السؤال:
يُنكر البعض حد الرجم بدعوى أن آية الرجم المنسوخة : ” الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ”
فيها أخطاء، مثل ذكر كلمة الشيخة و يجب أن يقال عجوز كما في سورة هود: { قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا }، وجعل الحد للشيخ و الشيخة فقط وليس كل مُحصن فلا يدخل فيه الشباب.
الجواب :
- أولًا:
الاستناد في ثبوت حد الرجم بأدلة متعددة صحيحة مُحكمة تثبت الحد للمُحصن ،و بالإجماع القطعي.
فرجم المُحصن تم نقله عمليًّا نقلًا متواترًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى يومنا هذا ، فلم يخل عهد من إقامة حد الزنا جلدًا للبكر ورجمًا للثيب.
ونُقل أيضًا بالقول من عدة طرق نقلًا مستفيضًا ،بل بلغت حد التواتر عند البعض، كما ذكرها في المتواتر السيوطي والكتاني”(1)
فحديث رجم ماعز -رضي الله عنه – وحده رواه قريب من عشرين صحابيًّا ،وهذا في حادثة واحدة فقط، وأما إذا جئت إلى مجموع نصوص الرجم ، لوجدتها فوق ذلك بكثير جدًا.
وكلا من النقلين يُفيد وحده العلم بثبوت حد الرجم وباجتماعهما يتأكد العلم بمشروعيته، ولا مدخل بعد هذا لشبهة ولا موضع لريبة ، ولا يجوز أن يُرد الحكم الشرعيّ الثابت بكل ماسبق، لإشكال في دليلٍ منهم – على فرض صحة الإشكال أصلًا – .
ومن أمثلة هذه الأدلة : ما نُقل عن النبي- صل الله عليه وسلم – في قوله :«خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ» رواه مسلم(2) ، ما كان من فعله – صلي الله عليه وسلم – في رجم ماعز والمرأة الغامدية وهما من الشباب .
عددتُ في أصح كتاب بعد القرآن، وهو صحيح البخاري، ثمانية أحاديث لثمانية من الصحابة يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم الرجم، وكل واحد من هؤلاء الثمانية عنه -في البخاري- إسناد أو أكثر؛ فهل ثمانية الأسانيد ضعيفة؟
والذين رووا الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري هم: علي وجابر وعمر وزيد بن خالد وأبو هريرة وابن عباس وابن مسعود وابن أبي أوفى رضي الله عنهم أجمعين.
وإذا انتقلت إلى صحيح الإمام مسلم فستجد اثني عشر من الصحابة يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم الرجم؛ فهل الاثنا عشر إسنادا ضعيفة؟
والصحابة الذين رووا الرجم في صحيح مسلم ولم يذكرهم البخاري هم: عبادة وبريدة وجابر بن سمرة وعمران بن حصين وأبو سعيد الخدري.رضي الله عنهم والبقية مشتركون بين البخاري ومسلم. وتفرد البخاري برواية حديث علي.
فإن لم نأخذ بخبر ثلاثة عشر من الصحابة في الصحيحين ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم الرجم فمتى نأخذ بشيء من السنة؟ وبأي حجة قاطعة نرد هذه الأخبار الصحاح!؟
ومما يُثبت حد الرجم كذلك الإجماع، وإجماع أهل العلم فيصعب حصره ولم يخالف في هذا سوى الخوارج وبعض المعتزلة، وسأنقل شيئا من ذلك :
- أولا:ما سبق عن البيهقي
- ثانيا:قال ابن قدامة «وجوب الرجم على الزاني المحصن…وهذا قول عامة أهل العلم…ولا نعلم فيه مخالفاإلا الخوارج»المغني (12/309 ط.التركي).
- ثالثا:قال ابن بطال «أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختار فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة»الفتح15:602 طبعة طيبة.
- رابعا: وممن نقل الإجماع المرداوي في الحاوي وابن المنذر في الإشراف وابن عبدالبر في الاستذكار وابن جزم في المراتب، وغيرهم .
ومن غير اعتبار لكل هذه العقول لأهل العلم الذين أجمعوا على هذه القضية: يرى بعض المنكرين لهذا الحد أن أحاديث الرجم تعارض القرآن تعارضاً قطعياً واضحاً لا خفاء فيه!!
والمُزعج في هذا حين يظن هؤلاء أن كل هؤلاء العلماء الذين أجمعوا على هذا الحد فاتهم الرجوع إلى القرآن أو سلَّموا بالتناقض!!
- ثانيًّا :أما بالنسبة للإستشكالات المذكورة في الآية المنسوخة.
- ثبت في كثير من الأحاديث المتفق على صحتها ومنها روايات في صحيح البخاري وصحيح مسلم (3) ، أن حُكم الرجم مما نزل في كتاب الله عزوجل ، ودلت عليه آية من آيات القرآن قرأها الصحابة وحفظوها ثم نُسخت ، ولكن الأسانيد المذكور فيها نص الآية ضعفها جمع من أهل العلم، فلا يلزم منه إذن أن يكون ما جاء في بعض الروايات هو لفظ الآية؛ لأنه قد نُسخ رسمها، ولم يبلغنا لفظها بسند عالي الصحة، لكن حكمها باقٍ ودلت عليه الأحاديث المتواترة القولية والعملية.
- ولو سُلّم بصحة حكاية لفظ الآية المنسوخة: “الشيخ والشيخة”، فلا إشكال فيه من جهة تأنيث الشيخ، فهذا سائغ في لسان العرب، فكما يعبر عن المرأة الكبيرة السن بالعجوز، فكذلك يعبر عنها بالشيخة.
