” بسم الله الرحمن الرحيم “
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله،
وبعد:
فإن من كرم ومنّة الله -عز وجل- على آدم-عليه السلام- وبنيه أن حدد مهمته منذ خلقه فقال -سبحانه- للملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.}..[البقرة :٣٩] ثم عندما خلقه -عز وجل- خلقه بماهيّة معيّنة مناسبة لهذه الوظيفة، ثم خلق منه حواء -عليها السلام- زوجه، فالأصل الطيني والجنس الإنساني واحد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}..{النساء:١}.
فحواء -عليها السلام- خُلقت من ضلع آدم، وهو خلق من تراب، فالنفس الواحدة هي آدم-عليه السلام- والنفس المخلوقة منها حواء، كما أشارت النصوص الشرعية إلى ذلك في مواطن عديدة منها في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء»[1]. والمراد بالضلع ضلع آدم -عليه السلام-، وكون حواء -عليها السلام- خُلقت من ضلع أعوج لا دلالة له للاستنقاص كما يتضح من سياقات النصوص الشرعية ورد متشابهها إلى محكمها، لكن الواقعين تحت ضغط الفكر المعاصر والمتأثرين بالشبهات يرون أن في هذا الحديث ما يدل على تكريس المرأة وتبعيتها للرجل وهناك من يرى أن وصف خلقتها من ضلع أعوج فيه استنقاص وعيب.
فلو كان في خلق حواء -عليها السلام- من ضلع آدم -عليه السلام- عيبًا أو استنقاصًا لَلَحِق الرجال ذلك أليست بأم البشرية عليها السلام!
ثم وإن القارئ لسيرته -صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه بنظر جاد يجد أسمى أنموذجًا للتعامل مع النساء في البشرية كلها.
فهل يعقل أن يظن أو يقال بعد ذلك أن الحكمة من خلقها منه تكريس التبعية والامتهان، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قصد ذلك!
أم أن يقال “التأكيد على قوة الرابط بين الرجل والمرأة، وتوجيه الرجال إلى الرفق بالنساء، وعدم تتبع الهفوات بغير ما يصلحها؛ لأنهنّ جزء منهم، ولتذكر المرأة أنها من الرجل، فتحسن معاملتها وتكن المودة والمعروف لأصل خلقها[2]“، قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[ الروم : ٢١ ]، وقال -تعالى-: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}[البقرة:١٧٨]، وغيرها من الآيات المحكمة التي تدحض مثل هذه الشبهات.
ثم من قال إن الاعوجاج عيب! بل قد يكون الاعوجاج من الكمال، فهل القفص الصدري ذات الأضلاع المعوجّة عيب خلقي؟ أم إن اعوجاجه هذا من أجل أداء وظيفته، فهو ميزة وخصيصة وليس عيبًا؟!
علق الدكتور مروان إبراهيم على هذا الحديث بكلام رائع فقال:
“إن الاستدلال بهذا الحديث على انحطاط منزلة المرأة في الإسلام يدل على جهل باللغة، وبمعنى الحديث والسياق الذي جاء فيه وذلك لما يأتي:
- [أ-] لقد بدأ الحديث بالوصاة بالنساء، وانتهى بالوصاة بالنساء، فتكررت عبارة (استوصوا بالنساء خيراً) مرتين في أول الحديث وفي نهايته.
- [ب-] ترجم البخاري للحديث في باب (المداراة مع النساء) وفي الرواية الأخرى للحديث ترجم له في باب الوصاة بالنساء). كل ذلك يدل على أن الحديث لصالح المرأة لا کما قد يتبادر إلى الذهن.
- [ج-] الحديث توجيه وخطاب للرجال لا للنساء، فهناك مُوصَى وهم الرجال، ومُوصَى به وهن النساء، والوصية عادة لا تكون إلا في مصلحة الموصى به، وهي كذلك لصالح الرجال والأسرة والمجتمع، فإن افتراض الكمال في المرأة يقود إلى محاسبة الرجال لها على كل نقص مما يقلب الحياة الأسرية جحيماً؛ لذا فهناك رواية أخرى «إن المرأة خلقت من ضلع وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسرها فدارِها تعش بها»[3]“.
إذن يتضح لنا مما سبق أن مرجع كلًا من الرجل والمرأة إلى نفس واحده، فهما متساويين في الوجود والنشأة، أصليهما طيني وجنسيهما إنساني.
والأدلة على ذلك عديدة منها في قوله -تعالى-: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}..{الزمر:٦}.
وقوله -تعالى-:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ..{الشمس:٨-٧}.
وقوله -تعالى-:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}..{الأعراف:١٧٢}.
ومن هنا نجد أن النصوص الشرعية في مجال التكليف والمحاسبة أمام الله -عز وجل- ساوت بين الجنسين، يقول الدكتور فريد الأنصاري-رحمه الله-مبينًا ذلك: ” ومن هنا سَوَّى الله بين الجنسين في عموم التكليف إلا ما استثناه الدليل لخصوص المحل. أما الأصل التكليفي فهو قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض}[آل عمران:١٩٥]. فهذه الآية نص -باصطلاح الأصوليين- في تساوي التكليف الإلهي للإنسان، من حيث المبدأ الكلي، بغض النظر عن الفروق الجنسية العارضة من ذكورة وأنوثة. وإنما الصفة التي ينظر إليه بها ههنا هي كونه (عاملا) أم لا؟
فالإنسان له صورتان:
الأولى نفسانية،
والثانية جسمانية.
ولكل صورة سيماء أو سيمياء. أي علامات ومواصفات منها تتشكل ما نسميه بـ (الشخصية). تماما كما تتميز كل صورة جسمانية بعلامات فارقة، هي سيماء ذلك الشخص المميزة له.
ذلك أن النفس مفارقة للجسم. وكينونتها هي على صورة نفسانية. قال -عز وجل-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}..[الشمس:٧]. فالتسوية هي تمام الخلق، ولهذا قال بعد مباشرة في السياق: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}“[٤].
إذن في أصل التكليف هما متساويان، “وأما ما خالفت المرأة الرجل فيه من أحكام؛ فذلك راجع إلى الطبيعة التكاملية بين الذكورة والأنوثة، وليس إلى تنقيص خلقي تكويني في طبيعتها، فقد ينقص الرجل في شيء لتكمله المرأة، وقد تنقص المرأة في شيء ليكمله الرجل؛ سعيًا لتكوين الحاجة الفطرية الطبيعية بينهما ورغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة[5]“، ومن منطلق هذا الاختلاف بين الصفات الجسمانية -الذكورة والأنوثة- أفردت بعض التشريعات في الجوانب العملية حتى تكون العلاقة بينهما علاقة تكاملية، وفضل الرجال على النساء في الأمور الدنيوية، إذن هو تفضيل في الأمور الدنيوية مبني على خصيصة الذكورة، وهو تفضيل تكليف وليس تشريف ويصب في مصلحة العلاقة التكاملية بين الجنسين للاستخلاف وإعمار هذه الأرض، كسفينة في البحر تفتقر إلى قبطان، فالقيادة غالبًا ما تكون للمصلحة العامة، وكما للقائد من حقوق عليه واجبات وتبيعات لهذه القيادة.
وختامًا: إن من أمعن النظر في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تحدثت عن الرجل والمرأة، والقائمة على مبدأ العدل الإلهي، والتي رسمت لكل منهما ما له وما عليه ليكمل كلا منهما الأخر، تتجلى له عظمة المنهج الإسلامي الرباني بعيدًا عن واقع بعض نساء المسلمين اليوم، فالله -عز وجل- لما أنزل شريعته المباركة على خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، لم ينزلها انفعالًا لواقع معين كما هو حال البشرية حينما يشرعون!
ولا حلًا مرهونًا لواقع معين قد ينتج منه فيما بعد مشكلات تحتاج إلى تشريعات أخرى لحلها!
بل نورًا وهدى ورحمةً للعالمين، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}..[الملك:١٤].
[1] أخرجه البخاري، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، (٤/١٣٣)، رقم الحديث(٣٣١).
[2] حقوق المرأة في ضوء الكتاب والسنة، الدكتور: مرزوق الزهراني، ص:١٤٥.
[3] المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسات المسلمين، الدكتور: مروان إبراهيم القيسي، ص:١٥٠ وص:١٥١.
[4] سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، الدكتور: فريد الانصاري، ص:26.
[5] سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، الدكتور: فريد الانصاري، ص:36.
الكاتب: أديبه بنت خلف المطيري.