لو جيء بنطفةٍ بل ببصقة – أكرمكم الله – إلى شخصٍ ليس عنده تصور عن كيفية وجود الإنسان في هذه الحياة، ثم قيل له: إن الإنسان الذي تراه بلحمٍ وشحمٍ وعظمٍ، هذا الذي يتكلم ويبطش ويفكر ويغضب ويعمل .. إلخ، قد كان في طَوْره الأول ماءً مهينًا مستحقرًا، شبيهًا بهذا الذي جيء به إليك !
لكان في غاية الاندهاش والتعجّب، وإن كان ممن يخلط بين غير المدرك حساً الممكن عقلاً، وبين ما يدرك العقلُ امتناعه لبادرك بالإنكار والتسفيه.
سذاجةُ هذا الشخص وإنكاره لا تعني عدم وقوعه فضلاً عن عدم إمكانه !
وما حاله إلا كحال من ينكر البعث بعد الموت؛ فإذا كان مستنَد ذاك في إنكاره عدمَ رؤيته لكيفية وجود الإنسان في هذه الحياة، بمعنى أنه احتكم إلى خبرته الحسّيّة، فلمّا لم يسبق له رؤية ذلك طفق إلى إنكاره، فإن المنكرَ للبعث نهَلَ من عين موردِه !
ولو احتكم المنكرُ للبعث إلى حكم العقل لاستحيا من إنكاره؛ إذ أن من قدَرَ على خلق الإنسان من ماءٍ مَهينٍ – وهو يقرُّ بذلك – قادرٌ على إعادة بدنه وبثِّ الحياة فيه من جديد من باب أوْلى.
فالبعث بعد الموت لا يخرج عن أن يكون إما ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع أو واجب الوقوع .
فأما امتناعه فباطل لما قدمت .
وأما الثاني فهو المتعيِّن بملاحظة قدرة الخالق فقط، وكفى العارفُ بهذا حَيْرة إن لم يوجب وقوعَه؛ لأن ما يترتب على عدمه ليس كما يترتب على وجوده، ولو فرضنا أن الإنسان ليس عنده دليلٌ عقليٌّ يتوصل به إلى وجوب وقوعه فإن هذا يعني حاجتَه إلى خبر من الخالق يعيّن مصيره ويزيل حيرته.
فكيف والعقل يجزم بوقوعه؟!
وبيان ذلك – باختصار شديد – أن تستحضر أولاً: وجودَ الأخيار والأشرار في هذه الحياة، ثم تستحضر ثانيًا: تساويهما من حيث العيش الدنيوي، ثم ثالثًا: ما يقتضيه العقل من ثبوت صفة العدل والحكمة للخالق تعالى، وأن التسويةَ بينهما في المآل ظلمٌ يناقض ما عُلم بالعقل ضرورةً.
فتعين وجوب وقوع البعث بعد الموت، وبالتالي يكون مطلوب العقلاء تحقيق ما يحصل به فوزُهم في تلك الدار، ولا معرفةَ لهم بذلك إلا بخبر من الله تعالى يصلُهُم عن طريق أنبياءَ من جنسِهِم، يطبِّقون مرادَ الله، فيقتدي العقلاءُ بهم.
فلا وصولَ إلى فلاح الآخرة إلا بهذا الطريق؛ كيف لا والإنسان كثيرًا ما يفاجأ بخطأ ما ظنه صحيحًا بالأمس؟!
أيأمنُ بعدَ ذلك إصابةَ ما يحقق مصلحته في تلك الدار وهو لا يقطع صواب أعماله في هذه الدار ؟!
كلا وربي ..
الكاتب: مُهَنّدْ بِن جَازِي
القراءة الصوتية: عبدالرحمن محمد