[١] وجود الإرادة الحرة حقيقة لا شك فيها
لنتأمل معًا حال أسير مكبل بالقيود، يحاول القيام فلا يستطيع، ويحاول تحرير يديه فيصطدم بالقيود ملتفة حولها.. كلنا يدرك -كما الأسير- أن تلك القيود تمنعه من ممارسة شيء يتسق مع طبيعته كإنسان عاقل، وتحجزه عن أن يكون إنسانًا طبيعيًا يتحرك كيف شاء.. نعم، إنه يحاول أن ينفذ إرادته، ولكنه مقيد بتلك القيود التي يعلم يقينا أنه لولاها لتحرك وتحرر .. يعلم ذلك يقينا لأنه يدرك أنه إنسان لديه إرادة حرة.
ونحن البشر نتعامل معًا على هذا الأساس:
كل إنسان مسؤول عن تصرفاته لأنه يفعلها بإرادته، ولا يجبره عليها أحد، ولذلك فإننا نكرم المحسن، لعلمنا أنه يحسن بإرادته. وكذلك نعاقب الجاني، ولا نقبل منه ادعاء أن جوارحه تصرفت رغما عنه.. ولولا هذا الأساس الوجودي لاختل نظام الحياة، ولما أُكرم صاحب إحسان، ولا عُوقب مجرم ظالم.
إن الوعي بهذا الإحساس لا يخفى حتى على ذلك الطفل الصغير المعاند، الذي يقطب جبينه، وينكس رأسه، ويصر على ما يريد فعله !
هذه الأمثلة وغيرها تبين أن الإرادة الحرة هي جزء من وعي الإنسان وشعوره بذاته، لأنها تتعلق بذلك الإحساس الفطري، الذي لا يملك عاقل دفعه عن نفسه ولا يمكن له إنكاره .. ذلك هو شعورك أيها الإنسان بأنك حر في تصرفاتك، مختار لأفعالك، تتحرك إذا شئت، وتتكلم إذا أردت، وتأكل وتشرب تبعا لرغبتك..
تحدد أهدافك وفق رؤيتك، وتسعى إلى غاياتك بدافع من نفسك، وتتخذ قراراتك بما يمليه عليك فكرك.. فأنت حي مسؤول ولست بدمية لا إرادة لها ولا اختيار ولا قرار…
ومن هنا كانت الإرادة الحرة ضرورة عزيزة على الإنسان لا يسمح لأحد أن يعتدي عليها.. إنها مكون أساسي من مكونات وجدانه وعاطفته.. وكم مدح الناس -قديما وحديثا- الأبطال، وذموا الجبناء، ورفعوا العظماء.. وليس ما بينهم من التفاوت إلا إرادات وهمم ومقاصد واختيارات.
- حقيقة الإرادة الحرة:
الإرادة هي التي تحرك العزم على إيقاع فعل ما، وهذا يشترك فيه كل الأحياء، ويتميز الإنسان عن الحيوان بقدرته على عدم الانسياق لغرائزه دون بصيرة عقلية، لأنه واعٍ بمخرجات الأمور وملابساتها وعالم بمآلاتها، وله تصورات لما يدفعه إلى الفعل ولما يمنعه عنه، فيختار مما يَعرِض له من البدائل أو الاختيارات الأخرى ما يترجّح لديه حسب غاياته ومقدوراته، فمن يضرب يعلم أن الضرب يؤلم، فلا يُنزله إلا على من أراد تأديبه، كذلك من ينطق بالكلمة يدرك تأثيرها على النفس وأثرها فيها ، فيختار الطيب منها إذا شاء، ويجتنب غيرها.
والإرادة الحرة هي التي يتميز بها حال حضور العقل عن غيابه، ولذا نفرق بين من يمشي واعياً ومن يمشي في نومه.
ومن أهم الشواهد التي توضح حقيقة وجود إرادة حرة لدى الإنسان: أنه يفرق بين الأفعال التي يملك قرارها، وبين الأفعال التي يضطر إليها ولا يملك قرارها؛ فإنه يعلم يقينا الفرق بين نبضات قلبه وتدفق الدم في عروقه دون إرادته، وبين قيامه وقعوده بإرادته، كما يدرك الفرق بين ما يجري عليه قدرا كخلقه ذكرا أو أنثى دون اختيار منه وبين أن يكون إنسانا صالحا أو فاسدا بموجب أفعاله بقصد منه . ومن هنا كان عقد النية على فعل معين من معايير الحكم على هذا الفعل من حيث المدح والذم، ولذلك قال الرسول ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى…»، لأن أفعال الإنسان الاختيارية تعبّر عما انْطَوت عليه نيته وقصده، ولا يكون هذا في الأفعال الاضطرارية .
- لولا الإرادة الحرة!
أول ما يخسره الإنسان إذا تنكر للإرادة الحرة هو ذاته، لأنه بذلك يخالف فطرته، ويغطي عقله، ويتنكر للغاية من وجوده، مما يضع حياته وحياة البشرية في خطر عظيم، بل ويهبط من منزلته العالية التي نالها بتكريم الله عز وجل له وبالاصطفاء بالتكليف والعقل والإرادة الحرة إلى منزلة الجمادات والحيوانات، فالإرادة الحرة لا يتوقف دورها عند حدود الحركة الاختيارية الاعتيادية من سكوت أو كلام أو جلوس أو قيام، وإنما يتعدى ليبلغ مقام التكليف والقدرة على الطاعة والمعصية واتباع الحق أو الباطل. {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}.
فلو كان الإنسان مجبرا على فعله كالآلة، فلماذا يحاسب؟ وما قيمة وجود ما يضبط أفعال الناس حينئذ؟ بل إن إنزال الثواب والعقاب على الناس حينها يكون من أبطل الباطل، وحينئذ تكون حياة الناس فوضى.. لا أمل في إصلاحها أو تحسينها، والقتل والظلم والنهب متوقعاً ومقبولاً في كل حين.
لكن من ينظر نظرة خاطفة من حوله يعلم أن هذا وهم لا يستطيع البشر تحمل تبعاته، ولذلك فإننا نرى المجتمعات تنضبط ضمن نُظُم، ونرى مديري الشركات يلزمون موظفيهم بالقدوم للعمل في ساعاته، ونرى الناس يمدحون المتفوق ويذمون المهمل، ويستحسنون الإنجاز ويبغضون الكسل، ويثنون على الخلوق ويتجنبون البذيء.. كل ذلك لأن حرية إرادة الإنسان سبب في خروج أفعاله إلى حيز الوجود عن قصد واختيار.
[٢] الإرادة الحرة دليل على وجود الله عز وجل
لا يوجد عاقل يسوغ أفعاله الشنيعة بأنها صدرت رغما عنه كما تصدر حركاته الاضطرارية، وإلا كان الإنسان كالحاسوب أو الرجل الآلي .. ومهما أتقنا هذه الآلات المادية الجامدة، فإننا لا يمكن أن نخلق فيها ما هو خارج عن طبيعتها كحرية الإرادة،بل ولا يمكن أن نتصور وجود علاقة بين أجزاء الحاسوب المادية وبين الإرادة الحرة.. فما بالنا لا نعجب للإنسان ومكوناته الجسدية لا تختلف عن سائر الحيوان ولكنه يسمو عليها بهذا المكون الغريب الذي لا علاقة له باللحم ولا بالدم، ولا بالحديد، ولا بغيره من الجماد!
ومالنا ألا نعجب ونتساءل..
ما مصدر الإرادة الحرة !؟
ولنتأمل ونتفكر..
مَن الذي ميز الإنسان بهذه الخصائص وما الغاية والحكمة من هذا التمييز !؟
لا يمكن أن يهبها الإنسان لنفسه .
الإرادة الحرة متجذرة في النفس البشرية لا يمكن للإنسان أن يتجرد منها؛ فهي ليست خيارا “يفعله” إذا شاء، ويعطله متى شاء.. ولما كان الإنسان عاجزا عن ذلك فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هو مصدرا لها، بل يجب أن يكون مصدرها متصفاً بالقدرة، متعاليا عن عجز البشر.
ولا يمكن أن يكون الإنسان مصدرا للإرادة الحرة؛ لأن إرادةَ إحداث هذه الإرادة في النفس يجب أن تسبقها إرادة قبلها، وهذه الأخرى يجب أن تسبقها إرادة غيرها، وهكذا إلى ما لانهاية.. وهذا التسلسل غير المتناهي مستحيل عقلا! ولا بد أن يبتدئ إنشاء هذه الإرادة من له إرادة تتصف بالكمال، فلا يعتريها نقص ولا يسبقها عدم، ولا يتصوّر أن يتّصف بكمال القدرة والإرادة إلاّ من يتّصف بكمال العلم والحكمة .. كلّ ذلك لا يتّصف به إلاّ الله تعالى، الأوّل الذي لم يلد ولم يولد، فهو القدوس السلام المتنزه عن النقص، الغني الذي لم يفتقر ولا يفتقر لغيره أبداً.
ولا يمكن أن يكون مصدرها الدماغ وحده.
فتصوُّر أنّ العقل مجرّد مكونات تشريحيّة ماديّة لا يمكن أن يتّسق مع معنى الإرادة الحرّة، والخلايا العصبية التي تنقل الإشارات الكهربائية والنواقل الكيميائية العصبية، لا تمثّل الوعي بمجرّدها كما سبق في دليل الوعي ، ولا يمكن أن تُتصوّر الإرادة بلا وعي.
بل إننا إذا تأملنا تحركات الإنسان وراقبنا تلك الخطوات المتسلسلة التي تؤدي إلى اختياره لفعله ازداد عجبنا؛ فهي عملية اختيار معقدة، تدخل فيها عوامل عدة؛ فالإنسان يرجح بين ما تمليه غريزته وما يمليه عقله، وقد يراعي عدم إلحاق الضرر بالآخرين بسبب ما يتخذه من قرارات.. وقد يرجح التزاماً بعوامل خارجية، من عرف سائد أو دين متبع.. وفي هذه الخاصيّة يتجلى نور الإيمان عندما يخالف المؤمن كل إرادة تعارض الشرع، وقد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
ولا يمكن أن يكون مصدرها الجينات الوراثية.
وكذلك لا يمكن أن تكون الجينات والوراثة هي مصدر الإرادة؛ لأن اخترال الإرداة الحرة في معلومات وراثية يجعلها غير موجودة حقيقة، وقد أثبتنا في الجزء الأول من المقال وجودها وإدراكنا لهذا بالضرورة، كما أن الإنسان يمكنه اكتساب عادات وتعديل سلوكيات مما يبطل ربط سلوكه وفعله بجينات لا يمكنه الانفكاك عنها، ثم من ركّب الجينات في الإنسان الأول إذاً؟!
ولا يمكن أن يكون مصدرها المادة .
فالمادة جامدة لا حياة فيها ولا وعي ولا إرادة، وفاقد الشيء لا يعطيه، والوعي والإرادة والإدراك وغيرها من مكونات النفس وخصائصها هي معان متجاوزة للمادة التي نعرفها
الإرادة الحرة تدل على الخالق عز وجل وصفاته .
يلزم ضرورة أنّ هذه الإرادة مصدرها متعالٍ عن كلّ نقص، متّصف بكل كمال، جعل هذه الإرادة في النفوس بمشيئته وعلمه وقدرته وحكمته؛ ليجعل للحياة هدفا ساميا وغاية بالغة أرادها سبحانه، وتتجلى عظمة الباري في إبداع هذه النفس وما حَوت، وصنعة الإتقان فيما ظهر منها وما طوت، وما زالت من الأسرار في العلوم الحديثة وإن حاموا حولها، {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالقِينَ}.
وإذا علمنا أن الإرادة الحرة عامّة لكل نفس إنسانية، وأنها ليست خاصة بزمان دون آخر، ولا بقوم دون قوم، وأنها لا تخضع للتفسير المادي المجرّد؛ لأنها خارج نطاق المادة الصمّاء التي لا إرادة لها.. فلا يكون المُودِع لهذه الإرادة إلا مُتعاليا عن المادة، مريدا وقادرا؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، والناقص أنّى له أن يهب الكمال لغيره؟
وبهذا يكون وجودها دليلا على وجود الخالق القادر البديع القدّوس المنزّه عن قصور المادة سبحانه، الذي يريد ويفعل بإرادة وقدرة مطلقتين.
وكذلك يلزم أن يكون خالق هذه الإرادة عليما بنفس الإنسان، وبما يصلح له في كل زمان ومكان، ومن أعلم ممن برأ النّسمة، وخلق الإنسان {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، وهو القائل جلّ مِن قائل: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}..
وكذلك لا يكون إلا حكيمًا؛ لأن هذه الإرادة إنما جُعِلت في مكنون النفس لأجل غاية، قال الحكيم العليم:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}،فالله قد خلق الخلق لعبادته، وجعل الدنيا قنطرة عبور واختبار، ومقتضى حكمته وعدله سبحانه أن جعل لهم الاختيار، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيْمَ}، فيثيب من أطاع برحمته، ويعاقب من عصى بعدله، ويتجاوز تعالى عمّن يشاء بفضله.
وهذه الصفات: الإرادة والقدرة والعلم والحكمة والخلق هي من لوازم الحياة، فلا يكون المتصف بها إلا حيّا، ولله كمال الحيّاة، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وَ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}..
فدّلت الإرادة إذاً على وجود فاطرها المتصف بصفات الكمال والجمال والجلال.. وهكذا نجد أنّ إمعان النظر في النفس ومواردها والتفكر فيها؛ كاف في هداية الناس إلى بارئهم الحق، وصدق عزّ وجلّ:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
⇐ منقول من : صفحة المُيسّر في تعزيز اليقين