كنا قد تكلمنا في المقال السابق(1) عن دعوى وجود معلم للنبي عليه السلام وهنا نكمل الحديث عن ذات الدعوى في آخر احتمالين للنقل من معلم بشري!
الاحتمال الثالث في الميزان
أستاذية وثنيي مكة :
وهو أن محمدا ﷺ قد درس التوراة والإنجيل على يد العرب (أهل مكة)، وهو احتمال لايعرف له صاحب يتبناه، ولا يصمد أمام اعتراضات كثيرة؛ من أهمها:
ا- أهل مكة (أمة أمية).. وهم أجهل من أن يمتلكوا كل الحقائق التي تعرض أو تنقض ما عند أهل الكتاب في أسفارهم المقدسة.
۲- رغم أنه من الممكن أن يكون أهل مكة مطلعين على بعض قصص أنبياء السابقين، إلا أن هذا الاطلاع لا يمكن أن يكون قد تجاوز مرتبة أخبار العامة كالأسماء والأماكن دون التنصيص على التفاصيل الدقيقة التي إن حاولوا ذكرها فسيتورطون في ذكر أساطير مسرفة في الخيال
3- عدم اهتمام العرب بقصص الكتاب المقدس، وذلك لأسباب، أهمها عدم وجود الموضوعات الدينية في أدبهم، وندرة المعتنقين الجدد، وتشتتهم.. هذا بالإضافة إلى عدم شغفهم بالقصص الديني . .
4- احتج القرآن لصالح ربانیته بقصص الأنبياء والأمم الغابرة التي ذكرها :
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [القصص : 44 ، 45 ]
{ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود-49]
{ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران 44]
ولو أن هذا القصص كان معلوماً عند العرب، لما استدل القرآن على ربانيته بما رواه عن الأنبياء السابقين ؛ إذ كيف يستدل الكتاب بما يعلمه العرب لإثبات نبوة (محمد ﷺ) ؟!
. التفاصيل الكثيرة والدقيقة التي وافق فيها القرآن الكريم أسفار أهل الكتاب لا يمكن أن تنتقل إلى (محمد ﷺ) عن طريق أمة من الناس لا تعرف عن أهل الكتاب إلا مجموعة (عناوین) عائمة. ولعلنا نوضح هذه المسألة بمثالين صارخين :
. إيليا والبعل
قال تعالى: { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } [الصافات 123-126]
هذا النص هو حدیث واضح جلي عن قصة (إيليا) النبي التي وردت أيضا في الكتاب المقدس،
علما أن الاسم (إيليا) (1998) إيلياهوا العبري يكتب في اليونانية(2) (إلياس) ، وهو في واحد من وجهيه في السريانية(3) [إلياس]، ويسمي النصارى العرب في الشام الكثير من الأماكن الأثرية والدينية التي ترتبط بهذا النبي بأديرة (إلياس) أو كنيسة (إلياس). ويخبرنا الكتاب المقدس أن (إيليا) كان ينهي قومه عن عبادة الإله: (بعل)(4) بعد أن أدخل اليهود عيادته ضمن شعائرهم بسبب أن زوجة آخاب الملك الإسرائيلي كانت تعبد (البعل)(5) .
والناظر في التفاسير المبكرة – وهي التي تعنينا في هذا المقام ، يرى أن عامة المفسرين على أن المقصود ببعلا في الآية هو الرب باعتبار أن أهم معاني هذه الكلمة في اللغة: «الرب» و«السید»؛
قال ابن کثیر: قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي : بعلا، يعني: ربا ، والأغرب أن كثيرا من المفسرين الأولين في القرون الأولى بعد البعثة النبوية، ومنهم الصحابة رضوان الله عليهم، قد ذهبوا إلى أن (إلياس) هو (إدريس)، رغم أن القرآن الكريم ليس من عادته أن يعطي للنبي الواحد اسمين متباعدين لفظاً، كما أن الكتاب المقدس لا يذكر نبياً باسم (إدريس)، بالإضافة إلى أنه من الراجح – عند عدد من الدارسين – أن (إدريس )القرآني ، هو (أخنوخ) في أسفار أهل الكتاب!
فكيف يظن أحد بعد ما سبق ذكره أن الجزيرة العربية كانت توفر لمحمد ﷺ معرفة كتابية؟!
إحالة حرفية إلى الزبور :
بلغ من أمر القرآن الكريم في دقته أن يحيل إلى سفر معين من الكتاب المقدس وينقل عنه نصه حرفيا، وهو ما لا نعرف له نظيرا البتة بين عرب الجاهلية الوثنيين، فقد جاء في سورة الأنبياء، الآية ۱۰۵: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )
عين ما جاء حرفيا في المزمور «الزبور» ۳۷، العدد ۲۹:(6). ومن الطريف هنا أن الإمام (الطبري) قد ذكر اختلاف علماء الصدر الأول في تفسير هذه الآية، ونقل عن جلهم أن (الزبور) هو غير كتاب (داود) عليه السلام! بل ورجح (الطبري) نفسه أن معنی «الزبور» هنا هو «الكتاب» لا «مزامير داود» رغم أن النص القرآني صريح في أن «الزبور» هو کتاب (داود) ” وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” [النساء: ۱۹۳] وفي ذلك دلالة على العسر الشديد الذي كان في ذاك الزمان في التعرف على الكتب المقدسة لأهل الكتاب.
نقول: إذا لم يهتد: 1- العلماء المسلمون.
2- في زمن انتشار المعارف الكتابية(7) .
3- ووجود أهل الكتاب بين أظهرهم يسألونهم، إلى موضع هذه الجزئية الصغيرة في الكتاب المقدس؛
فكيف يهتدي إليها وأعمق منها وأدق، (محمد ﷺ)،
1- الأمي.
2- الذي عاش في بيئة لا تحسن المعارف الكتابية .. إلا أن يكون هو الوحي؟؟
(الجهل بأبسط المعارف التوراتية والإنجيلية في القرون السابقة وحتى اليوم هو الأصل في غير أمتي اليهود والنصارى )
الاحتمال الرابع في الميزان
أستاذية الحداد الرومي:
بعد أن أثبتنا نكارة القول إن (محمدا ﷺ) قد درس التوراة والإنجيل عند أهل الكتاب ، يغدو من السذاجة أن ننسب شرف هذا التعليم إلى حداد رومي – كما ادعاه بعض معاصري هذا النبي ﷺ.. ونحن نرفض الاحتمال الرابع العدة أسباب ؛ من أهمها:
1)الجبر: حداد رومي نصراني يقرأ ويكتب.. ، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها (محمد ﷺ) ولا أحد من قومه.
فهل من الممكن أن يكون هذا الأعجمي العامي أستاذا لمحمد ﷺ و الذي كشف كتابه الأسرار الدقيقة في الديانتين اليهودية والنصرانية، كما کشف ما يخفي أهل الكتاب من حقائق عن الناس؟! هل من الممكن أن يكون اللجهل فضل على العلم؟! هل كان هذا الحداد إلا فتی عاما؟ بل هل تری العامة من النصارى في عصرنا يعلمون ما تضمه أسفارهم المقدسة من عقائد وقصص إذا كانت الإجابة بالنفي – وهي واقعا كذلك – فهل يجوز أن ننسب العلم إلى نصراني من العامة في القرن السابع الميلادي؟! هل يجوز أن ننسب كل هذا العلم الواسع إلى مثل هذا الفتى؟!
۲. لو كان (الجبر) هو معلم (محمد ﷺ) لما توانی عن إعلان ذلك أمام الملأ من قريش؛ لأنه سيضمن بذلك حظوة لدى أعداء هذا النبي الذي بدأ يهدد تزايد عدد أتباعه مصالح المنتف عين من هذه القبيلة العربية، والذي فکر من حادوه في قتله لعجزهم عن إيجاد وسيلة ناجعة لوأد دعوته أو وقف تمددها .
٣- لم ترد مقالة المشرکین : “إنما يعلمه بشر” [النحل: ۱۰۳]؛ لأن أهل قريش كانوا يعتقدون أن هذا الفتى الرومي هو الذي لقن (محمدا ﷺ) و ما يدعو إليه، وإنما قد استعلن المشركون بهذه المقالة، لعلمهم أن ما أتی به (محمد ﷺ) ، خاصة ما تعلق بقصص أنبياء السابقين وتاريخ الأمم الغابرة، لا يمكن أن يكون من عند عربي أمي؛ إن (محمدا ﷺ) و قد تلقى هذه الأخبار من عند من هو عليم بأمر تلك الأمم.
وإذا علمنا أن المشركين كانوا ينكرون نبوة (محمد ﷺ) فإنه لا مفر للقوم من أن ينسبوا شرف تعليم هذا الرجل إلى من حاز علما بتلك الأخبار، ولا أقرب إلى فكر المعاند من علماء أهل الكتاب، ولكن أنى لهم ذاك، وليس في مكة علماء؛ فلم يعد عند أهل مكة من سبيل لتمرير الفرية غير نسبة هذا العلم والتعليم إلى غلام نصراني اجتمع فيه شرطاهم (أ) أن يكون من سكان مكة حتى يقال : إنه كان يلاقي (محمدا ﷺ) ويملي عليه بكرة وأصيلا (ب) أن يكون من غير جلدتهم وملتهم لينسبوا إليه من العلم ما لا يعلمون.. وقد كان! فهو إذن اضطرار من القوم لا اختيار !)
4- أهمل المستشرقون هذا الوجه من الاعتراض، ولم يلقوا له بالا ، العظم تهافته. ولم یکن لمثلهم أن يستدير هذه القرية لو كانت تحتمل من الصواب أو الإمكان بعضه!
(1) هل من معلم بشري لمحمد ﷺ.
(2) يمكن مراجعة الكتابة السريانية في كتاب براهين النبوة ص362.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) انظر 1 ملوك 16 و17 و 18.
(6) يمكن مراجعة الكتابة السريانية في كتاب براهين النبوة ص 364.
(7) حتى من قالوا أن الإحالة هي إلى مزامير داوود لم يظهروا أنهم يعرفون موضع الإقتباس ولذلك ظل الخلاف بين المفسرين في فهم معنى زبورا دون أن يناقشوا معه انطباق نص مزمور 37/29 مع الآية القرآنية.
هذه المقالة مأخوذة من كتاب براهين النبوة