عرض ونقد

الرد على شبهة تقول: إن عدم جواز صيام الحائض لا دليل عليه


الشبهة :

ادّعى بعضهم في مقال أنّ الفقهاء اخترعوا حُكم عدم صيام الحائض، وأنّه ليس لهم في ذلك دليل، وقالوا بأنّ الآية بينت سببين اثنين فقط في رخصة الإفطار في نهار رمضان، وأنّه لا يمكن الاستدلال على منع صيام الحائض بالمرض؛ لأنّ الحيض ليس مرضًا، ولا يصح الاستدلال عليه من باب الطهارة لأنّه لا علاقة لها بالصيام، وقالوا: لو كان صيامها لا يصح لتعارض ذلك مع صيام الكفارة الذي يشترط فيه التتابع، وعَدُّوا بذلك منع صيام الحائض اختراعا فقهيًّا ما أنزل الله به من سلطان!


الجواب :

أولًا:
المقال يصور العلماء كأنهم دسُّوا مؤامرة على الناس واتفقوا على إخفاء الدين الحقيقي عنهم، وهذا كلام تافه يأباه العقل؛ لأن العادة تمنع تواطؤ العدد الكثير والجم الغفير، -في مختلف البلاد، ومتغاير الأزمان، ومتباين المذاهب والمشارب- على كذبٍ متعمّـد، والعادة أيضا تحيل وقوع هذا الاتفاق صدفةً، فلم يبق إلا أنه اتفاق واقع عن دليل.
وهذا المسلك الضال أيضا يستلزم الطعن في حفظ الله لهذا الدين، ومؤداه أن كل شيء في الدين يمكن الشك فيه، ومن ثَمَّ يأتي كل من هب ودب ويخبِطُ خبط عشواء في مسائل الشرع، وهذا لا شك في بطلانه.

وقد سبق أن تكلمنا عن:
نظرية المؤامرة الفقهية هذه :
لقراءتها اضغـــط هنــــا

وكذلك تكلمنا عن:
أزمة الثقة المفتعلة ومآلاتها :
لقراءتها اضغـــط هنــــا

ثم إن هذا التسخيف لا يصدر إلا عن كذاب أو جاهل بأصول الاستنباط وطرائق التفقه التي يسير عليها العلماء، والتي يستند عليها قولهم بهذا الحكم وغيره.


ثانيًا:
يدّعي الكاتب عدم وجود دليل على حُرمة صيام الحائض، رغم وجود عدد من الأدلة، منها:

– قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن عن المرأة: ” وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِى رَمَضَانَ “.

– وكذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي قال: ” أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا “.

– إضافة إلى ما رواه البخاري ومسلم أن مُعَاذَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ : “سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ ولَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ ” .

– وأجمعت الأمة على حُرمة صيام الحائض، ونقل الإجماع الكثير من أهل العلم، ولا يُعرف في المسألة أي خلاف أو شكّ، ومُحال أن تجتمع الأمة على ضلالة.

يقول الإمام النووي في شرح المهذب: “فأجمعت الأمة على تحريم الصوم على الحائض والنفساء، وعلى أنه لا يصح صومها”.

 ونشير إلى لوازم خطيرة تترتب على تخطئة المجمعين يجب الانتباه لها:
لقراءتها اضغـــط هنـــــا

وإذا كان استشكال الأدلة من جهة حجّية السنة أو الإجماع، فننصح بالاستماع إلى هذه المحاضرات المهمة:

لتأصيل حجّية الإجماع :

يمكن الرجوع لهذه المحاضرات ← اضغط هنـــــا

لتأصيل حجّية السنة :

يمكن مشاهدة هذه المحاضرات ← اضغط هنـــــا

—————————————–

ثالثًا:

ورود سببين للفطر في الآية لا ينفي وجود غيرهما، خاصة أن الآية إنما ذكرت أسباب الفطر، ولم تتطرق إلى موانع الصيام، والحيض هو مانع من الصيام، لا سبب للفطر، لأن سبب الفطر هو ما يجيز الفطر ويجوز الصوم معه لو صام، وأما المانع فإنه يحرم معه الصوم، وهذا هو حال الحيض.

ثم إن السنّة تُفصّل ما أجمل القرآن؛ وهذا نفس ما نجده في أحكام أخرى مثل: إجمال ذكر الصلوات ومقادير الزكاة وأسباب رخصة قصر الصلاة والمحرمات في النكاح وغير ذلك كثير؛ فأسلوب الكاتب في الاستنتاج يدل مجددا على أنه لا بصر له في هذا الباب.
وإذا عُلم ذلك؛ فلا حاجة لنا ببقية تحليلات الكاتب حول المرض وعلاقة الحيض به، فلم يقل العلماء بهذا الربط أصلا، وإنما هو توهُّمٌ من الكاتب.

ولذلك؛ نجد اختلافا في أحكام الحائض وفطرها عن أحكام المريض، فالمريض مثلا له أن يصوم إن استطاع، بخلاف الحائض فليس لها ذلك، ولا يصح منها لو صامت.

————————————————

رابعًا:

الكاتب يَنسِب للفقهاء ما لم يقولوا به ويرد على الرأي المخترع الذي نسبه إليهم!!

كل ذلك من غير توثيق للأقوال، وهذا مطعن علمي كبير، كما فعل فيما نسبه لهم من تعليل فطر الحائض بعدم الطهارة وغيرها من التخيلات.

وينقض ما ذَكر أن المرأة إذا انقطع عنها الحيض قبل الفجر تصوم ولو لم تغتسل إلا بعد الأذان ويصح صومها كالجنب.

قالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: “وَكَوْنُ الصَّوْمِ لا يَصِحُّ مِنْهَا لا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهَا”. ذكره الإمام النووي في “المجموع” (2/386).

ولا يشكل على ذلك مسألة صيام الكفارة؛ لأن العذر لا يقطع التتابع كما هو معلوم، ولا فرق بين الحائض في هذا وبين المريض.

————————————————

خامسًا:

الخلاف الذي يدعيه الكاتب هو من بنات فكره، ومخترعات خياله، والعلماء بأجمعهم متفقون على هذه المسألة؛ أخذًا بالحديث وعمل المسلمين المتصل بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخالف في سقوط الصيام عن الحائض حال حيضها وعدم صحته منها إن هي صامت أحد من المسلمين.

وإنما وقع الإشكال عند الخوارج في التفريق بين الصلاة والصيام في لزوم القضاء على الحائض، حيث يجب عليها قضاء الصيام دون الصلاة، واستشكالهم ناشئ من أن القياس هو لزوم القضاء في الأمرين، لكن فاتهم أن الشرع فرَّق بينهما لعلل كثيرة.

ولذلك؛ عندما سُئلت عائشة رضي الله عنها : “لِمَ تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟” قالت للسائلة: أحرورية أنت!؟”، والحرورية فرقة من فرق الخوارج.
فهذا الأمر كان حكما ظاهرا مستقرا حتى عند الخوارج، وإنما استشكلوا التفريق في القضاء.

وفي تتمة جواب عائشة رضي الله عنها قالت: “كان يصيبنا ذلك؛ فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة”.

————————————————

سادسًا:

وأمّا الحِكمة من تحريم صيام الحائض، فلم يرد فيها نص شرعيّ، ولهذا اختلف العلماء في تحديدها.

 فقال بعض العلماء: إن الحُكم تعبدي، والحِكمة غير معلومة لنا، والغالب في العبادات وما يتعلق بها من شروط وأركان وتفاصيل أنها توقيفيّة؛ نقف فيها على ما أمر به الشرع ولا نتجاوزه.

وسبق أن ذكرنا قول إمام الحرمين: “وَكَوْنُ الصَّوْمِ لا يَصِحُّ مِنْهَا لا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ , فَإِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهَا”. نقله النووي في المجموع (2/386).

 وقال علماء آخرون: إن الحِكمة في نهي الحائض عن الصيام وقت الحيض الشفقة بها ولعدم الإضرار بصحتها؛ لأن خروج الدم يُضعف المرأة وتحتاج معه إلى شرب السوائل وغير ذلك، فإذا صامت وهي حائض لن تُعوِّض ما تفقده بل سيزداد ضعفها ووهنها ويخرج الصيام عن حدِّ الاعتدال،

وفي هذا يقول شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (25/234):

” فَنَذْكُرُ حِكْمَةَ الْحَيْضِ وَجَرَيَانَ ذَلِكَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ: وَصَوْمُهَا فِي الْحَيْضِ يُوجِبُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ دَمُهَا الَّذِي هُوَ مَادَّتُهَا وَيُوجِبُ نُقْصَانَ بَدَنِهَا وَضِعْفَهَا وَخُرُوجَ صَوْمِهَا عَنْ الاعْتِدَالِ، فَأُمِرَتْ أَنْ تَصُومَ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْحَيْضِ”.

وقد يستشكل أحد على هذه الحِكمة ويقول: ولكن خروج الدم الذي يُضعف ليس في كل الأيام والأوقات، فهذا يدل على أن لها صيام بعض الأيام !؟

فنجيب على هذا ونقول :

• إن هذه مجرد حِكمة وليست علّة، ويجب الانتباه إلى الفرق بين العلّة والحِكمة، فـ(العلّة) هي الوصف المؤثر في الحكم الشرعيّ، يثبت بوجودها وينتفي بعدمها، أمّا (الحِكمة) فهي المصلحة التي من أجلها شُرع الحكم، ولا يتوقف الحُكم بالضرورة عليها.

والعلّة المُنضبطة في مسألتنا والمذكورة في الأدلة والتي يدور معها الحُكم بتحريم الصيام وجودًا وعدمًا هي الحيض، فيزول التحريم فقط عند انتهاء الحيض بعلاماته المعروفة، ولا يجوز صيام أي يوم من أيام الحيض وإن لم يكن فيه فتورٌ أو ضعف.

• ولعلّ حِكمة كون العلّة هي الحيض وليس وصفًا آخر:

أن الشرع دومًا يُعلق الأحكام بالأوصاف المُنضبطة، فلو عُلِّق الحُكم الشرعيّ على كمية الدم أو ما أشبه ذلك لن ينضبط الحُكم لعدم وجود حدّ فاصل نقف عليه، من ثَمَّ سيحصل تباين واختلاف في تحديد كمية الدم التي تُضعِف، وستحصل مشقة كبيرة عند تنزيل كل امرأة الوصف على حالتها لتعرف متى تصوم ومتى تُفطر، مما يُوقع في الاضطراب والحرج بدلًا من التخفيف، وهذا يُخالف مقاصد التشريع، فعُلِّق الحُكم على وصف منضبط يسهل معرفته وضبطه كالحيض.

وقد يكون كذلك من باب التيسير؛ فالشرع وَسّع دائرة الحُكم بتعليقه بأيام الحيض كلها لا بأيام خروج الدم الكثير أو ضعف المرأة تخفيفًا وتيسيرًا على المرأة، ومن سوء الأدب أن يُقابل العبد رخصة مولاه ومِنّته بالرفض والاعتراض ومخالفة أمره عز وجل، بل الواجب شكر الله على نعمته وفضله، وإدراك محاسن شريعة الإسلام السمحة.

فهذا بعض ما ذُكر في حِكمة تحريم صيام الحائض والله أعلم، وهي أمور اجتهادية، وقد لا يكون الحُكم الشرعيّ محصورًا فيها أصلا ويوجد غيرذلك مما لا نعلمه، لأننا لن نقدر بعقلنا البشري الإحاطة بعلم الله عز وجل وحِكمته كما قال تعالى:{ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء}.
كما أنه ليس شرطًا أن يعرف العبد الحِكمة في كل أمر شرعيّ، بل الأصل أن يُوطن نفسه على التسليم لأوامر الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم}، وأن يتيقن بلا شكّ أن لله تعالى حِكمة في كل ما شرع وأمر، سواء أدركها عقله القاصر أم لم يدركها، وذلك لإيمانه بكمال علم الله وحكمته ورحمته، فإذا أمر الملك جل جلاله المرأة بعدم الصيام والصلاة وقت الحيض ما عليها إلا أن تقول: سمعنا وأطعنا، وتتعبد لله عز وجل في كل الأحوال والظروف بما شرّع وأمر .

هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الكاتب: الفريق العلمي لقسم الأحكام الشرعيّة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى