الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أمّا بعد فنقول مستعينين بالله العليّ العظيم:
أولــاً : بالنسبة للمسلم المُقرّ بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيكفيه التذكير بأن الله عز وجل – الذي بعث هذا النبي صلى الله عليه وسلم وائتمنه على دينه ورسالته للعالمين – قد أقره على هذا التعدد، بل وأمره بالزواج من بعضهن مثل: زينب بنت جحش – رضي الله عنها – كما في قوله تبارك وتعالى: “فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا” (الأحزاب: 37) بل ومن طلّق منهن أُمر بردها مثل: حفصة – رضي الله عنها – حيث قال الألباني – رحمه الله – “وجملة القول، أن تطليقه صلى الله عليه وسلم لحفصة ثابت عنه من طرق، وكونه أمر بإرجاعها ثابت من حديث أنس الصحيح، وقول جبريل له: ” راجعها فإنها صوامة … ” إلخ، حسن كما ذكرنا” (سلسلة الأحاديث الصحيحة “ح: 2007/ ج: 5/ ص: 18”).
وهذا التذكير يكفي المسلم لدحض شبهة أن في هذا التعدد منقصة للنبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه.
ثانـيـاً: بالنسبة لأهل الكتاب فيكفيهم قراءة العهد القديم لمطالعة أعداد زوجات الأنبياء فيه – عليهم السلام – ونحن وإن كنا لا نصدق ما ورد من ذلك إلا ما أيّده القرآن أو ما صح من السنة، ونكذب من ذلك ما يعارض القرآن أو ما صح من السنة، وما لم يؤيده القرآن أو ما صح من السنة أو يكذبه فإننا نتوقف فيه فلا نصدّقه ولا نكذبه، ولكنه في جميع الأحوال يكون حجة على أهل الكتاب الذين يشنـّعون على نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن مصادركم ندينكم.
والخلاصة أن كثرة زوجات الأنبياء ليست بالأمر الجديد، بل هو أمر معتاد؛ لأن النبي – أي نبي – هو معلم ومرشد لقومه في كافة شؤون حياتهم حتى شؤونهم الخاصة جداً، كما أن هؤلاء الأنبياء رجال؛ فمن ينقل تعاليمهم للنساء بدون حرج إلا زوجات هؤلاء الأنبياء؟ خاصة في أمورهم النسائية؟ لذلك نجد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يعدّد زوجاته إلا في زمن نزول التشريعات المنظمة لحياة المجتمع في العهد المدني.
زد على ذلك أن من الأنبياء الذين اشتهروا بكثرة الزوجات من كانوا ملوكاً وقادة جيوش يسعون لنشر دعوة الإسلام – الذي هو دين التوحيد الذي هو في الأصل دين جميع الأنبياء – فكانوا يسعون لزيادة أبنائهم ليشاركوا بهم في الحركة الجهادية، وهذا ثابت عندنا عن سليمان عليه السلام خاصة.
(بالمناسبة من يطعن من منكري السنة في الأحاديث الثابتة عندنا الدالة على القدرة التي أعطاها الله عز وجل لسليمان عليه السلام في هذا الشأن فليتذكر أنه ثبت في القرآن قدرة سليمان عليه السلام على سماع كلام النمل والهدهد، فهذا الأمر ليس بأهون من ذاك، لكن الله على كل شيء قدير).
ثالثــاً: لماذا تزوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء التسع – رضي الله عنهن – اللاتي تـُوفي عنهن؟
اعلم أولاً أن المعتاد في زمنه صلى الله عليه وسلم الزواج مبكراً، علاوة على أن الزواج عند العرب في هذا الزمان كان على أربع صور، جميعها متاح لا يعجز عن إحداهن أفقر رجل في مكة، لكن الثابت في حقه صلى الله عليه وسلم هو العكس حيث قضى معظم شبابه عزباً، وبالرغم من ذلك لم يُعرف عنه إنشاء أي علاقةٍ مع أي امرأةٍ بأي صورةٍ من هذه الصور، فهل مثل هذا يكون شهوانيا؟!
يدل على نفي ذلك ما ورد في الصحيح من قول أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – “وأيّكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟!” (مسلم: 293) تقول ذلك وهي أحب نسائه إليه في المدينة وهي الوحيدة التي تزوجها بكراً.
ثم اعلم ثانياً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع يعدّد أزواجه إلا في سن الثالثة والخمسين أي بعد تجاوز مرحلة الشباب بل ومرحلة الكهولة (الأربعينات) التي يتخللها أزمة منتصف العمر – كما يسميها المعاصرون – والتي قد يتزوج فيها بعض الرجال من بناتٍ في سن بناتهم لتجديد شبابهم، فهو لم يعدّد إلا بعد أن تجاوز كل هذه المراحل.
ثم اعلم ثالثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكنه أن يستأثر بالقسم الأكبر من الغنائم ويوجهه لشراء من شاء من الإماء للاستمتاع بهن، لكنه لم يفعل، لأنه إنما كان يتزوج لتحقيق مصالح شرعية لا تتحقق بهذا الفعل.
ثم اعلم رابعاً أن من أشراف العرب من كانوا يعرضون بناتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليتزوجهن، بل كان من النساء من تعرض نفسها عليه وتهب نفسها له فيردّهم جميعاً بلطف؛ لأن الزواج منهن لا تترتب عليه المصالح الشرعية المترتبة على الزواج ممن تزوج بهن، قال جل وعلا: “وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ” (الأحزاب: 50).
