لعلَّ قراءةَ العناصرِ الرئيسة في المنهج النقدي عند المؤرخين – الذي أخذ هذه الصورة الممنهجة المنظمة في العصر الحديث – والتي مررنا عليها في الجزئين السابقين، مع قراءة المختصر البسيط جدًا الذي ذكرته في مقال (هل ينسى راوي الحديث أو يكذب؟) حول علم الحديث وشروط الحديث الصحيح، يُظهِر للقارئ الكريم مدى تحققِ المنهج النقدي للمؤرخين (المنهج العلمي الأكاديمي) في علم الحديث وبصورةٍ أكثر دقة وتشددًا، ولكن هذا لا يمنع من أن نلقي مزيدًا من الضوء من خلال الملاحظات التالية:
أولًا: منهج المؤرخين يتخذ الشكَّ في الرواية أصلًا ونقطةَ بدايةٍ دائمًا، وكذلك الشكَّ في الراوي وفي براءة ذمَّته، ففي التأريخ الراوي متهمٌ حتى تثبت براءتُه، والرواية أو الوثيقة مزيفةٌ حتى تثبت صحتها، وهذا مطابقٌ لمنهج المحدثين الذي يُسقطِون – مثلًا – رواية المجهول رغم أنَّ احتمالية أن يكون هذا المجهولُ صادقًا ضابطًا احتماليةٌ كبيرةٌ وقائمة، ولكن تُغلَّب هنا احتماليةُ أن يكون المجهولُ كاذبًا خطَّاءً وتسقط روايتُه بناء على ذلك، فهو متهمٌ لم تثبت براءته بذكر تعديله، وكذلك تضعيف الحديث الذي لا يجهر فيه الراوي المعروفُ بالتدليس بلفظ (حدَّثنا أو أخبرنا أو سمعت) لأنَّه عندما يقول: “عن فلان، أو قال فلان” قد يكون هناك راوٍ ساقطٌ في السند وهذا الراوي غير معلوم العدالة والضبط والأصل في التحقيق سوء الظن فيُردُّ الحديث من هذا الطريق.
ثانيًا: في مسألة تحري اللفظ والمعنى فإنَّ تلك المسألة مما درسه المحدثون ووضعوا لها قواعد وأصول في مسألة الرواية بالمعنى، ومتى تجوز ومتى لا تجوز، يقول الشيخ المحدث أحمد محمد شاكر في كتابه (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للإمام ابن كثير): “اتفق العلماء على أن الراوي إذا لم يكن عالمًا بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، ولا خبيرًا بما يحيل معانيها، ولا بصيرًا بمقادير التفاوت بينها، لم نجز له رواية ما سمعه بالمعنى، بل يجب أن يحكي اللفظ الذي سمعه من غير تصرف فيه، هكذا نقل ابن الصلاح والنووي وغيرهما الاتفاق عليه، ثم اختلفوا في جواز الرواية بالمعنى للعارف العالم فمنعها أيضًا كثير من العلماء بالحديث والفقه والأصول، وبعضهم قيد المنع بأحاديث النبي ﷺ المرفوعة وأجازها فيما سواه وهو قول مالك، رواه عنه البيهقي في المدخل، وروى عنه أيضا أنه كان يتحفظ من الباء والياء والتاء في حديث رسول الله ﷺ، وبه قال الخليل بن أحمد، واستدل له بحديث “رب مبلغ أوعى من سامع” فإذا رواه بالمعنى فقد أزاله عن موضعه ومعرفة ما فيه”.
ثم نقل الشيخ أحمد شاكر قول ابن الصلاح في مقدمته: “وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَجَازَهُ فِي غَيْرِهِ.
وَالْأَصَحُّ: جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا وَصَفْنَاهُ قَاطِعًا بِأَنَّهُ أَدَّى مَعْنَى اللَّفْظِ الَّذِي بَلَغَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَالسَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَنْقُلُونَ مَعْنًى وَاحِدًا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ مُعَوَّلَهُمْ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا نَرَاهُ جَارِيًا – وَلَا أَجْرَاهُ النَّاسُ فِيمَا نَعْلَمُ – فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ بُطُونُ الْكُتُبِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَ شَيْءٍ مِنْ كِتَابٍ مُصَنَّفٍ، وَيُثْبِتَ بَدَلَهُ فِيهِ لَفْظًا آخَرَ بِمَعْنَاهُ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى رَخَّصَ فِيهَا مَنْ رَخَّصَ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ، وَالْجُمُودِ عَلَيْهَا مِنَ الْحَرَجِ وَالنَّصَبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بُطُونُ الْأَوْرَاقِ، وَالْكُتُبِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ مَلَكَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ، فَلَيْسَ يَمْلِكُ تَغْيِيرَ تَصْنِيفِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”.
إذن فالملخص أنَّ الراوي إذا لم يكن عالمًا عارفًا بالمعنى فلا خلاف في منع روايته بالمعنى، وأمَّا إذا كان عارفًاعالمًا بالمعنى ففي ذلك خلافٌ كبير، ومن أجازه وضع له ضوابطَ وشروطَ، ومنهم من قصر جوازَه على الصحابة فقط، وفي جميع الأحوال لا يجوز ذلك في شأن المكتوب المسجَّل في بطون الكتب والأوراق، فالاستثناءُ في الرواية بالمعنى مساحتُه ضيقةٌ ومحاطةٌ بسياجٍ من الضوابط، وهذا مما وُجِدَ في منهج المؤرخين النقدي الحديث، وهو مقتولٌ بحثًا وضبطًا في منهج المحدثين منذ القدم.
- ألقى الكاتبان الضوءَ أكثر من مرةٍ على خطورة مسألة تطور الخطوط وأساليب الكتابة وأثر ذلك في تغيير الكثير من المعاني عن مراد الرواية الأصلية، لا سيما أنَّ اللغة العربية كانت ابتداءً بلا نقط وبالطبع بلا تشكيل، وكذلك تناولا أخطاء النُّسَّاخ في النقل، وهنا يظهر – في رأيي – أهميةُ دور الرواية المسموعة والتي كانت سابقةً في الانتشار على الرواية المكتوبة، ومع انتشار الكتابة والتدوين – والذي سأفرد له الفصل القادم بإذن الله – ظل التلقي سماعًا من الشيخ لتلميذه قائمًا لقرون، وهذا بلا شك أسهم كثيرًا في ضبط الألفاظ ونقلها كما هي، فالوثيقة المسموعة (الرواية) قد خضعت لكل شروط التحقيق القاسية التي وضعها المؤرخون للوثيقة المكتوبة، بل وكانت شروط المحدثين فيها أشد قسوة، فلا أدري لماذا يعتبرها البعض نقطة ضعف وما الفرق بين تحقيقها روايةً روايةً ولفظًا لفظًا وبين تحقيق الوثائق المكتوبة إذن؟ بل وزاد على ذلك فائدة ضبط الألفاظ بالسماع والحفظ والتحديث، وقراءة التلاميذ لما يكتبون على شيخهم، وقراءة شيخهم لكتابه عليهم وعدم الاكتفاء بتناقل الوثائق المكتوبة.
- أمَّا عن العدالة وأسئلتها، فقد تقدم شروطُ الراوي العدل، أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا غيرَ فاسقٍ ولا مخرومَ المروءة، وانظر كيف وًضِع في شروطها ليس فقط الثقة في أمانته وعدم ارتكابه للكبائر ومجاهرته بالمعاصي، بل جُعِل من شروط عدالته ألا يقع في الأمور “العيب” وإن لم تكن حرامًا، وفي ذلك مزيدٌ من الحرص والتحري والحذر، ومما اجتمع عليه الأستاذان في دراسة هذه النقطة مسألة أن يكون للراوي انتماء أو توجه يدفعه في اتجاه الاختلاق والكذب أو الاجتزاء، وضرورة دراسة تلك المسألة وأخْذ المؤرخ لها في الاعتبار، وهي نقطة أيضًا لم تفلت من اهتمام المحدثين ومنهجيتهم، فكان – مثلًا – مما حظى بدراستهم وتقعيدهم مسألة رواية المبتدع وهي موجودة في كل كتب المصطلح التي رأيت، أنقل كلام ابن الصلاح في مقدمته (التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يُكَفَّرُ فِي بِدْعَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَكَمَا اسْتَوَى فِي الْكُفْرِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ يَسْتَوِي فِي الْفِسْقِ الْمُتَأَوِّلُ وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ رِوَايَةَ الْمُبْتَدِعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْكَذِبَ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَوْ لِأَهْلِ مَذْهَبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعَزَا بَعْضُهُمْ هَذَا إِلَى الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ: ” أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافَقِيهِمْ “، وَقَالَ قَوْمٌ: ” تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً “، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ إِذَا لَمْ يَدْعُ إِلَى بِدْعَتِهِ، وَقَالَ: أَمَّا إِذَا كَانَ دَاعِيَةً فَلَا خِلَافَ بَيْنَهِمْ فِي عَدَمِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ أَحَدُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: ” الدَّاعِيَةُ إِلَى الْبِدَعِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا “، وَهَذَا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَعْدَلُهَا وَأَوْلَاهَا، وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ مُبَاعِدٌ لِلشَّائِعِ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ طَافِحَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فِي الشَّوَاهِدِ وَالْأُصُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، والراجح الذي ذكره الإمام في النهاية قد جمع الخيرين، خيرَ تحرِّي تأثير انتماء المبتدع ومنهجه في الرواية التي يرويها، وخيرَ الانصاف في عدم المساواة بين كل من تلبَّس ببدعة وردِّ روايته وإن لم يكن لبدعته تأثيرٌ على روايته.
ومن الحرص والتدقيق في هذا الباب – وهذه كله أمثلة سريعة وليست على سبيل الحصر – فرَّق المحدثون بين التائب من الكذب في حديث الناس وبين التائب من الكذب في حديث رسول الله ﷺ، إنَّ من يكذب في حديث الناس أو في حديث رسول الله ﷺ كليهما حديثه مردود، ولكن ماذا إذا تاب؟، يقول الإمام ابن الصلاح في المقدمة أيضًا: (الْعَاشِرَةُ: التَّائِبُ مِنَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، إِلَّا التَّائِبَ مِنَ الْكَذِبِ مُتَعَمِّدًا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا وَجَدْتُ لَهُ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: ” كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ، وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ “.
وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا افْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ مَنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إِسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَهَذَا يُضَاهِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، تأمل، من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب إسقاطُ ما تقدم من حديثه، ومهما كان الكاذب ماهرًا في صياغاته فلا بدَّ أنَّ كذبه تحت “ميكروسكوب” هذه القواعد سيثبت ولو مرة، وهي كفيلة بإسقاط كل ما قاله من قبل، فالأمر ليس بسيطًا.
- وأمَّا في مسألة الضبط، فقد مررنا سريعًا أيضًا في المقال المذكور عاليًا عن اعتناء المحدثين بهذا الباب وتصنيفهم الدقيق للرواة في درجات إتقانهم وحفظهم وكثرة أخطائهم، وكيف لم يتوقف تصنيفُ الضبط فقط على حفظ الصدر، بل حفظِ الكتاب أيضًا من الدَّس والتزييف، فمن كان مهملًا في كتبه يسهل على غيره أن يضيف فيها ويعدِّل سقط ضبطه، وذكرنا كيف بلغ تدقيقهم درجةَ تحديد الرواة الثقات الذين اضطرب حفظُهم مع ضعف حواسهم عند الكبر أو التعرض لمرضٍ أو التعرض لضياع الكتب التي يحدِّثون منها إذا كانوا ضابطين لكتبهم ضعفاء في حفظ الصدر، ووُضِعَت تلك التأريخات بدقةٍ في كتب الرجال والسير، وأشارت إليها كتبُ المصطلح، كتدريبِ الراوي للسيوطي، ومقدمة ابن الصلاح، والباعث الحثيث لابن كثير، وأقتبسُ من الأخير (النوع الثاني والستون: معرفة من اختلط في آخر عمره إما لخوف أو ضرر أو مرض أو عرض: كعبد الله بن لهيعة، لما ذهبت كتبه اختلط في عقله، فمن سمع من هؤلاء قبل اختلاطهم قُبلت روايتهم، ومن سمع بعد ذلك أو شكَّ في ذلك لم تقبل).
- ومن الاحتياط والتدقيق الشديد أيضًا أنَّه إذا اجتمع في راوٍ جرحٌ وتعديلٌ، فالجرحُ مقدَّمٌ على التعديل كما في(تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي) وقال ابن الصلاح: “إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ جَرْحٌ وَتَعْدِيلٌ، فَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ، وَالْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ خَفِيَ عَلَى الْمُعَدِّلِ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَقَدْ قِيلَ التَّعْدِيلُ أَوْلَى، وَالصَّحِيحُ – وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ – أَنَّ الْجَرْحَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”، كما أنه لا يُقبل التعديل على المبهم، بمعنى إذا قال الراوي: “حدثني الثقة” دون أن يسمِّيه لا يُقبل ذلك، لأنَّه قد يكون ثقةً عنده وليس ثقة عند غيره، وقد يكون للمبهم جرحٌ لا يعلمه ذاك الراوي.
- وعن القاعدة الثانية التي وضعها الدكتور عبد الرحمن بدوي في النقد الباطن السلبي: “يجب ألا نأخذ الوثيقة ككل، بل علينا أن نحللها إلى آخر ما يمكن أن تُحلَّل إليه من أجزاء وأن نبحث في قيمة كل جزءٍ من هذه الأجزاء وصحة دلالته على الوقائع الواردة به” فهذا واضح جلي في منهج المحدثين الذين يستطيعون بالمقارنة وجمع روايات الحديث الواحد استخراجَ الجملة الشاذة بل وأحيانًا الكلمة الواحدة الشاذة في الحديث كله، فصحَّةُ عمومِ الحديث لا تدفعهم لقبول كلِّ كلمةٍ في متنه دون تدقيق، فيسجلون ما انفرد به راوٍ عن سائر الرواة، أو ما خالف فيه ثقةٌ من هو أوثق منه ثم يحكمون عليه بما يناسبه في التصحيح والتضعيف.
- أشار الدكتور أسد رستم إلى نقطة (التفرُّد)، وشرحها في نقطةٍ وقاعدةٍ منفصلةٍ تحت عنوان (إثبات الحقائق المفردة) طالَبَ فيها المؤرخين بالابتعاد عن الروايات التاريخية التي انفرد بها واحد، ثم قدم شرحًا مفصلًا لتقسيم علماء الحديث للحديث من حيث عدد النقلة – والذي ذكرته في الفصل الأول – إلى متواترٍ ومشهورٍ وعزيزٍ وغريبٍ، وأقوال علماء الحديث في اعتبار كون الحديث عزيزًا شرطًا من شروط الصحة أو لا (والراجح لا كما نقل الدكتور وكما هو معلوم في كتب المصطلح ) ثم علَّق على ذلك في هامشه (هذا ولا يخفى أن التاريخ شيء والحديث شيء آخر، وأن ما دفع المحدثين إلى قبول رواية الفرد في الحديث الصحيح إنما هو تدقيقهم في أحوال الرواة وعنايتهم في الجرح والتعديل، وليذكر القارئ الفطن في الوقت نفسه أن القواعد الواردة أعلاه هي للروايات التاريخية لا لرواية الحديث فقط).
وهذه نقطةٌ مهمةٌ ينبغي الإشارةُ إليها، فعلماء الحديث وإن كانوا لم يجعلوا وجودَ راويين في الطبقة كحدٍ أدنى شرطًالصحة الحديث فإنَّهم أيضًا لم يقبلوا التفرُّدَ مطلقًا، فهم لم يقبلوا تفردَ الثقةِ عن الثقات في شرط انتفاء الشذوذ كما ذكرنا، فلذلك كان لقبولِ التفردِ أيضًا شروطٌ متعلقةٌ بهذا الراوي المتفرِّد، فليس كلُّ الرواة يُقبل منهم التفردَ، حتى وإنْ كان حديثُهم في الأصلِ مقبولًا، يقول ابن الصلاح في المقدمة: “وَمِثَالُ الثَّانِي: وَهُوَ الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ مِنَ الثِّقَةِ وَالْإِتْقَانِ مَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ تَفَرُّدُهُ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُكَيْرٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ” كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ غَاظَهُ، وَيَقُولُ: عَاشَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْجَدِيدَ بِالْخَلِقِ “. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو زُكَيْرٍ، وَهُوَ شَيْخٌ صَالِحٌ، أَخْرَجَ عَنْهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ مَنْ يُحْتَمَلُ تَفَرُّدُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”، وذلك في تعريف الحديث المنكر، وفي تدريب الراوي يقول الإمام السيوطي: “وَالْحَاصِلُ إِنَّ الشَّاذَّ الْمَرْدُودَ هُوَ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ، وَالْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مِنَ الثِّقَةِ، وَالضَّبْطِ مَا يُجْبَرُ بِهِ تَفَرُّدُهُ، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يُجَامِعُ الْمُنْكَرَ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ”، إذن فقد وقع التمايز حتى بين الثقات والصدوقين من الرواة فيمن يُقبل منه التفردُ ومَن لا يُقبل منه التفردُ بحسب درجة الوثوق في حفظه وإتقانه، يقول ابن الصلاح: “إِذَا انْفَرَدَ الرَّاوِي بِشَيْءٍ نُظِرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ لِذَلِكَ، وَأَضْبَطُ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ رَوَاهُ هُوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الرَّاوِي الْمُنْفَرِدِ: فَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَافِظًا مَوْثُوقًا بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ قُبِلَ مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَلَمْ يَقْدَحِ الِانْفِرَادُ فِيهِ، كَمَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ لِذَلِكَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ كَانَ انْفِرَادُهُ بِهِ خَارِمًا لَهُ، مُزَحْزِحًا لَهُ عَنْ حَيِّزِ الصَّحِيحِ.
ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ دَرَجَةِ الْحَافِظِ الضَّابِطِ الْمَقْبُولِ تَفَرُّدُهُ اسْتَحْسَنَّا حَدِيثَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ نَحُطَّهُ إِلَى قَبِيلِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ ذَلِكَ رَدَدْنَا مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّاذِّ الْمُنْكَرِ.
فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّاذَّ الْمَرْدُودَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَدِيثُ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ، وَالثَّانِي: الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ مِنَ الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ مَا يَقَعُ جَابِرًا لِمَا يُوجِبُهُ التَّفَرُّدُ وَالشُّذُوذُ مِنَ النَّكَارَةِ وَالضَّعْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”.
- في ظل كلِّ ما سبق فإنَّ العبارة الشهيرة (وما يمنع أن يختلق أحدهم حديثًا ويركِّب له سندًا ذهبيًا كاملًا متصلًا رواته عدولٌ ضابطون وبالتالي يدسُّ في السنة بسهولة ما ليس منها) تبدو شديدةَ السذاجةِ رغم انتشارها، وهل يظن أحدُهم أنَّ الأحاديثَ الموضوعةَ المحجوزةَ على شبَّاك المحدثين كان الراوي يرويها بالضرورة بلا سند أو بسند فيه رواة معلومو الكذب والضعف؟ بالقطع لا، فإن كان هذا المختلِق الواضع للحديث في زمن الراوية فلا بدَّ أن ينتهي السند إليه، فإن ركَّب للحديث إسنادًا صحيحًا تمامًا مثلًا (مالك عن نافع عن ابن عمر) سيبقى السؤال كيف وصله الحديث عن مالك، فإن قال سمعت مالكًا أو حدثني مالك، فقد دخل الواضعُ بنفسه في السند وستكشفه قواعدُالحديث ومعرفة الرواة، هل سمع من مالك حقًّا أم بينهما انقطاع؟ هل هو ضابطٌ حافظٌ؟ هل انفرد به عن مالك ولم يذكره أيُّ تلميذٍ من تلاميذ مالك غيره؟ وهل هو أهلٌ لهذا التفرد؟ وهكذا، أمَّا بعد انتهاء زمن الرواية واستقرار الحديث في الكتب الكبرى، فهو حينها لا يملك بعد أن يسوق الاسنادَ المزيَّف إلا أن ينسب وجودَه إلى كتابٍ من تلك الكتب لأنَّ قطعًا لن يكون قد سمع من آخر راوٍ كالبخاري أو مسلم أو النسائي أو أحمد أو ابن ماجة أو أبو داود أو الطبراني … إلخ، والكتب موجودة ويمكن دراسةُ إذا ما كان الحديثُ بسنده هذا موجودًا في الكتاب أم لا؟ لذلك فكوْنُأن يخرجَ خطيبٌ مثلًا ويقولَ حديثًا لا أصل له ويؤلِّف له سندًا أو يقول: رواه فلان وهو لم يروه، أو لا يقول من رواه أصلًا، ولا ما مصدره فهذا لا يعني نجاحَه في تمريرِ الباطل، أو فشلَ منهج المحدثين في كشفه، فكوْن المستمعين يثقون فيه ولا يبحثون في الكتاب الذي يَنسِب إليه الحديثَ، أو لا يبحثون وراءه في الأحاديث التي يرويها بلا أي ذكرٍ للمصدر، فهنا علم الحديث لم يُستَخدَم أصلًا كي نقول إنَّه فشل في الإمساك بهذا الاختلاق، بل كم أمسك هذا العلم ربما بآلاف الأحاديث المختلقة خلال أربعة عشر قرنًا، وهل قام علم الحديث أصلًا إلا من أجل هذا؟
جدير بالذكر والتذكير في نهاية هذه المقارنة
ليس هدفُ هذه المقارنة السريعة شرحَ منهجِ علماء الحديث فضلًا عن منهج المؤرخين، وإنَّما الهدفُ الإجابةُ عن سؤالِ (هل علم الحديث علم أكاديمي محترم فعلًا؟ أم مجموعة من القواعد العشوائية غير العلمية؟)، لذا فبعد عرض الخطوط العامة للمنهج العلمي الحديث في علم التاريخ المُستخدَم شرقًا وغربًا والذي وُضِعت قواعدُه في القرنين الماضيين فقط، أردتُ الإشارة إلى مدى انطباق تلك القواعد على علم الحديث وبشكلٍ أشد تفصيلًا وتدقيقًا رغم أنَّنشأته بدأت – تدريجيًا- منذ أربعة عشر قرنًا، فكانت اختياراتي للأمثلة والتعليقات منصبةً على ما يُوضِّح ذلك – في رؤيتي – أولًا، ومنصبةً ثانيًا على نقاطٍ يكثر فيها التشويشُ على علم الحديث وادِّعاء إغفاله لها إما بجهلٍ من المتحدث أو اعتمادًا على جهل المستمع.
هذه المقارنة تستهدف الفهمَ والتبسيطَ، وقد قمتُ بها بنفسي بين قواعد علم الحديث الأساسية الموجودة في كتب المصطلح البسيطة وبعض شروحها، وبين ما قرأت عن منهج المؤرخين العلمي في الكتابين اللذين صاحبانا في السطور السابقة، وهناك مقارناتٌ ودراساتٌ قام بها متخصصون، فيها الكثيرُ من النفع والعمق والتنظيم، ولذلك فأحيل القارئ الكريم إليها ومنها (المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، للدكتور عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي، الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات 2014) وهو كتاب نافع جدا وتناول أمورًا لم أشر إليها هنا منها جهود علماء الحديث المتأخرين في ضمان حفظ الكتب ومحتواها كما تركها أصحابها على مدى قرون ما بعد زمن الرواية والحفاظ عليها من الدسِّ والحذف، وكذلك كتاب (منهج النقد عند المحدثين مقارنًا بالمنهج النقدي الغربي، للدكتور أكرم ضياء العمري، مركز الدراسات والإعلام، دار أشبيليا).
لقراءة المقالات السابقة من سلسلة المكانة العلمية لعلم الحديث اضغط هنا
https://almohaweron.co/the-status-of-alhadeeth-science1/
الكاتب: معتز عبدالرحمن