قرأت في إحدى المرات لمهندسة وكاتبة معمارية عبارة تقول فيها: لقد قايضنا قيم عماراتنا الإسلامية بنموذج المستهلك المسرف وعند تلك العملية فقدنا أنفسنا، توقفت عندها طويلًا، فهل بالفعل قمنا بهذه المقايضة؟ وهل بدأنا بفقد أنفسنا؟ وما مفهوم الحضارة بالنسبة إلينا؟ كيف لنا بهذا التوغل العميق دونما شعور أو استحضار أو قراءة، كيف لا نقرأ تاريخنا ولا ندرك على أي قدم وساق نقف!!
نعم، نحن قمنا للأسف الشديد بهذه المقايضة، إن انجرافنا وراء ما يسمى حضارة الغرب أو حضارة الثقافة الغالبة كان له أثر سلبي وعكسي على مجتمعات بأكملها بحجة أننا المتخلفون وإنهم المتقدمون.
دفعتني هذه التساؤلات أكثر إلى البحث عن لِمَن الحضارة؟ ما نظرة الإسلام لهذا التقدم الحضاري الموجود في زمننا؟ وهل نحن متخلفون عن باقي الأمم؟ لِمَ كل هذا الانبهار بما لدى الغرب حتى نسينا قوة ما بأيدينا؟
و الحمد لله، فتح الله بصيرتي للالتحاق بدورة صناعة المحاور حيث كان لها الفضل الكبير في إدراكي لكثير من الأمور فضلاً عن الإجابة عن كمٍّ من التساؤلات، وبعدها فأنا الآن أستطيع القول جازمة:
إن الحضارة بالمعنى الشائع والتي هي العلوم المدنية الدنيوية والتي وُجِدت لخلق الرفاهة للبشرية هي ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسة كما نحب أن نتظاهر بذلك.
إننا يجب علينا أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن كما كانا فعلاً لا كما جعلناهما عبر عمليات إعادة التصنيع و التشكيل وفقاً لميول المستهلك.
كيف لا نتفكر في كمِّ المقارنات والموازنات التي وردت في القرآن الكريم بين المنجز الدنيوي والأخروي، كقوله سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [سورة القصص 60]
فالإنسان يجب عليه أن يجاهد ليوقن أن ما على الأرض من مال وبنين وإمكانات مادية ومدنية ما هي إلا زينة للاختباروالامتحان، هل سنُقبِل على الله أم سنُعرِض؟ هل ستمتلئ قلوبنا شوقًا لله وللآخرة أم سنسير في هذا المركب الدنيوي المؤقت معصوبي الأعين معطَّلين منبهرين بما لدى الغير؟
قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [الكهف ٧]
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ) [سبأ-37]
إنَّ مَن أكثَرَ مِن استحضار لقاء الله واليوم الآخر في النفس أدرك وأيقن أن ما على هذه الأرض من عمران مادي ما هو عند الله من شيء إن لم يكن أُسِّسَ على هدف واضح صادق وصريح وهو تحقيق العبودية لله، كما فعل المسلمون الأوائل عندما بنوا حضارة لا زال يتردد صداها في جميع الأرجاء إلى الآن.
فالحياة الدنيا ما هي إلا جسر لعبور الدار الاخرة، والموارد الحقيقية غير الناضبة إنما هي في الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى).[الشورى-36]
إذًا فما موقف النبوات من الحضارات؟ وهل الحضارة اقتصرت على الوقت الحالي الذي نعيش فيه والذي نظن أننا بلغنا فيه من الحضارة ما لم يبلغه غيرنا؟ -والذي أقصد به عصر التكنولوجيا والسرعة- وما المنهج الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لنا تجاه الحضارة المعاصرة؟
إن بعض الشباب المسلم لا زال يتساءل بحرقة ما الموقف الشرعي إزاء الحضارة المعاصرة وما الجواب الحاسم تجاه هذه الاشكالية؟
لقد بُعِث النبي محمد ﷺ إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم: الرومانية والفارسية والهندية والصينية، فالأولى امتدت لأوروبا، والثانية كانت حاضرة في الشرق الأقصى، والأخريان شبه معزولتين، وكانت معاهد العلوم فيها شامخة فضلًا عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة الإغريقية.
كما أن العلوم المدنية قبيل مبعثه بلغت شأوًا عاليًا في دقائق المعقولات كقوانين العقل الجوهرية وقانون الهوية والتناقض والثالث المرفوع ودقائق الهندسة وتقسيم أشكال إسناد السلطة واختراع البوصلة وقياس المسافات الفلكية وغيرها من العلوم والمكتشفات المدنية.
إن الله تبارك وتعالى عندما بعث نبيه ﷺ إلى جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني، ويجب عليكم أن تتعلموا من الأمم المتقدمة أو يجب أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق و الطب والفلك وغيرها.
بل أخبر الله نبيه ﷺ بعكس ذلك تمامًا، فقد أخبره عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات، ووصفها القرآن بالضلال.
لكن يجب علينا أن نعلم أن هذا الاستعلاء الشرعي والانتقاص من المنجزات الحضارية التي كانت سائدة قبيل بعثة النبي ﷺ ليس ذماً لتلك الحضارات وإنما لأصحابها؛ لأنهم لم يتزكوا بالوحي والعلوم الإلهية، فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي وهو مرتبة العبودية وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.
إن المنهج الذي يحبه الله ويريده من المسلم إزاء الحضارات الأخرى هو الانتفاع بما لديهم -فهم إن كانوا يملكون الوسائل فنحن نملك الغايات، بل إن تلك المجتمعات المتقدمة تحتاجنا أضعاف ما نحتاجهم- كما انتفع النبي محمد ﷺ وأصحابه وأدركوا ذلك؛ لكي لا نقع -كما نرى اليوم- في فخ الانبهار والتعظيم، آخذين موقف المتفرج إزاء ما يحدث ونترك لهم اللجام والحرية في اتخاذ قراراتنا وننتظر منهم أن يقرروا حقوقنا أو يوافقوا عليها ويصوغوا دستورنا، وكل هذا وفقًا لمصالحهم، لماذا؟ لأنهم المتقدمون ونحن المتخلفون
يقول تعالى في كتابه الكريم: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ)[الزمر-٢٢]
إن من أخطر عيوبنا هو إغفالنا وعدم فهمنا وقراءتنا لواقعنا الحالي أو تاريخنا المعاصر، كيف نشأت هذه الحضارات التي تدَّعي التقدم والمفهومية؟
إن هذه الحضارات التي تدَّعي التقدمية تريدنا أتباع مطيعين مهطعين مطأطئي الرؤوس؛ نفتح لها مواردنا الطبيعية لتستغلها على هواها وأسواقنا لتصرف فيها منتجاتها وعقولنا لتزرع فيها لغتها وثقافتها، ولا يتأتَّى هذا إلا بقهر إرادتنا.
نعم، لقد خُدِعنا وغُرِّرَ بنا عندما قالوا: إننا المتخلفون وإنهم المتحضرون المتقدمون، لقد تعرضنا للتغرير من قِبَل كل من قال عن الإسلام ما لا يليق به وأنه لم يعد ينفع في وقتنا الحالي.
نسوا نور الإسلام وعظمته وألبسوه عباءة البداوة وطيلسان كسرى ودفنوا الإسلام الراشدي، واختاروا إسلاماً كسراوياً قمعياًلا يُعنَى بالحضارة -في نظرهم- إلى أن كبرت هذه الخدعة و تسللت إلى عقول شبابنا وأجيال قد مضت وأجيال قادمة؛ في نظرهم الحجاب ليس حضارة، وإن صليت فأنت متشدد، وإن عملت بما يرضي الله فأنت تسير على خلافهم، وغيرها من الشبهات التي أصبح لا يُطاق لها ذرعًا.
علينا نحن أن نوسِّع من مداركنا، وندرك قيمة ما بأيدينا؛ لنعرف كيف تكون الحضارة على أصولها لا كما صوروها لنا، وأن كل شريعة فُرِضت ما هي إلا ارتقاءً لحضارة إذا أقمناها أقمنا أسمى وأجمل الحضارات والمجتمعات؛ مجتمعات لا تعرف الظلم ولا الفساد ولا النهب ولا السرقات، ميزانها العدل وقوتها روح الشريعة الخلاب.
الكاتب: إسراء سباعي
المراجعة: مها السفياني
التدقيق اللغوي: إسراء سيد
التصميم: ندى الأشرم
مقال جيد جداً. تحليل بسيط و لكن عميق. علينا أن نعمل على توعية الاجيال القادمة وتصحيح هذه المفاهيم الخاطئة.