بعد هذه المقدمات الأربع نستعرض أسباب زواجه صلى الله عليه وسلم من كل واحدةٍ من هؤلاء التسع رضي الله عنهن:
- من تزوجها بأمر من الله عز وجل، وهي زينب بنت جحش – رضي الله عنها – التي أمره الله تبارك وتعالى بالتزوج بها لإبطال مسألة التبني كما مر معنا، وكانت صوّامة قوّامة بلغ بها الاجتهاد في القيام أن كانت تربط الحبل بين ساريتين بالمسجد لتتعلق به إذا تعبت من القيام (مسلم: 219) فهل من يكثر من النساء عن شهوة تكون زوجته متعبدة زاهدة؟! بالطبع لا، بل جل وقتها يكون منصرفا في استمتاع زوجها بها أو في التزين والتهيؤ لاستمتاعه بها.
- من تزوجها لائتلاف قبيلتها على الإسلام، وهي جويرية بنت الحارث – رضي الله عنها – التي وقعت هي وقبيلتها بالكامل في الأسر، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم استحيا الصحابة أن يكون أصهاره عبيدا لهم فأعتقوا القبيلة بالكامل فأسلموا جميعا (سنن أبي داود: 3931، وحسنه كلٌ من الألباني والأرنؤوط) ثم إن جويرية – رضي الله عنها – عُرفت بعد إسلامها بكثرة الذكر والعبادة، وبالمناسبة فإن حفصة – رضي الله عنها – كانت صوّامة قوامّة أيضاً كما مر معنا، وكذلك جميع أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – وليست هذه أحوال نساء رجل شهواني أبداً.
- من تزوجها لتقوية الأواصر مع وزرائه الذين أحبهم حبا جما لخدماتهم وتضحياتهم الجليلة للإسلام والمسلمين، وهما: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، وهو نفس السبب الذي لأجله زوج ابنتيه رقية ثم أم كلثوم لعثمان، وابنته فاطمة لعلي، رضي الله عن الجميع.
- من تزوجها لائتلاف أبيها على الإسلام وكسر حدة عداوته، وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان –رضي الله عنهما– الذي كان زعيم المشركين وكان في فترة جاهليته يحب الفخر، فلما صاهر النبي صلى الله عليه وسلم هدأت عدواته له وللمسلمين.
- من تزوجها بناءً على طلب الصحابة لعتقها من الرق ورفعها لمكانة أعلى من مكانتها التي كانت عليها قبل مقتل أهلها في غزوة خيبر، وهي صفية بنت حيي – رضي الله عنها – التي أسلمت وحسن إسلامها (متفق عليه، البخاري:371 ومسلم: 1044) وكانت تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه لتجالسه وتأنس بمحادثته (متفق عليه، البخاري: 3281 ومسلم: 2175) وكانت تقوم بتهريب الماء لعثمان – رضي الله عنه – حين حاصره أصحاب الفتنة، فهل تفعل ذلك امرأة كارهة لدين رجل شهواني اغتصبها كما يزعم الجهلاء؟
- من تزوجها مواساة لها عن فقد زوجها وليتمكن من رعايتها ورعاية أولادها، وهما: سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – المرأة الكبيرة الثقيلة في مشيتها ذات الأولاد الخمسة وكانت وحيدة مع أولادها بين أهلها المشركين، لا عائل لها ولا لأولادها.
والأخرى هي أم سلمة – رضي الله عنها – التي استشهد زوجها في غزوة أحد وتركها معه أولادها في دار الهجرة بلا عائل أيضا. - من تزوجها بناءً على طلبها، وهي ميمونة بنت الحارث – رضي الله عنها – وكانت معروفة أيضا بالزهد والعبادة، وكانت آخر من تزوج.
- بعد ذلك حُرِّم عليه التزوج ولو ماتت زوجاته جميعا، وذلك لأن المصالح المترتبة على هذه الزيجات قد تحققت بالفعل وقـُضي الأمر، قال الله سبحانه وتعالى: “لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا” (الأحزاب: 52).
رابعــاً: صور من حياته مع زوجاته صلى الله عليه وسلم:
- عندما اجتمعت عليه زوجاته التسع ليوسع عليهن في النفقة اعتزلهن شهرا كاملا (متفق عليه، البخاري: 5191 ومسلم: 1084) – وإنما كان يضيق عليهن ليوسع على المسلمين – فهل يقدر رجل شهواني على اعتزال زوجاته جميعا شهرا كاملا؟! وهل يضيق عليهن أم يوسع عليهن ليمكنهن من التزين له؟
- عائشة – رضي الله عنها – أحب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ كيف كان يقضي ليلتها؟ هي نفسها تخبرنا أنه كان يصلي الليل في ليلتها وتنام هي فإذا أراد أن يسجد ضرب رجلها لتفسح له المجال للسجود (سنن أبي داود: 713) ومرة ينام بجانبها وبعد أن يظنها نامت يذهب إلى مقابر البقيع ليدعو لأموات المسلمين (مسلم: 103) ومرة تنام وتتركه يصلي ثم تفتقده فتتحسسه فإذا هو راكع أو ساجد فتقول: “بأبي أنت وأمي إنك لفي شأن وإني لفي شأن آخر” (مسلم: 221) وأخبرتنا أنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه ويبكي حتى تبتل لحيته (البخاري: 4837) فهل هذا حال رجل شهواني مع أحب زوجاته؟!
أترك الإجابة للقارئ المنصف
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين