أزمةُ الإنسانِ المُتسيِّدِ في استغنائِهِ عن الإلٰهِ
النزعةُ الاستِقلاليَّةُ
“الإنسانُ لَم يَعُدْ خليفَةَ اللهِ فِي أرضِهِ فحَسبُ، بلْ شريكَهُ فِي العلمِ والإبداع[1]ِ” هكذَا يُعَبِّرُ الفيلسوفُ (مارسيلو فيسينو) -أحدُ رُوّادِ المذهبِ الإنسانِيِّ- عن النزعةِ التي تختلُّ شعورَ الإنسانِ الحديثِ فِي استغنائِهِ بالكليةِ عن اللهِ، ويرَى مِن خلالِهَا أنهُ قدْ بلغَ مِن القُدرةِ والعلمِ ما يكفِي لِلتتويجِ إلَى تنظيمِ حياتِهِ بنفسِهِ دونَ نظامٍ متعالٍ عنهُ أو كمَا يُسَمِّيها عبدُ الوَهابِ المسيرِي “تلكَ النزعةُ التِّي تعتقدُ أنَّ الإنسانَ يدورُ في إطارِ المرجعيَّةِ الكامنةِ فِي المادَّةِ، ويعيشُ بالطبيعةِ علَى الطبيعةِ”[2]. والآن بعدَ أنْ أضحَى هذا المتسيِّدُ مركزَ الكوْنِ بظَنِّهِ؛ بإمكانهِ تغيير بعضِ المُعادَلاتِ فيهِ، كالنزاعِ في التشريعِ الإلٰهِيِّ مثلًا وإضفاءِ معاييرَ جديدةً للأخلاقِ والمُعاملاتِ غيرِ التي سنَّها اللهُ لهُ؛ فهل بإمكانِ الإنسانِ تنظيمِ حياتِهِ دونَ إلٰهٍ؟ وما الأزمةُ التي جنَاها الإنسانُ علَى نفسِهِ حينما استغنَىٰ عنِ اللهِ في حياتِهِ؟
المُعادلَةُ المنطِقيَّةُ:
“مركَزيَّةُ اللهُ في الوُجودِ”
فِي كتابِهِ [الإنسانُ ذلكَ المجهولُ] يقولُ ألكسيس كاريل: «الإنسانُ، إنَّهُ لم يَستَطِعْ أنْ يُنظِّمَ دنياهُ بنفسِهِ لأنَّهُ لَا يملكُ معرفةً عمليَّةً بطبيعتِهِ»[3]، “فالعجزُ والمحدُودِيَّةُ التِي مِن قابلياتِ الكائنِ البشَرِيِّ مقدمةٌ للتسليمِ بالقوةِ المتعاليةِ التي تلجأُ إليها البشرية [4]“، وإذا تقررَ هذا فمِنَ المُفتَرضِ علَى الإنسانِ أنْ يُسَلمَ بما شرعهُ اللهُ لَهُ؛ لِمَا تقتضيهِ العلاقةُ العموديةُ بينَهُ وبينَ ربِّهِ، فتكونُ بذلك “النبوةُ لطفٌ إلهيٌّ بالبشرِ؛ لأنَّ الطبيعةَ البشريةَ محدودةٌ وقابلةٌ للانحِرافِ فِي أيَّةِ لحظةٍ بحُكمِ المُيولِ الحيويَّةِ التي هِي من سنخيةِ العضويةِ نفسَها التِي تؤسسُ للحياةِ كمَيلٍ نحوَ البقاء[5]“.
كانت هذه المعادلةُ الطبيعيةُ التي يدورُ حولَها الإنسانُ؛ فهو عاجزٌ محدودُ الإدراكِ، ونفسيَّتُهُ قابلةٌ للانحرافِ؛ مما يجعَلهُ مُفتقرًا لنظامٍ ربانيٍّ يدلُّهُ علَى الطريقِ.
إنَّ الإنسانَ لَيطغَى
رأتْ النظرةُ الحداثيَّةُ الإنسانَ علَى غيرِ الصورةِ السابقةِ، وتعتقدُ بأنَّ هذا الأخيرَ بلغَ درجةً عاليةً مِن الرشدِ والعلمِ والإدراكِ؛ ليُشَرِّعَ لنفسهِ نظامَ حياتِه دونَ تدخلِ الله في ذلكَ، وما التصورُ الدينيُّ لهُ إلَّا تبخيسًا لقيمتِه. وخاصةً بعدَ عملٍ لسنينَ للسيطرةِ على الطبيعةِ، ثم ما يليهِ للسيطرةِ على بنيهِ البشرِ، وقدْ أمسَى الدينُ نظامًا ميتًا ينبغِي تجاوزُهُ. وفقَ هذَا التصورِ يبدُو أنَّ الإنسانَ المتسيِّدَ الجديدَ ليسَ الأَوَّلَ مِن نَوعِهِ فِي التاريخِ البشرِيِّ، فلوْ أعَدْنا النظرَ قليلًا في الكتابِ المُقَدسِ ومَا وردَ فيهِ مِن أخبارِ الأُممِ الماضيةِ؛ نجِد أنّ هذا النموذجَ للإنسانِ الطاغِي قد جسّدَهُ الرجلُ الفرعونيُّ القديمُ، وعليهِ فإنَّ طُغيانَ الإنسانِ واستغناءَهُ عن اللهِ يتكررُ ظهورُهُ عبرَ التاريخِ كلمَا شعُرَ بالاقتدارِ وتلاشَى شعورُهُ بالافتِقارِ: فذاكَ الفرعونيُّ قدْ رأَى أنَّ الأنهارَ تجرِي من تحتِهِ، القصورَ تُبنَى بأمرِهِ، الشعوبَ تُساقُ بنظامِهِ، لا أحدَ يعلُو علَى حكمهِ وكلَّ شيءٍ تحتَ سُلطتِهِ، والآنَ وبِهذا الجَبروتِ والنفُوذِ لم يبقَ لَهُ سوَى أنْ يضيفَ لمستَهُ الأخيرةَ لإتمامِ مراسيمِ اعتلائِهِ علَى عرشِ الكونِ، وهو أنْ يعلنَ أنَّهُ إلهٌ، وهُو الشيءُ ذاتُهُ الذِي يسعَى لإعلانِهِ الإنسانُ الحداثيُّ.
تغيِيرُ المعادلةِ: “مركَزيَّةُ الإنسانِ”
رُبمَا لم يُقدِمْ الإنسانُ الطاغِي حديثًا والإنسانُ الفرعونيُّ قديمًا علَى خطوةٍ جريئةٍ بإعلانِهِما آلِهتا عَصرَيْهِما، وتنحِيَةِ إلٰهِ الدينِ جانبًا إلا بذهولِ عقلَيْهما بمَا آلتْ إليهِ حضارتُهُما المادِيّةُ من قوةٍ، وسلطَتُهُما من نفوذٍ؛ وبذلكَ قد استحقَّا التتويجَ لتنظيمِ العلاقاتِ العامّةِ بين البَشريةِ وسنِّ قوانينَ جَدِيدَة من الإنسانِ وعلى الإنسانِ دونَ التفريقِ بينَهم علَى أساسِ الاعتقادِ باللهِ، الخياراتُ الشخصيةُ التي تلازمُ ذلك. وأضحتْ حقوقُ الإنسانِ تُعطَى لكونِهِ إنسانًا علَى عكسِ الأديانِ التي تُفرِّقُ بينهُم، حتَّى بينَ ذوِي النسبِ علَى أساسِ الكفرِ والإيمانِ.
السقوطُ من احتلالِ عرشِ التسيّدِ
بعدمَا اعتلَى إنسانُ الحَداثةِ عرشَ تدبيرِ الكونِ وشؤونِ الناسِ؛ رأَى أنَّ مِن أَسوَإِ ما صنعَهُ الدينُ في التاريخِ البشريِّ حينمَا فرَّقَ بينَ الجنسِ الإنسانيِّ حولَ اعتقاداتِهم في اللهِ، وهوَ أمرٌ ينبغِي تبديدُهُ بالكليةِ، وقدْ آنَ الأوانُ نعيشَ تحتَ رحمةِ المذهبِ الإنسانُويِ ، وهذَا المذهبُ في حقيقتِهِ علَى ما يحملُهُ مِن زخرُفِ القولِ غير أنَّهُ في الأصلِ أزاحَ اللهَ خالقَ الكونِ واستبدلَهُ بِأربابٍ متفرقةٍ، بلِ المعضلةُ الحقيقيةُ في تسيُّدِ الإنسانِ علَى الكونِ هُوَ تحديدُ المصدرِ الذِي يَستَمدُّ منه قيمتَهُ، فَدونَ أرضيةٍ دينِيَّةٍ يَستندُ إليهَا يُصبحُ كوْمَةً من الغُبارِ الكونِيِّ يتساوَى فيهِ معَ باقِي الكائناتِ، علاوةً علَى ذلكَ فإنَّ تنظيمَ الحياةِ العامةِ يتطلبُ علمًا مطلقًا بالكَيفِ ومآلِ مَا نحيَا فيهِ مُستقبلًا، وهوَ الشيءُ الَّذِي يتساءَلُ عنهُ أندريه – جان ارنود بقولِهِ: “كيفَ نتصورُ القانونَ خلالَ القرنِ المقبلِ فِي الوقتِ الذِي لا نملكُ المعلوماتَ عن الكيفيةِ التِي ستكونُ عليها حاجاتُ المستقبلِ، وَلَا عنِ الدورِ الذِي سيكونُ علَى القانونِ أنْ يلعبَهُ[6]“.
شَرعيّةِ المُؤسسةِ الدينيةِ
لأنَّ الإنسانَ كائنٌ تتغذَى عليهِ الأسئلةُ الكبرَى إلَى حيثُ يتجِهُ ولِمَ عليهِ أنْ يعيشَ وما ينبغِي عليهِ أن يكونَ، والمرجعياتُ الماديةُ في أزمةٍ خالدةٍ لا تشفِي غلِيلَهُ؛ هُو مَا يجعلُ الدينَ لهُ الشرعيّةُ التّامةُ فِي تدبيرِ شؤُونهِ، فهِيَ مُتَعاليةٌ وفَوقِيَّةٌ علَى الإرادةِ البشرية[7]ِ” فِي المقامِ الأوَّلِ باعتبارِ أنَّ “سعيَ الناسِ في منافعِهِم يَندُرُ أن يكونَ وِفقَ أحكامِ العقلِ، بلِ الشهوةُ سائقُهم فِي مُعظَمِ أحوالِهم؛ فهُم فِي أحكامِهم وأمَانِيهم فيمَا ينفعُهُم مسُوقُونَ بنوازعِهِم التِّي تغفَلُ عنِ المستقبلِ وعنْ أيِّ شيءٍ آخر[8]“
كما أنَّ المنظومةَ الدينيةَ “كاملةٌ بالأصلِ؛ حيثُ إنَّ المصدرَ الذِي نستمدُّ منْه قيمَنا هو في نفسِ الوقتِ عِلَّتُنا المصدريةُ، والخالقُ عالمٌ بالأصلِ لِحاجاتِ الإنسانِ و مُتَطلَّباتِهِ وبهِ نتخلصُ أنَّ القيَمَ توقيفيَّةٌ وليسَت توفِيقيَّة[9]“
موتُ الإنسانِ
بعدَ أنْ أعلنَ نِيتشه موتَ الإلٰهِ، لمْ يبزُغْ فجرَ القرنِ العشرينَ إلَّا بإعلانِهِ موتَ الإنسانِ؛ فَبِتركِ تاجِ السيادةِ لَهُ علَى الكونِ فإنَّهُ لنْ يبقَى هناكَ أدنَى سببٍ لنكونَ صالحينَ أو نلتزمَ أخلاقِيًّا، وهوَ الإشكالُ الذِي يطرحُهُ زعيمُ الداروِينِيةِ الجديدُ مايكل روس بقوله: “لقدْ ماتَ اللهُ فَلِمَ علَيَّ أنْ أكونَ صالحًا؟ الجوابُ: هوَ أنهُ لَا توجدُ أدنَى أسباب ليكونَ المرءُ صالحًا وبهذا الصددِ أعلنَ دوستويفسكي عن أزمةِ تفسيرِ أنطولوجيةِ الأخلاقِ دونَ مرجعيةٍ دينيةٍ تستندُ إلَيهَا بعبارتِهِ الشهيرةِ ” إذَا لم يكنِ اللهُ موجودًا فكلّ شيءٍ مُباح”.
ضرورةُ الدينِ
الدورُ الذِي يلعبُهُ التشريعُ الربانيُّ إذن مركزيٌّ فِي التزاماتِنا الأخلاقيةِ، ولَا يمكنُ الإستغناءُ عنهُ ولو لحظَةً؛ ”لأنَّ الإنسانَ يساقُ مِن باطِنِهِ وليسَ مِن ظاهرِهِ، وليستِ القوانينُ وسلطاتُ الحكوماتِ بِكافِيَينِ وحدَهُما لإقامةِ مدينةٍ فاضِلةٍ تُحتَرَمُ فيها الحقوقُ، و مِن الخطأِ البيِّنِ أنْ نظنَّ أنَّ فِي نشرِ العلومِ والثقافاتِ وحدَها ضماناتٍ للسلامِ والرخاءِ، وعِوضًا عنِ التربيةِ والتهذيبِ الدينيِّ ذلكَ أنَّ العلمَ سلاحٌ ذو حدَّينِ يصلحُ للهدمِ والتدميرِ كمَا يصلحُ للبناءِ والتعميرِ وَلا بُدَّ فِي حُسنِ استخدامِهِ مِن رقيبٍ أخلاقيٍّ يوجِّهُهُ لخيرِ الإنسانيَّةِ وعمارَةِ الأرضِ، لَا إلَى نشرِ الشرِّ والفسادِ، ذلكَ الرقيبُ هو العقيدةُ والإيمانُ فنحنُ بحاجةٍ إلَى وجودِ اللهِ ودينِهِ فِي معادلةِ استقرارِ حياتِنَا علَى هذا الكونِ؛ لأنهُ لا يسعُنا سِوَىٰ ذلكَ، ومِن هذا المدخلِ يختمُ أجوست سباتيه قبلَ أنْ نتقدمَ على الانتحارِ الجماعيِّ، وهو يتساءَلُ “لِمَ أنا متدينٌ ؟ إنِّي لمْ أحَرِّكْ شفتَايَ بهذا السؤالِ مرةً إلَّا وأرَانِي مسوقًا للإجابةِ عليهَا بهذا الجوابِ، وهو أنا متدينٌ لأنِّي لا أستطيعُ خلافَ ذلكَ، لأنَّ الدِّينَ لازمٌ معنويٌ مِن لوازمِ ذاتِي يقولونَ لِي: ذلكَ أثَرٌ مِن آثارِ الوراثةِ أو التربيةِ أو المزاجِ؛ فأقول لهم: اعترضتُ على نفسِي كثيرًا بهذا الإعتراضِ نفسِهِ، لكنِّي وجدتُهُ يُقهْقرُ المسألةَ ولَا يحلُّها وأنَّ ضرورةَ التَّدَيُّنِ التي أشاهدُها في حياتِي الشخصيةِ، أشاهدُها بأكثرِ قوةٍ في الحياةِ الاجتماعيَّةِ البشريَّة[10]“
[1] الإنسانُ الطاغِي، هل قتل الإنسَان الإلَٰه حقًّا؟!/
[2] ظاهرةُ نقدِ الدينِ في الفكرِ الغربي
الكاتب: زكرياء بودراع
التدقيق اللغوي: زينب عطية
القراءة الصوتية: ماهر القسي