الحمد لله الذي خَلَقَ فسوَّى، وأعطى كلَّ شيءٍ خَلقَهُ ثُم هدى، وخلقَ الزوجينِ الذكرَ والأنثى، وعليه النشأةُ الأخرى، وأشهدُ أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخاتمُ أنبيائه ﷺ وأصحابه أجمعين،
وبعد
حين تُحَاطُ الأجيالُ بمناهجٍ تزعمُ أنَّ الإنسانَ ومن شاركَه الحياةَ على الأرضِ من كائناتٍ حيَّةٍ قد أوجدتهم الطبيعةُ، وأنَّ الإنسان وأشجارَ الصنوبرِ والقرودَ أحفادُ خليةٍ بكتيريةٍ، طورتها الطبيعةُ تدريجيًا عبر بلايين السنين، منكرينَ خلقَ اللهِ لها، ناسِبين ذلك إلى العلم! متجاهلين –من حيث المبدأ- أنَّ الطبيعةَ غيرُ مُدرِكَةٍ، وأنَّ قوانينَها تفتقر إلى مَنْ وضعَها، عندها يحتاجُ الإنسانُ إلى وقفةٍ هادئةٍ مع نفسِه، يقرِّرُ ذلك بنفسه، أو يوجِّهه غيرُه، وسيُدرِكُ حين يُقلَّب بصرَه في الكائناتِ مِن حوله أنَّها أُوجِدت في أتقنِ صورةٍ، وأحسنِ نظامٍ، وسيرى طوائفَ المخلوقات وأصنافَها يتمايز بعضُها عن بعضٍ، ويتكيّفُ بعضُها مع بعضٍ، فلكلِّ صِنفٍ منها طعامُه، وعملُه، وأسلوبُ حياته الخاص، ولكلٍّ منها سلاحُه لاتِّقاءِ أعدائه، وردِّ عدوانهم، والنجاةِ بنفسِه وبصغارِه. فأمَّا حياتُها: فمنها ما يعيشُ في الماء ومنها ما يعيشُ خارجَه، وقد وُجِد في كلِّ نوعٍ منها أجهزةُ التنفس، والغوصِ أو الطيرانِ التي تُلائمُ وظيفتَه ومعيشتَه، حتى إنَّالمتأملَ لَيدركُ دونَ عناءٍ أنَّ هذا وُجد ليعيشَ في البرِّ، وهذا للبحرِ، وهذا ليطير في السماء، فلا يَلحظُ اضطرابًا في تكوينِ شيءٍ منها.
وأمّا غذاؤها: فلكلِّ نوعٍ من الكائناتِ طعامُه الخاص، فآكلات العُشبِ لا تأكلُ اللحومَ، والعكسُ صحيح، وآكلاتُ الحشراتِ لا ترتشفُ رحيقَ الأزهار، ولا تأكلُ الثمراتِ، وتعرفُ كلُّ دابةٍ –صغُرت أو كبُرت- أينَ يكمُنُ غذاؤها، وأين تعيشُ فريستُها، وكيف يُمكنُ اصطيادُها، وكيف تَستخدمُ قدراتِها في التربُّصِ والانقضاضِ.
وأمّا عن وظائفها: فيقومُ كلُّ كائنٍ بوظيفته في الحياة، سواءٌ عرفَها الإنسانُ، أو لم يعرفْها، وسواءٌ أنتفَعَ بها أم لم ينتفع، فالنحلةُ تبني وتُكَوِّنُ الخليةَ، ثمَّ تسعى لتمتصَّ الرحيقَ؛ لتعودَ إلى الخليةِ التي تنتظمُ فيها الأعمال وتتوزع المهامُ، والنملةُ تبني مدينتها، وتحتفظ فيها بحبوبها، ويحُطُّ طائرُ النَّوْرَسِ على فكِّ تمساحٍ في بحيرةٍ، فيُنقبُ بين ثناياه عن طعامٍ فاضَ عن حاجتِهِ فآذاه، فأكلَ هذا، واستراحَ ذاك، والعجيبُ أنَّ ( تشارلز دارون)[١] _نفسه_ قد تعجَّبَ من ذلك النظامِ والإتقانِ وتلك الغرائزِ، التي تقومُ بها حيواناتٌ بشكلٍ لا يستطيعُ الإنسانُ القيام بهِ إلا بمزيدٍمن التجربة والمرانة، فقال: “إنَّ في كثير من الغرائزِ ما يبعَثُ على العجب، حتى إنَّ نشوءها وتطورها قد يكون من الصعوبة بحيث يدفع القارئَ إلى رفض نظريتي جملةً… إذا ما سُقنا الكلام –مثلاً- في أن الغريزة قد تضطر طائر الوقواق [Cuekoo] إلى الهجرة، وأنها تُلزِمُهُ أن يضعَ بيضَهُ في أعشاشِ غيرِهِ من الطير، على أن فعلًا أو عملًا ما، نحتاجُ نحنُ إلى بعض المرانةِ حتى نستطيع القيام به، إن أتى به حيوان – سيَّما إذا كان نشأَ وليدًا من غيرِ مرانة“[٢]، ولكنَّ دارون عادَ وهربَ إلى أنَّه لا يريد بحثَ أصلِ تلك الغرائزِ، وإنَّما يهدفُ فقط إلى الإشارة إلى تنوُّعها.
فلو أننا سألنا أنفسنا هنا: لماذا تخرجُ الفراخُ لتأكلَ نفسَ الغذاءِ، وتؤدي نفسَ الوظيفةِ، وتحيا بنفس الطريقة؟ ولماذا لا يُنتِجُ النحلُ شرابًا غيرَ العسلِ؟ ولماذا لا تنتخبُ الطبيعةُ كائنًا آخرَ ليقومَ بهذا العمل؟ هذا كلُّه إذا تجاوزنا الكلامَ عن إبداعِ خلقِ تلك الكائنات، واختلافِ أشكالها وألوانها والأجهزة الداخلية في أجسامها، لكنْ الذي أريد هنا أن أصلَ إليه هو: أنَّ تلك الكائناتِ تخرجُ إلى الحياة بقدرٍ من المعلومات فيه أهمُّ أسسِ الحياة، ومهارات البقاء فيها، حتى إنَّنا لَنرى الثدييات –مثلًا- تلِد أجنتَها فلا تَمُرُّ الدقائقُ حتى يلتقمَ الوليدُ ثدي أمه، وتبدأ دورتُهُ في الحياة، ولقد رأيتُ بعيني ما أظنُّه أعجبَ من هذا: اقتنيتُ ثلاثةَ أفرادٍ من الأرانب (ذكرًا وأُنثَيين) كانت إحداهما بيضاءَ والأخرى سوداءَ، والذَّكرُ أسود، فوَلَدت السوداءُ صغارًا سودًا، وولَدت البيضاءُ ثلاثةً بيضًا وثلاثةً سودًا، فكانت البيضاءُ تأخذ القماش وتربطُ به صغارها السود، وتترك البِيض؛ مخافةَ أن يختلطوا بأبناء جارتها، فتُدخلهم في حفرةٍ صنعتها وسترتها بأعواد البرسيم، لا تُخرجهم إلا للرضاعة، فإمّا أنَّ الأرانب تتعلَّم هذا من التجارب أو التقليد (معرفة مكتسبة) ، وإما أنَّها وُلِدتْ بهذه المعرفة (معرفة فطرية)، والاحتمالُ الأولُ باطلٌ؛ لأنَّها ولِدت عندي ولم تخالطْ غيرَها لتتعلَّمَ منه، ولا يبقى إلا أنَّها المعرفةُ الفطريةُ وهدايةُ الله لها؛ لتحققَ الحكمةَ التي خلقها الله من أجلها، فسبحانَ من خلقَها وعلَّمَها. ورَحِمَ الله شوقي[٣]حيث قال: ’’سَل النملَ مَنْ أَدقَّها خَلقًا، وملأَها خُلقًا، وسَلَكَها طُرُقًا، تبتغي رِزقًا؟ وسَلِ النحلَ: مَنْ ألبَسَها الحِبَرَ[٤] وقَلَّدَها الإبَرَ، وأطعَمها صَفوَ الزهر، وسخَّرها طاهيةً للبشرِ؟ لقد نبذتَ الذلولَ المُسعفة[٥] ، وأخذتَ في معامي[٦] الفلسفة، على عشواءَ من الضلالِ مُعسِفة[٧]…فخَبِّرني: الطبيعةُ مَن طَبَعَها؟ والنُّظُمُ المُتقادمةُ من وَضَعها؟ والحياةُ الصانِعةُ مَن صَنَعها؟ والحركةُ الدَّافعةُ مَن دَفَعَها؟[٨]
وهذا القدر من المعلوماتِ هو مايمكنُ أنْ نطلقَ عليه : ‘’الهداية’’ أو الفطرة _كما أشرتُ_ وهو عند المسلمين من أثبتِ اليقين، لأنهم -مع ما أنعم الله عليهم به من القدرة على النظر والتفكُّر كعامة الناس – قد جاءهم الخبرُ الصادقُ ببيانِ هذا السر ، وهو أنَّ الله -سبحانه – وهو الخلاّق العليم ُ، قد منح تلك المخلوقاتِ الوجودَ ، وجَعَل لوجودها حكمةً وغايةً ، وهداها سُبُلَها ، وعرَّفها وظائفَها وغذاءَها، وطبيعة حياتها، وتكيُّفها مع غيرها ، ودفاعها عن حياتها وأوكارها وصغارها، يقول الله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام :- {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ}[طه:٥٠] وقال سبحانه
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: ٦٨ – ٦٩] ،
وبنفسِ المنطقِ: لا شكَّ أنَّ الإله الخالقَ العليمَ –طالما أنه هو الإله الحقُّ- سيُودِعُ في البشر ما يدلُّهم عليه، ويوصلُهم إليه، فالإنسانُ وهو المخلوقُ الأسمى بين هذه المخلوقات أولى بأن يُوهَبَ ذلك، فالفطرةُ فيه واضحةٌ جليةٌ، لا يُنكرها إلا مُكابر.
وهذا ما توصَّلتْ إليه الدراساتُ الحديثةُ في علم النفس، يقول الدكتور جستون باريت([٩]: ’’يُولدُ كلُّ أطفال البشر متحدثين، أي: قُدِّرَ لهم أن يمتلكوا لغةً، ويولدون مُشاةً، أي: سيتعلمون المشي طبيعيًا، وبطريقة مشابهة يُولَد الأولاد مؤمنين بنوعٍ ما من الإله’’([١٠].
فتلك هي الفطرة التي نوقن بها نحن -المؤمنين- ، كما وردت في القرآن، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [ الروم: ٣٠]، وقال رسول الله ﷺ : “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ”[١١] فالمخلوقاتُ وعلى رأسها الإنسان فهي أيضًا لم تخرج للحياة مجردةً من المعلومات، وإنَّما جاءت محمَّلة بمبادئ المعرفة العقلية، التي لا تحتاجُ إلى دليلٍ، وإنَّما هي مادة التدليل، فهل هذا من العشواء، والطبيعة الصَّماء؟ أم أنَّه الخالقُ العظيمُ العليمُ أودَعَها في مخلوقاته؟ ألاَ توافقني الرأيَ أنَّ الإنسان -العاقلَ- لا يتمارى في أنَّ الكلَّ أكبرُ من الجُزء، أو أنَّ الواحدَ نصفُ الاثنين، خاصةً الطفل الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تلك المبادئ العقلية، فتراه يتعرَّفُ على انفعالات مَن حوله، وربَّما حاكاها، فمِن أين له المعرفةُ بأنَّ له وجهًا كوجوههم حتى يضحكَ في وجه من يضحك له، ويعبَسُ في وجه من يعبَسُ له؟ كما ينشأ على أنَّ لكلِّ فعلٍ سببًا، وأنَّ كلَّ شيءٍ موجودٍ حولنا فإنَّ هناك مَن أوجده، ولئِن ضربتَه من وراء ظهره، أو أخذتَ لُعبته أو طعامَه خِلسةً، فلن يزلُّ عقله –الصغير قليل التجربة- في اعتقاد أنَّ هذا الفعل قد حدثَ بلا فاعِلٍ موجودٍ، فيالله! كم يعاني من يحاول إقناعَه بالبعدِ عن اعتماد السببية في التفكير؟ بل إنَّ المختصين في علمِ الإدراك الديني Cognitive Science Of Relegion قد توصَّلوا إلى أنَّ البنية الطبيعية للعقلِ البشريِّ ضمنَ الظروفِ العادية تجعلُ الإيمانَ بالآلهةِ أمرًا مُتوقعًا بالكامل [١٣] فيما يُسمَّى “فطرية الإيمان naturalness off religion”، وهذا الأمر لا يُمكنُ معارضتُه بأنَّ إيمانهم يرجع إلى التلقين، فإنَّ المُلاحظَ هو: أنَّ إقناعَ الطفل بعدمِ وجودِ الإله هو أمرٌ أشدُ صعوبةً، ويحتاجً إلى مزيدٍ من التلقين، وقلَّ أن يُفلِح، إلَّا إذا اجتمعتْ معه الشبهاتُ والشهواتُ، وذلك عندما يعتاد الناشئُ التمرُّدَ على الفطرة، ويُهمِلُهُ أبواه، ويَتركانِهِ لهواه، وهنا يتجلَّى صدقُ رسول الله ﷺ: ” فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه… الحديث”. ليدُلَّ وجودِ تلك الفطرة على أنَّ لهذه المخلوقات خالقًا عليمًا حكيمًا قادرًا مُريدًا، له الخلقُ وله الأمرُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
*بقلم/أحمد حسن العدوي
( * ) إمام وخطيب وباحث في العقيدة والفكر الإسلامي
([١]) Charles Darwin عالم تاريخ طبيعي وجيولوجي بريطاني ولد في ١٨٠٩م، وتوفيَ في ١٨٨٢م، وهو صاحب نظرية النشوء والارتقاء التي تُعرف بالتطور، وألف كتابه ” أصل الأنواع” سنة ١٨٥٢م.
([٢]) تشارلز دارون: أصل الأنواع ( نظرية النشوء والارتقاء) ، ترجمة: إسماعيل مظهر، دار التنوير – القاهرة، ٢٠١٥، الطبعة الثالثة، ص: ٣٠٣
([٣]) أمير الشعراء: أحمد شوقي –رحمه الله- شاعرٌ مصريٌ يُعد من أشهر شعراء العربية في العصر الحديث، تُوفي عام ١٩٣٢م
([٤]) الحِبَر: جمع حِبَرة، ثياب ملونة، شبها بها لأن الله كساها بالألوان الزاهية التي تتخايل بها.
([٥]) تركتَ الشريعة السمحة التي تُسعفُ أبناءها باليقين والإيمان.
([٦]) أي : مجاهِل، من العمى وهو استتار الأمر وتغطيته[مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، دار الفكر، ١٩٧٩ : ج٤/ص١١٣]
([٧]) العَسَف: الْحَيْرَةِ وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ [مقاييس اللغة: ج٤/ص١١٣]
([٨]) مقال: (الحقيقة الواحدة) أحمد شوقي، مجلة الزهراء عدد شهر المحرم 1343 هـ
([٩]) ـبروفيسور علم النفس، متخصص في علم الإدراك الديني والتنمية البشرية، ومشرف أبحاث سابق بمركز علوم الإنسان والعقل وبمعهد علم الإدراك، وعلم الإنسان التطوري في جامعة أكسفورد
([١٠]) جستون باريت: فطرية الإيمان (وُلدوا مؤمنين) Born believers، ترجمة ونشر: مركز دلائل- الرياض، ص:١٤
([١١]) صحيح البخاري: الحديث ١٢٧٧، صحيح مسلم: ٤٨١٠ من حديث أبي هريرة
([١٢]) فطرية الإيمان: مرجع سابق ص: ١٥
الكاتب: أحمد حسن العدوي