- والاستشكال الثاني ذكره عدد من العلماء من قبل، ولكن لم يربطوا هذا الإشكال بإنكار الحد مطلقًا، ولهم عدة توجيهات في تفسير ورود اللفظ ب( الشيخ والشيخة) رغم أن الحكم ثابت في حق المحصن ولو كان شابًا ، وعلى سبيل المثال:
– رجح الشيخ بن عثيمين ،أن هذا ليس لفظ القرآن ، واستند إلى تضعيف الروايات التي ذكرت نص الآية، وقال أن الثابت الصحيح أنه كان هناك آية للرجم ونُسخت ولا يهمنا تحديد لفظها.(4)
وهناك من قال أنها لفظة خاصة يُراد بها العام ، وذلك لأن الشيخ والشيخة غالبًا يكونا مُحصنين، كما قال الإمام مالك – رحمه الله – المقصود بها الثيب والثيبة .(5)
– وللإمام بن حجر – رحمه الله – توجيه في تفسيرها، إذ نقل استشكال عدد من السلف حول هذه اللفظة ، ثم قال : ” فيُستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها ”(6)
فحاصل الكلام أن اللفظة استُشكلت بالفعل من عصور ، وللفقهاء والأئمة توجيهات فيها ، ولا يحملهم هذا على إنكار الحد الثابت بروايات أخرى مُحكمة وبفعل النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته وإجماع الأمة ، وإنما نجتهد في تفسير المشكل ونرده للمُحكم .
(4) وأما هل التعبير بالشيخ والشيخة يفيد الحصر بهما عند من قال بصحة الرواية؟
فذلك غير لازم أيضا؛ إذ الآية وردت بأقبح صور الرجم، في زنا الشيخين؛ والشيخ لا يبلغ الشيخوخة إلا وهو ثيب في حكم الغالب، فذكر أقبح صورة يمكن أن تقع تنفيرًا وتقبيحًا.
وفي بيان ذلك يقول ابن الحاجب في أماليه ،وقد سُئل عن قوله : “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ورسوله”.
« فقيل له : ما الفائدة من ذكر الشيخ والشيخة، وهلا قيل: المحصن والمحصنة؟
فقال: هذا من البديع في باب المبالغة، أن يعبر عن الجنس في باب الذم بالأنقص والأخس، وفي باب المدح بالأكبر والأعلى، فيقال: لعن الله السارق ربع دينار فتقطع يده. والمراد: يسرق رب دينار فصاعدا إلى أعلى ما يسرق، وقد تبالغ فتذكر ما لا يقطع به تقليلًا كما في الحديث: “لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده”، وقد عُلِم أنه لا يقطع بالبيضة » انتهى من كلامه .
شبهة :
وأَوضَحُ وجهٍ لمخالفة الرجم للقرآن -عندهم- ما يلي:
قال الله تعالى عن الإماء ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ﴾[النسآء:25]، ففهموا أن المحصنات في هذه الآية المراد بهنّ المتزوجات! فيقول المنكرون لهذا الحد: أنتم تقولون إن عقوبة المحصنات إذا زنين الرجم فكيف يتنصَّف؟
ويردّون بتفسيرهم الخاطئ للمُحصنات إجماع أهل السنة والأحاديث الصحاح الكثيرة في إثبات الرجم!
الرد:
وليس المراد بالمحصنات في الآية المتزوجات، فإن أول الآية يوضح هذا بجلاء، تأمل معي بداية الآية: قال الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَنْ يَّنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ﴾، يحثنا الله على نكاح المحصنات فتبين قطعا أن المحصنات هنا غير المتزوجات.
بل هناك أكثر من آية تأتي بذِكرِ المُحصنات على غير المتزوجات، مثلا: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ﴾[النّور:23] والمحصنة هنا تشمل المتزوجة والبكر.
وحين نرجع للتفاسير سنجد أن كثيرا من المفسرين قد ذكر أن معنى المحصنات في الآية: الحرائر، ومن المعلوم أن مِن عقوبة الحرائر إذا زنين الجلدَ مائة، فعلى هذا يكون التنصيف هنا فيما يتنصف من عقوبة الحرائر، ويزول بهذا الإشكال.
وهكذا وبكل سهولة تم ردّ ثلاثة عشر حديثا من الصحيحين بناء على فهم خاطئ للمحصنات بالمتزوجات، بينما أول الآية كفيل برد هذا الفهم .
ومن عجيب ما يستدل به بعض منكري الرجم على الإنكار أن الرجم حكم التوراة، فكأنهم يُعرِّضون بإدخال اليهود أو رواة أخبارهم حكم الرجم في الإسلام.
وهكذا أيضاً، فعل أحد منكري الرجم حين أنكر أحاديث نزول عيسى ابن مريم عليه السلام قائلا: إنها فكرة نصرانية تسللت إلى الدين الإسلام!!.
وكأن مجرد التوافق بين خبر القرآن وخبر التوراة أو حكمهما موجب للشك!! بينما قد أخبرنا الله أن القرآن مصدق لما بين يديه من الكتب.
وهكذا؛ فإن إثبات حكم الرجم إنما هو تصديق لله ورسوله وللمؤمنين، وفيه من الحِكَم ما يعلمه الحكيم العليم.
الهامش :
(1) ذكره السيوطي في الأزهار المتناثر من الأحاديث المتواترة (ص59) ، والكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص162)
(2) رواه مسلم (1690) وذُكر في غيره من كتب الأحاديث .
(3) البخاري (6830) – مسلم (1691) – أبو داود (4418) .
(4) الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/ 229) ،شرح الاصول من علم الاصول (ص437) .
(5) شرح الزرقاني على موطأ مالك (ج4 / حديث رقم 1601) .
(6) فتح البارى ( كتاب الحدود/6441).
والله أعلى وأعلم ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .