الاعتراض:
إذا كانت النبوة أمرا ًضرورياً لحياة الناس لا يمكنهم الاستغناء عنه، فيلزم أن تكون عامّة شاملة لكل الأمم، ولكنّ حال النبوّة ليس كذلك، فهي مرتكزة بشكل أساسي في منطقة حوض البحر المتوسط، ولم نسمع بالنبوّة في بلاد الصين والهند وغيرها من البلدان الخارجة عن تلك البقعة، فالمؤرخون الصينيون وغيرهم كتبوا عن كل ما يتعلق ببلدانهم، ولم يذكر أحد منهم خبراً عن وجود الأنبياء فيهم.
وهذا يدلّ على أنّ النبوة من اختراع البشر.
الردّ:
هذا الاعتراض مبني على مقدمات خاطئة واستنتاجات باطلة لا يسندها دليل، وبيان ما فيه من غلط يتبين بالأمور التالية:
- ١- إن هذا الاعتراض مبني على الخلط بين العلم بالعدم وبين عدم العلم، فإن غاية ما يدل عليه ما ذكره المعترض هو عدم العلم بوجود النبوة، وليس العلم بعدم وجودها، وعدم العلم بوجود النبوة ليس دليلاً على عدم الوجود، وبالتالي فإن قفز المعترض من عدم علمه بالوجود إلى العلم بعدم الوجود هي مغالطة واضحة.
وممّا يزيد وضوح هذا المعنى ويقويه أن التاريخ القديم لم يُحفظ كلّه، ووسائل التوثيق المتعلقة به ضعيفة جداً، فجميع تاريخ الأمم السابقة يتصف بالفقر الشديد في المعلومات التاريخية المتعلقة به.
ثم إن المؤرخين إنما يتركز نظرهم على الأحداث العظيمة، والشخصيات الشهيرة التي كان له تأثير ظاهر في الشعوب كالملوك والأمراء والعظماء، والأنبياء قد لا يكونون كذلك، فقد لا يتبع النبي إلا رجل أو رجلان، وقد لا يتبعه أحد، وقد يكونون مضطهدين من الملوك ومن غيرهم فلا يكون لهم شأن كبير مؤثر في مجتمعاتهم.
- ٢- لا نسلّم بأنّ النبوة لم يكن لها وجود عند الأمم السابقة، فنحن المسلمون لدينا مصدر موثوق لا شك فيه قامت الأدلة والبراهين الكثيرة على صدقه وهو خبر الله وخبر نبيه، وقد أخبرنا الله أنه ما من أمة إلا وقد جاءها نذير كما في قوله تعالى: “وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ” ، وقوله: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ”.
فالمسلم لديه علم يقينيّ بصحة الخبر الذي جاء في النصوص الشرعية، وعنده أدلة عقلية يقينية متضافرة على صدقه، وليس هناك في المقابل إلا أبحاث قائمة على معلومات ناقصة لا تصل إلى إثبات عدم وجود النبوة.
ثمّ إن الباحث إذا قام بالتنقيب في تاريخ الأمم القديمة، فإنه لا يعدم أن يجد إشارات تدل دلالات لا بأس بها على وجود أصل النبوة وفكرتها الأساسية، وهي الاتصال بين السماء والأرض أو مخاطبة الله لمن في الأرض، فمع أن عدداً من الدارسين ذهب إلى أن كونفوشيوس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد الصين لم يكن نبياً، إلا أنهم ذكروا إشارات من كلامه تدل على وجود خبر النبوة في زمانه، فقد ذكر بعض الدارسين أن استقراء كتبه يدل على أنه كان يحس بأن السماء قد استودعته رسالة إبراء العالم الصيني من أوجاعه، وأن من في السماء لن يخذله، وأنه يأمل بمن في السماء أن يعينه ويساعده، ولاحظ بعض الدارسين كذلك أن الفكر الصيني كانت تشيع فيه فطرة أن الملك ابن السماء، وأن حكم الإقطاعيين مستمد من السماء.
كذلك نجد في الفكر اليوناني إشارات متعددة يمكن أن تكون دالة على وجود معنى النبوة وخبرها عندهم، فقد كان رواد الفكر الإغريقي قبل الميلاد يعتقدون أن الكهنة في المعابد وزراء الإله الذي يخدمونه، وأنه يحميهم ويعينهم، وبعد أن درس بعض الباحثين الإلياذة توصل إلى أنها تدل على “أن هناك أناساً تصطفيهم بعض الآلهة وتحادثهم وترعاهم مما يحدث”.
وأما بلاد الهند، فإن النبوة فيهم أظهر من بلاد الصين والإغريق، فإن كُتُب الهندوس المقدسة تنص على بعثة أربعة وعشرين نبياً ظهر منهم الجميع إلّا الرابع والعشرين، وهم ينتظرون ظهوره، وقد سمّوا أولئك الأنبياء وحددوا وظيفة كلّ نبيّ.
- ٣- أنه لا يلزم لوصول الدين أن يكون ذلك بوصول رسول لكل شخص أو لكل عائلة، فقد يكون وصول الدين بالدعاة، فليس كل شخص أو مجتمع رأى النبي المرسل إليه.
- ٤- إذا وجد من لم يصله الدين فهؤلاء هم أهل الفترة ولهم حكم خاص، والله سبحانه يقول “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا”.
والخلاصة: أن المعترضين يستندون في نفيهم للنبوة على الجهل، بينما يستند المؤمنون في إثباتهم لها على العلم الذي جاء به الخبر الصادق وأيده التأمل في أحوال الأمم وكتبهم، فأيهما أحق بالقبول؟! كما أن المعترضين يتخيلون ما لا يلزم لبلوغ الدين، ويتوهمون أن العذاب يقع على كل من لم يبلغه، وسبق رد ذلك كله.