الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الكلام عن مقاصد عقوبة الزنا يختلف عن غيره، وذلك لما خصتها الشريعة بعقوبة قاسية نظرا إلى كثرة إفسادها وانتشارها. وقد ذكر ابن القيم أن الله تعالى خص حد الزنا بثلاث خصائص، هي:
- القتل بأبشع القتلات. والعقوبة المخففة منها تجمع بين العقوبة البدنية والنفسية (وهي الجلد والتغريب للبكر).
- نهي الله تعالى للمؤمنين أن تأخذهم في الزناة رأفة، ولذلك لوقوع هذه الجريمة من أشراف الناس وأوساطهم وأراذلهم، ولشدة الداعي إليها، ولوقوعها بالتراضي غالبا.
- أمر الله تعالى أن يكون تطبيق حد الزنا على مرآى من المسلمين.
أولا: مقصد حفظ النسل والأنساب:
حفظ النسل والأنساب من مقاصد الشريعة الضرورية، وقد حفظتها الشريعة عن طريق أمرين: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وما يدرأ عنها ما يخل بها.
وحد الزنا من العقوبات التي تحفظ النسل بالاعتبار الثاني، وهو دفع ما يخل بهذا المقصد، فالزنا فيه إضاعة للنسل، وفيه اختلاط الأنساب.
ولذلك جعل الإسلام الزواج هو المنظم للعلاقة بين الرجل والمرأة من هذه الناحية، وجعل بينهما رباطا ظاهريا يتعلق بالشهوة والولد، ورباطا باطنيا عن طريق المودة والرحمة، والزواج لا يستقيم إلا بوجود العامل الثاني، وإذا كان آدم قد احتاج للسكن إلى زوجه في الجنة، فأولاده أحوج إلى ذلك في الدنيا، فالله تعالى قهر الرجال بالحاجة إلى النساء، وستر النساء بحمية الرجال وغيرتهم.
وبهذه الطريقة حفظ الله تعالى نسل بني آدم على هذه الأرض.
والزنا فيه تفويت لمقصد حفظ النسل، لأنه يقتل البشرية ويفنيها بتفويت مقصد التوالد.
وفيه ضياع للذرية بسبب اشتباه النسب، بل فيه قتل للنسب لكونه يولد بلا أب يرعاه.
ثانيا: مقصد الردع والزجر:
وهو من مقاصد الشريعة عموما، ومن مقاصد تحريم الزنا خصوصا.. وعقوبة الزنا الشديدة تدل على ظهور هذا المقصد هنا، وذلك لما يترتب على الزنا من مفاسد عظيمة على الأنساب والنسل كما تقدم، ولأن الشريعة قد وضعت من التشريعات ما يبعد عن الزنا؛ فنهت عنه ونفرت منه وحذرت من الوقوع فيه، وسدت الطرق الموصلة إليه، وحضت على الزواج.
ومن معالم الزجر والردع في هذا الحد:
- النهي عن كون الرأفة سببا في ترك إقامة الحد، وقرن ذلك بالإيمان باليوم الآخر، كما قال تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
- الأمر بأن تحضر جماعة من المؤمنين إقامة الحد تحقيقا للردع: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
- تنفيذ حد الرجم بواسطة جماعة من الناس بحضور الإمام والشهود إن كان الزنا ثبت بالبينة.
ومن علم المقصد من حد الزنا لم يستشكل قسوة وشدة هذا الحكم، وذلك لأن الزنا تهواه النفس، ويغلب الهوى فيه العقل، فلا يذهب هذا عن الإنسان إلا بمباشرة أو رؤية الألم الشديد، وإن كان الحد بالرجم دل إقدامه على هذه العقوبة على تطهر نفس الزاني وتخلصها من ذلك الدنس.
ثالثا: مقصد نظام الأسرة والمجتمع:
الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، والزنا يقوض هذا الأساس، فلذلك فإن تحريم الزنا كان في المرحلة المكية، كما في سورة الإسراء: (ولا تقربوا الزنا)، وفي المؤمنون : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) ، ولم ينتظر الإسلام قيام الدولة لتحريم الزنا، بل حرمه في مكة لخطره، وجعل العقوبة الدنيوية عليه في المدينة لما قامت الدولة.
ووجه تقويضه للأسرة: أن الزنا فيه تقليل لقيمة الحياة الزوجية، ولذلك لسهولة قضاء الشهوة خارجها، وفيه كذلك ضياع للأنساب، وإفقاد للثقة في الأعراض.
رابعا: مقصد تحوط وتشدد في الإثبات:
وضعت الشريعة شروطا مشددة لتنفيذ عقوبة الزنا، فالحد في الزنا لا يثبت إلا بالإقرار، أو بأربعة شهود عدول لم يختلفوا في كلامهم، وهذا قليل التحقق، ويتحقق هذا الشرط غالبا على من جاهر بالزنا أمام الناس.
فالشريعة لوحت بالعقوبة الشديدة، لكنها ضيقت طرق إثباتها، حرصا على الستر، ولم تتشوف إلى إثبات هذه العقوبة وتطبيقها، لأن الشريعة قائمة على تهذيب النفوس، وتوفير أسباب الوقاية من الجريمة، وليست الشريعة قائمة على العقوبة.. وهذا لا يعني أنها لا تعاقب، بل هي تعاقب المتبجحين بجرائمهم. قال ﷺ: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة».
ويستحب للزاني أن يستر على نفسه، فإذا ذهب للقاضي وأقر فيستحب للقاضي أن يلقنه ما يرجع به عن إقراره، فإذا أقر فإنه يشترط في إقراره أن يذكر حقيقة ما فعله لتزول الشبهة.
خامسا: مقصد درء مفاسد الزنا:
من مقاصد عقوبة الزنا: درء المفاسد المترتبة عليه، وهي مفاسد عظيمة، تجعل من الزنا مستقبحا في العقل، ولذلك فإن القرآن وسم هذه الجريمة ومثيلاتها بالنجاسة والخبث دون سائر الذنوب، كما قال تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)، وجعل فاعلها متعديا فقال: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)، وأخبرت بأنه بالغ في القبح: (إنه كان فاحشة وساء سبيلا).
وجملة هذه المفاسد:
- ما تقدم من ضرر الزنا على النسل البشري، وعلى الأنساب والأعراض.
- وما تقدم من خطر الزنا على الأسرة، وما فيه من إفساد للعلاقة الزوجية.
- وأنها تجعل الإنسان مدمرا للوجود، بدل أن يكون معمرا.
- ضياع الحقوق المتعلقة بالزوجة والأولاد، كحقوق المواريث والنفقة ، والصلة، وحق الوالد على الولد، ونحو ذلك.
- ضرر الزنا البالغ على الدين والإيمان، فهو يفسد القلب، ويبعده عن الله تعالى.
- ما يجلبه من مصائب وعقوبات مادية، كالفقر، والهم، وشيوع الأمراض، قال النبي ﷺ: «ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا».
سادسا: حماية الفرد والجماعة من الأمراض الجنسية ومنع انتشارها:
فانتشار الزنا سبب لأمراض جنسية كثيرة، كالإيدز، والزهري، والسيلان.
فالبعد عن الزنا هو أنجح طريقة للوقاية من هذه الأمراض كما قرر ذلك عدد من الأطباء الغربيين.
سابعا: الامتثال لأوامر الله والتسليم له :
أمر الله في الشرع: هو ما قدره وأراده ،ومن سعى في مخالفة أمر الله فهو منازع لمراده سبحانه، ولا يكون إلا ما أراد الله.
إن الامتثال لأمر الله فى شريعتنا يمتاز بكونه:
-نابعا من وازع دينى ومبعث اعتقادي لضرورة تنفيذ أمر الله وتطبيق ما شرع ، وليس امتثالا لأمر محتوم لا مفر منه لقوة السلطة القضائية أو لعجزه عن الهرب والإفلات من تنفيذ العقوبة.
- قناعة المكلف بأن ما شرع من عقوبة إنما شرع لمصلحة ولو خفى عليه معرفة وفهم مقصد تشريعها. يقول الإيجى فى المواقف: ولعل هناك مصلحة استأثر الله بالعلم بها، على أن فى التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها غلبتها الثابتة، فالنفس إذا علمت الحكمة والمصلحة فى حكم انقادت له لأجل تلك المصلحة، لا لمجرد امتثال حكم مولاها وسيدها وكان عندها أنها ذات قوة ورسوخ فى العلم، فربما صارت بسبب ذلك معجبة بنفسها، فإذا تعبدت بما لا تعلم حكمته كان انقيادها امتثالا مجردا وانكسرت سورتها وإعجابها الثابت لها فيما علمت حكمته.
- وأن يكون تنفيذ العقوبة كما أمر الله سبحانه لا نقص فيها ولا زيادة، وغير ذلك يكون عدوانا وظلما، وهذا محرم ومنهي عنه.
ثامنا: حماية المجتمع من العقاب الإلهي :
جرت سنة الله تعالى فى إهلاك الظالمين بعد إرسال الآيات والحجج والبراهين، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وما كان الله ليظلمهم ولكن الناس أنفسهم يظلمون. ولما كان الامتثال لأمر الله فيما أمر ونهى عنه وزجر واجب الاتباع من المكلفين، فإن النكوص عنه تعدي وعدوان يستحق العقوبة جراء تخلده عن الحق المكلف باتباعه ووجوب تنفيذه. لذلك كان من مقاصد العقوبات فى الشريعة الإسلامية حماية الناس والمجتمع من العقاب الإلهى، الذي يمكن أن يحل بهم بسبب عدم تطبيق نظام العقوبات، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لحفظ أمنهم ونفوسهم
وأموالهم ومصالحهم، قال تعالى: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” وفى الحديث الشريف أن النبي ﷺ قال: “يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، وذكر منها وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم “.
إن الالتزام بأوامر الله – عز وجل – والسعى نحو تطبيقها و لحض على ذلك من المعروف الذي أمر به الشرع الحنيف، والتخلى عن ذلك منكر مذموم يجب تغييره، حتى لا يحل عقاب الله بالناس. يقول الرسول ﷺ -: “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده” .
وإنما قص الله علينا القصص لتكون لنا عبرة وآية، فلا نتشبه بأحوال الذين ظلموا أنفسهم بعد أن بين الله كيف فعل بهم، بسبب فسادهم وظلمهم وإعراضهم عن تطبيق منهج الله فقال سبحانه: “قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين “.
فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ، فحكمة الله بالغة فى إزالة النعمة عن الناس بشؤم المعاصى، وحفظها عليهم بالتوبة والطاعة.
فإعمال حدود الله وإنفاذها مجلبة للخير ودليل على حسن الطاعة والامتثال لأمر الله ومبعدة للشر والنقمة ونكد العيش، والرسول ﷺيقول: “حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا”. ليتصور الإنسان نعمة إقامة حدود الله فى الأرض فى معنى الحديث الشريف فى غيث يرسله الله على البلاد والعباد يسقى به الأرض وينبت به الزرع ويدر به الضرع ويلطف به الهواء ويزيد به الماء وينشرح باخضرار الأرض الصدر فهم في زينة ور غد وسعد، ويدوم ذلك أربعين صباحا!!!
هذا والله أعلم وأحكم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المادة المعدة مستفادة أغلبها من تلخيص الأخ هادي صبري.
كتابة ، تنسيق طارق الشمري
الكاتب: قسم الأحكام الشرعية