السؤال :
يتردد في الآونة الأخيرة استشكالٌ مفاده:
أنّ الإنسان إذا ولد مسلماً = لم يكن له في ذلك اختيار، فكيف تقام عليه عقوبة الردّة إذا كبر واختار غير الإسلام؟
الجواب :
لإزالة هذا الاستشكال سنتحدث ضمن ثلاثة محاور :
- الأول : نؤصل فيه الحقائق والثوابت التي ينطلق منها تجريم الردة وعقاب فاعلها .
- الثاني : نلتمس فيه بعض الحِكَم في التسوية بين المرتد بعد أن اختار الدخول في الإسلام، والمرتد بعد أن وُلد مسلماً.
- الثالث : نُسلط فيه الضوء على الأخطاء المنهجية التي يقع فيها مستشكل هذا الحُكم الشرعيّ .
فإلى تفصيل هذه المحاور .
- أولاً : الحقائق والثوابت التي ينطلق منها تجريم الردة وعقاب فاعلها .
- الإسلام وحده الدين الحق, وعقوبة الردة للمعاند المجرم.
إن تجريم الردة والعقاب عليها مبني على شيء أساسي لا يمكن تَفَهُّم الحكم بدونه، وهو أن هذا الدين حق وما سواه باطل، وأنه دين الفطرة، الذي لا يمكن أن ينحرف عنه بحسن نية أحد إلا بسبب التباس، وبالتالي فإن الاستتابة التي تكون عند ثبوت الردة تزيل هذا الالتباس وتردّ الشخص للصواب رحمة به وعناية بمصلحته الدنيوية والأخروية، فإذا زال اللبس وأصر الشخص رغم ذلك, فلا بد أن يكون هذا الشخص معاندا مجرما، خاصة أننا لا ننقب ونفتش عن من يخفي ردته، بل يكون الحدّ لمن جاهر وأصر, أما من ستر على نفسه فهذا لا يبحث عنه. - أن حق الله أعظم حق, والكفر به أعظم جرم. إن أعظم حق هو حق الله ﷻ, وأعظم جرم هو الكفر به ،وعقوبة الكافر في الآخرة أشد العقوبات، وهذه حقيقة تقف الغفلة عنها في خلفية استشكال تجريم الردّة عموماً, ومن تأمل في كتاب الله ﷻ وجد ذلك واضحا.. ثم مع ذلك, فإن الله ﷻ أمهل الكافر في الدنيا ولم يوجب قتله على كل حال، إلا في صور يتزايد فيها الجرم، ومنها صورة الردة, فالردة كفر مغلظ، لسان حال صاحبه أنه جرب الإسلام فوجده باطلا، وهذا أشد من الكفر المجرد, وفيه مفاسد متعدّية متعدّدة شديدة الخطورة, فهو يشكّل فتنة لبعض الناس, وخلخلة لنظام المجتمع المبني على الإسلام, وخروجا عن النظام الإسلامي بالإعلان عن بطلان أساسه، والإسلام كل لا يتجزأ، شعائر وأحكام ونظام عام يشمل كل جوانب الحياة.
- ثانياً : الحِكَم الملتمسة في التسوية بين المرتد بعد أن اختار الدخول في الإسلام، والمرتد بعد أن وُلد مسلماً.
الحكمة الأولى هي أن الثوابت التي يقوم عليها تجريم الردة مشتركة بين الإثنين .
إذا عرفنا هذه الحقائق السابقة, ومنها أنّ الجرم متزايد في المرتد عن الكافر الأصلي, فإنّنا نجد أنّ هذه المعانى مشتركة بين من ارتد بعد بعد أن اختار الدخول في الإسلام، والمرتد بعد أن وُلد مسلماً, وذلك ظاهرياً ومعنوياً, فظاهرياً لأنّ بقائه مسلماً بعد بلوغه ولو لفترة يسيرة هو اختيار, ومعنوياً لأنّ كلاهما عرف الحق ثم ارتدّ عنه, فالذي كان كافراً أصلياً هداه الله سبحانه وتعالى للإسلام بعد أن كان في الظلمات وعرف الحق ثم ارتد، والذي ولد مسلماً عرف الحق بالفطرة ونشأ عليه, ثم كان جزاء النعمة أنه كفر بالإسلام وارتد! فكلاهما يتوفر فيه نفس المعنى وكلاهما متساوي من هذا الوجه، بل قد يكون المولود على الإسلام أولى بمعرفة ذلك لكونه لم يتعرّض لتحريف الفطرة, ولديه أسباب الثبات والفهم الصحيح للدين أكثر من غيره, ففطرته تقوم مقام الاختيار وزيادة ، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) أخرجه الشيخان، وكلاهما متساوي أيضا من وجوه المفاسد المتعديّة المتعدّدة الأخرى.
الحِكمة الثانية هى أن علّة الحُكم الشرعيّ لابد أن تكون منضبطة .
ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار عند النظر في الحِكم من الأحكام الشرعية وتحقّقها في صور الحُكم, أنّ الأحكام الشرعية تراعي تحقيق المصالح والمفاسد على وجه الأغلبية، أي أنّه قد توجد صورة معينة لا يتّضح للمتأمّل أنّه تنطبق عليها أحد الحِكم الملتمسة بشكل تام، ومع ذلك ينطبق عليها الحكم الشرعي؛ لأن الشريعة قد تحيط محلّ الحكم بدائرة أوسع، وذلك من باب الحرص على جلب المصلحة ودفع المفسدة، وكذلك من باب انضباط الحكم، فمثلاً: قد لا تنضبط قضية (هل هذا أخذ فترة كافية للتفكير والإختيار وغيره لم يأخذ)..
فهل تنضبط بمجرد البلوغ؟ أم التمييز وفهم الأشياء؟ فبعض الناس يكبر على الإسلام سنوات متعددة ويصل للثلاثين أو أكثر وليس عنده التصورات الأساسية الصحيحة عن الإسلام! وعندئذ ستجد أن القضية لن تنضبط ويختل نظام الحُكم الشرعيّ، لذا علقت الشريعة الحُكم على الردة عموما واحتاطت له بالاستتابة، ولم تفصّل فيه تفصيلا يصعب فيه الرجوع إلى معنى منضبط .
وهنا يجدر التأكيد على أنّ الحِكم التي تُلتمس لِحُكم من الأحكام قد تكون اجتهادية مبنية على التفكر والنظر البشري المحدود, وقد يوجد غيرها مما نعلمه أو لا نعلمه، كما قال تعالى:{ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء}، فقد لا يكون الحكم الشرعي محصوراً فيها أصلا, فلا يتوقف الحكم على تصوّر وجود كل منها بوضوح في محل الحكم الذي دلّ عليه النص, والمسلم بإسلامه صدّق بأنّ الله تعالى مستحق للانقياد والتسليم، وأيقن أنّه عليم حكيم، فإن فاته تصوّر الحكمة بموضع، فإنّ ذلك ثابت له بالبرهان العام، مشاهد له بالعيان في كثير من الأحكام الأخرى، فالعقل يقضي بأن يبني على دليله, ويقيس ما غاب عنه من قليل على ما ثبت لديه من كثير.
- ثالثاً : الأخطاء المنهجية التي يقع فيها مستشكل هذا الحُكم الشرعيّ .
- الغفلة عن كون الإسلام حقاً واضحاً مُبرهناً عليه. في نظري إنّ استشكال عقوبة الردّة بالنسبة لمن وُلد على الإسلام يبرز بسبب نظرة قد لا يشعر بها كثير من المستشكلين, وهي أنّ المستشكل ينظر للإسلام كقناعة شخصية نسبية مثلها مثل غيرها من الاعتقادات غير المبرهنة, فيضع الإسلام وغيره على قدم المساواة, ثم ينظر بعين الاستشكال إلى مثل هذا الحكم الذي بني على رؤية مختلفة تماماً, وهي أنّ الإسلام حقّ واضح لا لبس فيه لمن عرفه وتفكّر في أدلّته, سواء ولد عليه أو دخل فيه وهو كبير ، بل قد يكون المولود عليه أولى كما وضحنا سابقا. ويُمكن مراجعة هذه الإضاءة المنهجية التي توضح أهمية وآثار هذه القضية الفارقة .
- الاحتكام إلى معايير خاطئة . إن هذا الاستشكالات لم تظهر غالبا إلا بعد انتشار المزاج الليبرالي الذي يجعل الإنسان هو مركز الوجود بدلا عن الخالق تعالى، وبالتالي هو يغلو فيه من جهة حريته واستنكار الإلزام الديني عليه، والمسلم يرفض أساس هذا التفكير المنحرف إذ لا معنى للوجود أصلا إلا بالله، ومن حق الله الذي يدرك بأدنى تفكير أن يعبد ويطاع ويسلم لحكمه وتتخذ المواقف القلبية والعملية بناء على طاعته سبحانه، فلا يصحّ أن نستحيي من الأحكام التي تصادم المزاج الليبرالي لأنّنا نعرف بطلانه في ميزان الحق ومعنى الوجود وغايته، بل هو المستنكر الذي أُسّس على فهم خاطئ للحياة ولطبيعة الوجود وعلاقته بالرب سبحانه، فهي علاقة خضوع وتعبد لا مجرد اعتراف وتصديق.
- الوقوع في التناقض . ومن العجيب هنا أنّ بعض المستشكلين يستسيغ إلزام المولود في دولة بقوانينها رغم أنّه لم يختر الانتماء لها, مع أنّ الدولة لا تستحق الربوبية ولا الألوهية ولا عبودية الطاعة المطلقة, وليست هي أو ما صدر عنها حقا مطلقا لمجرد كونها دولة, ثم يستشكل نفس هذا الشخص أن يلزم المولود على الفطرة بدين الحق, الذي رضيه لنا الرب الإله الذي تنبني على ربوبيته وألوهيته رؤية الوجود بأسره, ويستحق الطاعة المطلقة والتسليم والانقياد لذاته سبحانه!
وأخيراً إنّ مثل هذا الاستشكال وما يشبهه يحتاج للتفكر في أمرٍ, وهو أن الإسلام دينٌ مبرهنٌ برهنة قطعية، والقطعي لا يناقضه شيء, فإن من مبادئ العقل البدهية امتناع التناقض بين الحقائق، فكيف والمُعارِضات التي تذكر كلها توهمات استذواقية ليس لها أية تأسيس عقلي يمكن أن يُعارض به.. فلو سألت أي مستشكل ما المانع عقلا من أن يعاقب من يكفر بالله بعد إسلامه ؟
لما حار جوابا عقليا، ولما وجد إلا التبرير العاطفي، أو الرجوع لفكرة تأليه الإنسان واستبعاد الرب سبحانه من الحكم والهيمنة، ونفي تأسيس الحياة على أساس العبودية.
وهذا جوابٌ سابق فيه رد على من يستنكر عقوبة المرتد بشكل عام ، يَحسُن مراجعته.
الكاتب: طارق بن طلال عنقاوي