَتَخَلَوا عنهَا في يومٍ من الأيامِ .

 قدْ يقولُ قائلٌ: وما الذي يثبتُ أنَّ الوحيَ منَ اللهِ، وليسَ إنتاجًا بشريًا؟

تناولَ هذا السؤالَ علماءُ الإسلامِ المتقدمونَ لأكثرَ من مرةٍ ووضَّحُوا العديدَ من الأدلةِ على ذلكَ، منهَا على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ:

  •  تضمَّنَ الوحيُ معارفَ وعلوماً مستحيلٌ أن يَتَحَصَّلَ عليها الشخصُ بذكاءِهِ أو أن تَنْتُجَ عن حالةٍ نفسيةٍ، مثلُ: تفاصيلُ أخبارِ أممٍ سابقةٍ لم يشهدهَا النبيُّ بنفسِهِ، وكالأسماءِ التفصيليةِ للرجالِ والأممِ والقرَى والقبائلِ، وبعضِ الأرقامِ الحسابيةِ كالأعوامِ التي قضاها أصحابُ الكهفِ في كهفهِم، والأعوامِ التي مكثهَا سيدنَا نوحٌ في قومِهِ.
  • عدمُ تأثُّرِ الوحيِ بحالةِ النبيِّ النفسيةِ أو بطبيعةِ حياتهِ اليوميةِ، وإلا لظهرتْ فيهِ الكثيرُ من الأحداثِ الشخصيةِ المتعلقةِ بذاتِ النبيِّ، لكننَا لا نجدُ أيَّ ذكرٍ لأحداثٍ شخصيةٍ عظيمةٍ كموتِ السيدةِ خديجةَ وعمهِ أبي طالبٍ مثلًا رغمْ شدَّةِ تلكَ الأحداثِ على نفسهِ ﷺ ، بلْ نجدُ اختفاءً لشخصيةِ النبيِّ في القرآنِ، فلا يشيرُ اإليهَا إلا فِي بعضِ المواضعِ ليحكُمَ على نفسِهِ أو يضبِطَ سلوكَهُ.
  •  نزولُ الوحيِ لمْ يكنْ خاضعًا لإرادةِ ورغبةِ النبيِّ، فلا يملِكُ تحديدَ توقيتِ ولا مكانِ نزولِهِ، ولمْ يكنْ الوحيُ ملبيًا لرغباتِهِ وقتَ الاحتياجِ كما حدثَ في حادثةِ الإفكِ حينَ تأخَّرَ نزولُ براءةِ السيدةِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ، وفي عدَّةِ مواقفَ كانَ يتعرَّضُ النبيُّ لأسئلةٍ لمْ يعرفِ إجاباتِهَا في حينِهَا أو وقائعَ لم يعرفِ الحكمَ فيها إلا بنزولِ الوحيِ بعدَهَا.
  • كثرةُ الغيوبِ الصادقةِ التي أخبرنا بهَا بصورةٍ يقينيةٍ والتي تحققتْ بالفعلِ، وكذلكَ تَطَابُقُ مضمونِ الوحيِ معَ حقائقِ الكونِ والعلمِ، ومِنْ أوضحِ الأمثلةِ على ذلكَ: ما وردَ في القرآنِ في قضيةِ تكوينِ الجنينِ ومراحلِهِ، حيثُ وافقَ أحدثُ ما أثبتَهُ العلمُ التجريبيُّ، وكانَ سببًا في إسلامِ بعضِ الأطباءِ الكبارِ المختصينَ بعلومِ الأجنَّةِ.

 هذه بعضُ أدلةِ ثبوتِ الوحيِ إلى اللهِ، وهيَ كثيرةٌ ولا تقتصرُ على موافقةِ مكتشفاتِ العلومِ الطبيعيةِ لهُ، أوإثباتِ العلمِ لمَا تضمَّنَهُ من حقائقَ، فعندما يُرِي اللهُ عبادَه آيةً من آياتِهِ في الآفاقِ أو في النفسِ مصدِّقَةً لآيةٍ في كتابِهِ أو حديثٍ من أحاديثِ رسولِهِ ﷺ، يكتملُ التوافقُ ويستقرُ التفسيرُ بما كُشِفَ من حقائقَ علميةٍ, خاصةً أنَّ نصوصَ الوحيِ قدْ نزلتْ بألفاظٍ جامعةٍ تحيطُ بكلِّ المعانِي الصحيحةِ في مواضِعِهَا التِي قدٍ تَتَتَابَعُ في ظهورِهَا جيلًا بعدَ جيلٍ، وهذا هوَ الإعجازُ.

وبالعودةِ إلى الدعوَى التي يدورُ حولَهَا المقالُ، هل يمكنُ بالفعلِ أن يقعَ التعارضُ بينَ الوحيِ وبينَ العلومِ الطبيعيةِ؟

والجوابُ هوَ: لا يمكنُ حدوثُ ذلكَ؛ فلا يمكنُ أن يتناقضَ الدينُ الصحيحُ معَ العلمِ الصحيحِ، بل يجبُ أن تكونَ مكوناتُ الدينِ متسقَةً معَ الحقائقِ العلميةِ اليقينيةِ ومنسجمةً معَ مقتضياتِهَا، يقولُ ابنُ عثيمينَ: “لا يمكنُ أن يتعارضَ صريحُ القرآنِ معَ الواقعِ أبدًا، وإذا ظهرَ في الواقعِ ما ظاهرها المعارضة فإمَّا أن يكونَ الواقعُ مجردَ دعوى لا حقيقةَ لهَا، وإمَّا أن يكونَ القرآنُ غيرُ صريحٍ في معارضته؛ لأنَّ صريحَ القرآنِ الكريمِ وحقيقةَ الواقعِ كلاهمَا قطعيٌّ، ولا يمكنُ تعارضُ القطعيِّ أبدًا”. (مجموع فتاوى الشيخ محمد العثيمين ٢/٦٨.

 ولذلكَ منَ الأصولِ المعتمدِ عليها في فحصِ صحةِ الأديانِ وأنهَا صادرةٌ عنِ الإلهِ الحقِّ: التوافقُ بينَ مكوناتِ الدينِ والحقائقِ الوجوديةِ، والتحققُ من عدمِ تناقضِ الدينِ مع الحقائقِ الكونيةِ، وإلا يثبتُ بطلانُ الدينِ وعدمُ نزولِهِ من عندِ اللهِ،  أو تحريفِهِ أو تبديلِه من قِبَلِ البشرِ؛ فالحقُّ النازلُ من اللهِ لا يمكنُ أن يكونَ معارضًا لما جعلهُ اللهُ حقيقةً كونيةً ثابتةً، فيمتنعُ اختلافُ الكتابِ المنزَّلِ والوجودِ الحقيقيِّ، ويمتنعُ اختلافُ نصٍ ثابتٍ عن الرسولِ وحقيقةٍ وجوديةٍ، قالَ في ذلكَ ابن تيميةَ: “ما عُلِمَ بالسمعِ الصحيحِ لا يعارضُهُ عقلٌ ولا حسٌّ، وكذلكَ ما عُلِمَ بالحسِّ الصحيحِ لا يُنَاقضهُ خبرٌ ولا معقولٌ“. (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ٤/ ٣٩٥).

 هذا الحكمُ بامتناعِ التعارضِ بينَ الدينِ والعلمِ يقومُ على العديدِ من الأسسِ العلميةِ، من أهمِّهَا:

  • أن كلًّا منَ الدينِ الصحيحِ والحقائقِ الكونيةِ داخلٌ ضمنَ دائرةِ الحقِّ الذي لا يمكنُ أن يقعَ فيهِ التناقضُ، وكلاهمَا من عندِ اللهِ وفعلُهُ، وكلاهمَا موصوفٌ بالحقِّ؛ كما قالَ تعالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الذينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ  بَعيدٍ} ﴿البقرة: ١٧٦﴾، وخلقَ اللهُ الكونَ بالحقِّ، كما قالَ تعالَى: {وَهُوَ الّذي خُلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ}(الأنعام: ٧٣)، فلو أمكنَ التناقضُ بينَ الحقِّ المنزَّلِ والحقِّ الكونِيِّ لأمكنَ اجتماعُ النقيضَينِ، وهوَ أمرٌ محالٌ في العقلِ.
  • أنَّ تحقُّقَ التعارضِ بينَ العلمِ الصحيحِ والنقلِ الصحيحِ مناقضٌ للمقصدِ الأوَّلِيِّ من إنزالِ الكتبِ وإرسالِ الرسلِ؛ وهو هداية  الناسِ وإصلاحُ حالِهِمْ، فكيفَ يخاطبهُم بما يتناقضُ معَ واقعِهِمُ الذي يعلمُونَهُ بالعلمِ اليقينيِّ، ويتناقضُ معَ ما يَشْهَدُونَهُ منَ الحقائقِ الكونيةِ! مِنَ البديهِيِّ أنَّ من يريدُ أن يُصَدِّقَهُ الناسُ ويطيعُوهُ لن يذكُرَ لهمْ ما يُناقِضُ الضرورِيَاتِ الوجوديةَ التي يعيشونَهَا، وإلا يكونُ أبعدَ شيءٍ عن الحكمةِ والعقلِ، واللهُ سبحانهُ متَّصِفٌ بالحكمةِ البالغةِ والعلمِ التامِّ.
  •  أنَّ اللهَ تعالى أمرنَا بالنظرِ في الكونِ والتأملِ فيهِ، كما قالَ تعالَى في سورةِ العنكبوتِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)}.

 فلو كانَ الوحيُ المنزَّلُ يتناقضُ معَ الحقائقِ الكونيةِ فكيفَ يأمرُ اللهُ بتأمُّلِهَا؟!، أليسَت تلكَ دعوةٌ مباشرةٌ لكشفِ ما في الدينِ من خللٍ لو كانَ مناقَضًا للواقعِ!

 ممَّا سبقَ يتضِحُ خطأُ افتراضِ التعارضِ بينَ الوحيِ والعلمِ الطبيعيِّ -إنْ ثَبَتَ أنَّ هذا العلمَ واقعٌ قطعيٌّ وليسَ ظنيًا-، ولو وُجِدَ تعارضٌ بينهمَا فمِنَ المؤكدِ أنهُ سيكونُ ظاهريًا فقط؛ فإمَّا أنْ يكونَ ما نُسِبَ إلى الواقعِ غيرُ صحيحٍ، أو أنَّ ما نُسِبَ إلى الوحيِ غيرُ صحيحٍ.

ويجبُ الأخذُ في الاعتبارِ أنَّ النصوصَ الشرعيةَ من الكتابِ والسنةِ تنقسمُ من حيثُ القطعيةُ والظنيةُ إلى أربعةِ أقسامٍ:

 فهيَ إمَّا قطعيةُ الثبوتِ والدلالةِ، وإمَّا ظنِّيَّةُ الثبوتِ والدلالةِ، وإمَّا قطعيةُ الثبوتِ ظنِّيَّةُ الدلالةِ، وإما ظنِّيَّةُ الثبوتِ قطعيةُ الدلالةِ.

ويرادُ بثبوتِ النصِّ نسبتُهُ إلى مصدرِهِ، ويرادُ بالدلالةِ: مفهومُ النصِّ الدالِّ على الحكمِ المستنبَطِ منُهُ.

 فمنْ حيثُ الثبوتُ نجدُ النصوصَ الثابتةَ بيقينٍ وهيَ القرآنُ الكريمُ بكلِّ آياتِهِ وحروفهِ بما تحملُهُ من ضبطٍ إعرابِيٍّ أو بُنْيَوِيٍّ، وكذلكَ السنةُ النبويةُ الصحيحةُ والحسنةُ، أمَّا النصوصُ ظنيةُ الثبوتِ فهي تختصُّ بالسنةِ النبويةِ غيرِ المتواترَةِ كبعضِ أحاديثِ الآحادِ والمرسَلِ وغيرِهِمَا.

 ومنْ حيثُ الدلالةُ تنقسِمُ النصوصُ إلى قطعيةِ وظنيةِ الدلالةِ، يُوَضِّحُ الفرقَ بينهمَا الشيخُ عبدُ الوهَّابِ خلاَّف رحمهُ اللهُ بقولهِ: “فالنصُّ القطعيُّ الدلالةِ: هوَ ما دلَّ على معنىً متعيَّنٍ فهمُهُ منهُ ولا يحتَمِلُ تأويلاً؛ ولا مجالَ لفهمِ معنىً غيرِه منهُ، مثلُ قولِهِ تعالى في شأنِ الزانِي والزانيةِ: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(النور:٢)، فهذا قطعيُّ الدلالةِ علَى أنَّ حدَّ الزنَا مائةُ جلدةٍ لا أكثرَ ولا أقلَّ، وكذا كلُّ نصٍّ دلَّ على فرضٍ في الإِرْثِ مقدَّرٍ أو حدٍّ في العقوبةِ معيَّنٍ أو نِصَابٍ محدَّدٍ، وأمَّا النصُّ الظنيُّ الدلالةِ: فهوَ ما دلَّ على معنىً ولكن يحتملُ أن يُؤَوَّلَ ويُصرَفَ عن هذا المعنى ويرادُ منهُ معنىً غيرُهُ، مثلُ قولِهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (البقرة/ ٢٢٨)، فلفظُ “القُرْءِ” في اللغةِ العربيةِ مشتَرَكٌ بينَ معنَيَينِ، فيُطلقُ لغةً على الطُّهْرِ وعلى الحيضِ، والنصُّ دلَّ على أنَّ المطلقاتِ يتربصنَ ثلاثةَ قروءٍ، فيحتملُ أنْ يُرادَ ثلاثةَ أطهارٍ، ويحتملُ أنْ يُرادَ ثلاثَ حيضاتٍ، فهوَ ليسَ قطعيَّ الدلالةِ على معنىً واحدٍ من المعنيينِ، ولهذا اختلفَ المجتهدُونَ في أنَّ عدَّةَ المطلقةِ ثلاثُ حيضاتٍ أو ثلاثةُ أطهارٍ”.

  وهكذا يقالُ في نصوصِ السنَّةِ النبويةِ ولا فرقَ، فمنهَا ما هوَ قطعيُّ الدلالةِ، ومنها ما هوَ ظنيُّ الدلالةِ .

 ومنْ أمثلةِ نصوصِ السنَّةِ قطعيةِ الدلالةِ ما رواهُ ابْنُ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ”. رواهُ البخاريُّ (١٥٠٣) ومسلمٌ (٩٨٤).

فدلالةُ النصِّ على فرَضِيَّةِ زكاةِ الفطرِ واضحةٌ في الحديثِ السابقِ المتفقِ عليه، ولهذا لم يختلفْ أحدٌ منَ العلماءِ في فرضيةِ زكاةِ الفطرِ .

 ومنْ أوضحِ أمثلةِ نصوصِ السنةِ ظنيَّةِ الدلالةِ وأشهرِهَا ما رواهُ البخاريُّ (٩٠٤) ومسلمٌ (١٧٧٠) عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما، قال: “عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ انْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَابِ (أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ“.

إذن هناكَ نصوصٌ من الوحيِ قطعيةُ الدلالةِ، كما أنَّ هناكَ حقائِقَ علميةً كونيةً قطعيةً، وفي الوحيِ نصوصٌ ظنيةٌ في دلالتِهَا، وفي العلمِ نظرياتٌ ظنيةٌ في ثبوتِهَا، ولا يمكنُ أن يقعَ صِدَامٌ بينَ قطعيٍّ منَ الوحيِ وقطعيٍّ منَ العلمِ التجريبيِّ، فإنْ وَقَعَ في الظاهرِ فلأنَّ هناكَ خَلَلًا في اعتبارِ قطعيةِ أحدِهِمَا.

   ويمكنُ حصرُ الأحوالِ التي يمكنُ أنْ يفترضَهَا العقلُ في العلاقةِ بينَ الوحيِ/الدينِ والعلمِ الطبيعيِّ:

  1. وقوعُ تعارضٍ بينَ العلمِ القطعيِّ والدينِ القطعيِّ، وسبقَ توضيحُ استحالةِ هذا الأمرِ، وإذا وقعَ التوافقُ بينهمَا كانَ النصُّ دليلًا على صحةِ النظريةِ العلميةِ.
  2. وقوعُ تعارضٍ بينَ العلمِ القطعيِّ والدينِ الظنيِّ، وفي هذهِ الحالةِ يأول النصُّ ظنيُّ الثبوتِ بالعلمِ القطعيِّ ليتوافقَ معهُ، وإذا لم يوجدْ مجالٌ للتوفيقِ بينهما يتِمُّ تقديمُ العلمِ القطعيِّ؛ لأنهُ أقوى في الثبوتِ والدلالةِ.
  3.  وقوعُ تعارضٍ بينَ الدينِ القطعيِ والعلمِ الظنيِّ، وفي هذه الحالةِ يتمُّ تقديمُ الدينِ القطعيِّ؛ لأنَّ النصَّ وحيٌ من الذي أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا.
  4. وقوعُ التعارضِ بينَ الدينِ الظنيِّ والعلمِ الظنيِّ، وهنَا يُبْحَثُ عنِ المُرَجِّحَاتِ، ويتمُّ تقديمُ الدليلِ الذي قَوِيَتْ مرجحاتُهُ.

   إذن التعارضُ بينَ الدينِ والعلمِ لا يتحقَّقُ ولا يُعَابُ بهِ الدينُ إلا إذا كانَ كلاهُمَا قطعيانِ في الثبوتِ والدلالةِ، فإنْ كانَ أحدُهُمَا غيرَ قطعيٍّ في ثبوتِهِ أو في دلالتِهِ، فإنَّ التعارضَ بينهمَا حينئذٍ لا يكونُ معيبًا؛ حيثُ يمكنُ حلُّهُ بالطرقِ العلميةِ المعتدِّ بِهَا.

واللهُ أعلى وأعلمُ، وصلَّى اللهُ على نبيهِ محمدٍ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.


  • المصادر:

  • كتاب ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، للدكتور سلطان العميري.
  • مقال مفهوم الوحي، للدكتور بليل عبد الكريم.
  • كتاب تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين، للدكتور أحمد بن يوسف السيد.
  • مقال من فقه الإعجاز، للدكتور عبد الحفيظ الحداد.
  • مقال النصوص الشرعية بين القطعية والظنية، للدكتور عباس شومان.
  •  موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم ١٧٠٥٨١.

الكاتب: شيماء مجدي

المراجعة: إيمان الحبوباتي-نجوى الخواري

التدقيق اللغوي: إبراهيم محمد

القراءة الصوتية: ندى الأشرم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى