الحقّ لا يخفى على أحد إن طلبه، وينجلي لكل من رغب فيه وسعى إليه، كما لا تخفى الشّمس على ذي بصر، ولا صوتُ الرّعد على ذي أُذن، ولا طعمُ العسل على ذي لِسَان، غير أن الحواس قد تمرض: فلا ترى العينُ الشمسَ لعمًى أصابها، ولا تسمع الأذن صوت الرعد لصمم حلّ بها، كما لا يتذوق اللسان طعم العسل لداءٍ أصابه. كذلك لا يرى العقل الحقيقة ولا يبصر نور الحق لمرض ألمَّ به.
إذا تقرر هذا فإن القرآن حقيقةٌ مطلقةٌ دالٌّ بنفسه على مصدره، ويكفي النظر فيه للوصول: أنه صناعة ربانية، لكن المتلقي قد يصيبه مرضُ شبهات أو شهوات تؤثر على عقله: فيظنّ الباطل حقًّا، ويرى السّراب فيحسبه ماءً، فكان لابدّ من سلوك طريق توصل الإنسان إلى بر الأمان، وتُثبت له على جهة اليقين أن هذا القرآن هو كلام الله ربّ العالمين، وإن الاندراج: في هذا البحث لهو موضوع كبيرّ جدًا، غير أن الورقة التي بين يديك سوف تسعى أن تضعَه في عشرة مسالك: توصل صاحبها وسالكها بإذن الله إلى ثلج اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين: أن هذا القرآن كتاب {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: ٤٢]
المسلك الأول: فصاحة القرآن ونظمه العجيب:
إنّ أيَّ قارئٍ للقرآن الكريم: وإن كان لا يعرف إلا النّزر اليسير من العربية: يدرك تمامَ الإدراك أن هذا الكتاب في فصاحته ونظمه لا يشبهه شيء من كلام العرب سواءً الذين عاصروه أو كانوا قبله أو جاؤوا بعده، فهو مخالف تمام المخالفة لكلامهم، وعليه: فإذا كان القرآن لا يتطاوع مع أي كلامٍ عربي: يلزم ضرورةً ألا يكون من كلامهم، ولا كلامَ بشر ينطق العربية: فضلًا عن غيرها: فوجب البحث عن مصدر خارجيٍّ للقرآن الكريم، ولنضرب لذلك مثلًا: قال الله تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:١] فلربما وجدنا الذين كانوا قبل القرآن قد تكلموا بكلام قريب من هذا إن صحّت النّسبة: وهو قولهم (سماء ذات أبراج) فإنك إن نظرت في الجملة الأولى الواردة في القرآن والجملة الثانية الواردة في غيره مع تقارب اللفظ واتّحاد المعنى لوجدت بينهما اختلافًا شاسعًا يعلّمك: أنّ هذا الكلام ليس مثل هذا الكلام، ولا يمكن أن يصل إلى درجته إلا إذا وضع في حُلّته، فأعطي نفس الحروف الزائدة في القرآن الكريم للحروف الناقصة في الكلام العربي السّابق، وعلى هذا فَقِسْ كل عبارة أُشبِهت عليك في الباب، أو استخبر أولي الألباب يُعْلِمُوك: الصواب.
المسلك الثاني: لغة التحدي والعجز البشري:
إن من يقرأ القرآن الكريم سيجد فيه تحدّيًا كبيرًا للناس سواء في زمن القرآن أو بعد زمانه: على أن يأتوا بشيء يشبهه أو يقاربه، وقد مرت الأزمان وتوالت السنون ولم يستطع أحدٌ أن يأتيَ بشيء يمكن أن يقارب القرآن الكريم، فإذا عجز البشر جميعا عن معارضة هذا الكتاب الذي يزعم البعض أنه من إنشاء محمّد صلى الله عليه وسلم: فإن النتيجة الحقيقية التي تدفع كل إنسان إلى الاعتراف بها هي: أنّ هذا القرآن من عند الله تعالى.
المسلك الثالث: غيوب القرآن الماضية والمستقبلية:
إنّ كل من ينسب هذا القرآن لمحمد بن عبد اللّٰه عليه الصلاة والسلام: يعترف أنه عاش في الجزيرة العربية، وكان رجلا أمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعامل مع الحضارات الأخرى ثم إنك إذا نظرت في كتابه وجدته ملآنًا بالأخبار السّابقة التي يستحيل أن تكون من إنشاء العقل وحده، ثم إذا تجاوزت زمان صاحب القرآن وجدته أيضًا في كتابه يتحدّث عن أخبار غيبيّة ستحدث في المستقبل، فكان كلما حدّثنا عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدّثنا عن المستقبل صدّقتهُ الليالي والأيام، ثم اسأل نفسك بعد ذلك “أترى هذا الرجل الأُمّيّ جاء بهذا الحديث كلِّه من عند نفسه؟ “.. تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه “إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطّلاع واسعٍ ودرس دقيق. ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدةَ عقله وثمرة ذكائه وعبقريّته”
المسلك الرابع: الحديث عن الباري سبحانه وتعالى:
إن النّاظر في القرآن الكريم يجده: يخبر بأنه منزل من عند الله عز وجل: وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مبلّغٍ وناقل، كما يجده يتحدث بإسهاب كبير جدًّا عن الله سبحانه وتعالى وعن جميل صفاته وعن جلال ذاته وأسمائه مع ما يتضمن ذلك من الحُجج القاطعة والبراهين السّاطعة التي تضطرّ كل إنسان إلى الاعتراف بخالقيّته سبحانه للأرض والسماء ولو كان كتابًا بشريًّا لكان الأولى به أن يهتمّ بصفات صاحبه: محمد بن عبد الله، ويهتم بشؤون حياته الشخصية، فإذا غاب هذا وحضر ذاك، أعطى للعقل ضوءًا لمعرفة المصدر.
المسلك الخامس: الحفظ من الزيادة والنقصان:
القرآن الذي نقرؤه اليوم في حياتنا والمتداول بيننا بطبعاته المختلفة وقراءاته المتعدّدة: لهو النص الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله وأملاه على صحابته الكرام فإنك لا تستطيع أن تجد فيه رغم تطاول الزمن أيّ تحريف أو تغيير وهذا يُنبئ أنه من عند الله تعالى وقد جاء بذلك مصرّحًا في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] ولك أن تختبر ذلك بفسك إن كنت تُجيد التعامل مع المخطوط، وإلا {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣]
المسلك السادس: تيسير حفظه وضبطه في صدور الناس:
إنك لو نظرت إلى واقعنا المعاصر وبحثت في حفاظ القرآن الكريم الذين لا يصلون إلى المئات ولا إلى الآلاف بل يُعدّون بالملايين، ومنهم من لا يفقه في العربية شيئًا ومع ذلك تجدهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولو فتّشت في نفس اللحظة عن الكتب الأخرى التي تحسب نفسها أنها دينيّة كم عدد الذين يحفظونها، بل ابحث عن أي كتاب في الدنيا ولو كان قليل الأوراق وميّز بين من يحفظه وبين من يحفظ القرآن الكريم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: ١٧] فهو سهلٌ ميسّر في حفظه رغم كثرة كلامه وطول أوراقه وصفحاته.
المسلك السابع: غياب المل في قراءته:
قدم أي كتابٍ لأي شخص، كيفما كان هذا الكتاب في لغته وأدبياته واطلب منه أن يرتّله أو أن يقرأه مرات متعدّدة في نفس اللحظة، فإنه إذا قرأ الأولى والثانية لا يكاد يصلُ العاشرة بل دونها إلا يشعر بالملل، ثم عُد إلى كتاب الله عز وجل فإن الواحد من المسلمين قد يجلس اليوم كاملًا يردّد سورة الإخلاص ولا يشعر بأي ملل في قرائتها بل لا يزيده تَرْدَادها إلا حفظًا لها وشغفًا في زيادة التّرداد والقراءة. إنّه كلام الله الذي ينسجم مع خلق الله فإذا وقع الكلام على الخلق تأثّر به وشعر بحبّه وأناب إليه ولم يجد الرّاحة إلا فيه.
المسلك الثامن: غياب نفس صاحبه:
يزعم المستشرقون وملاحدة العرب وغيرهم أن القرآن الكريم من وضع محمد، وإذا قرأت هذا الكتاب فإنّك تجد فيه الحديث عن الأنبياء السابقين وأحيانًا بتفصيلٍ وإسهاب بل تخصيص سورٍ كاملة لبعضهم ولكنك لا تجد اسم صاحبه يذكر إلا نَزْرا يسيرًا، فلو كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم وحاشاه لكان ينبغي أن يذكر في كل صفحة إن لم نقل في كل آية، فما دامت شخصيّة محمد تكاد تغيب في وسط القرآن إلا لِمَمًا: فهذا يعني أنه ليس من عنده بل هو من عند الله سبحانه وتعالى.
المسلك التاسع: آيات العتاب:
تخيّل أنك تضع كتابًا من تلقاء نفسك ثم تشرع في معاتبة نفسك وأن يكون المعاتب لست أنت في ذلك الكتاب، إن العاقل يستبعد أن يُفْعَل هذا.
فيمكن للإنسان أن يوجه عتابًا لنفسه وهذا أمر لا إشكال فيه لكن أن يخلق الإنسان من تلقاء نفسه مُخاطبًا في كتابه يخاطبه بأخطائه: فهذا مستبعد في العقل، ثم إنّ من يقرأ القرآن الكريم ويعرف شيئًا يسيرا من حياة صاحبه: سيجد أنه يتصرّف بتصرّفات: يعتقد صحتها ويميل إليها ثم بعد ذلك يأتي في القرآن ما يخالفها ويحثُّه على تركها أو تغييرها{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: ٤٣] فآيات العتاب وحدها تثبت: أن ذات محمد مجرّد عبد ضعيف بين يدي الله تعالى.
المسلك العاشر: كثرة الخصوم مع العجز عن الكسر:
إنك لو نظرت في زماننا، وتأمّلت كل فكرة تعيش بيننا ثم بحثت عن خصومها فلن تجد الخصم يتجاوز الاثنين أو الثلاثة، لكن لو نظرت إلى القرآن الكريم وبحثت عن خصومه في الواقع فستجدهم اليهود ثم النصارى ثم الأمم الوثنيّة التي لازالت تعبد الأصنام، وستجدهم الملحدين وستجدهم اللأدريين والربوبيين، كما ستجدهم الماركسين والليبراليين والعلمانيين…
كل هؤلاء يدٌ واحدة على حرب القرآن وكل هؤلاء أيضًا رغم التعاون والتّآزر عاجزون عن القطع والاجتثات:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:٨]
فهذه مسالكٌ مختصرة، في كل مسلك فيها كتب منتشرة، فما عليك عزيزي القارئ سوى فتح البصيرة، وسلوك طريق العلم والتعلم، وأن لا تقنع دون بلوغ الغاية: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤]
الكاتب: رشيد الذاكر - ياسين الفكير