يقول المعترضون:
إن مصدر النبوّة راجع إلى الإنسان ذاته، ولا يمكن أن تكون نازلة من عند الله تعالى، فالنبوة ليست إعلاماً من الله تعالى لمن يختاره ويصطفيه من خلقه، وإنما هي معانٍ وأفكار ناشئة من داخل النبي ذاته، ونابعة من كيانه الخاص وتجربته النفسية الخاصة. فالنبوة ليست حقيقة خارجية ينزلها الله إلى الأرض على أحد رسله، وإنما هي حقيقة أرضية نابعة من الأرض، وخاضعة للمتغيرات الأرضية، أو إنّها حالة نفسيّة مرضيّة تمر بالنبيّ فينتج عنها تلك المضامين التي يدعي فيها أنها وحي منزل عليه من الله.
الردّ:
إنّ النبوّة في التصوّر الدّينيّ الإسلاميّ تقوم حقيقتها على أنها إعلام وإخبار من الله تعالى لأحد من خلقه عبر واسطة الملك بمعاني التشريع والدين الذي يريد الله من عباده في الأرض العمل به والأخذ بقوانينه، فمصدر الوحي في التصوّر الإسلامي ومنبعه الوحيد من الله تعالى لا من أحدٍ سواه.
وهذا المعنى صريح في القرآن الكريم، وهو من أقوى المعاني ظهوراً في آياته، يقول تعالى: “وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنها ما يشاء إنه عليّ حكيم“.
والبراهين العقلية والوجودية قائمة على أنّ الوحي ليس ناشئاً من داخل النبيّ، وليس نابعاً من كيانه الخاص به، وليس تابعاً لرغباته وميوله، وإنما هو حقيقة نازلة إليه من الله تعالى، ومن أهمّ الأدلّة على ذلك:
- الدليل الأوّل: إن القرآن تضمّن معارفاً وعلماً يستحيل أن يتحصل عليها أي شخص بقوة عقله أو حدة ذكائه، ويستحيل أن تكون نتيجة حالة نفسية يعيشها النبي، فقد اشتمل القرآن على أخبار تفصيلية عن الأمم والجماعات والأنبياء والأحداث التاريخية السابقة على زمانه بمدة زمنية بعيدة في أغوار التاريخ ولم يعاصر النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الأحداث ولم يتعلمها في حياته.
ومن تلك المعارف بعض الأرقام الحسابية وبعض الأعداد الدقيقة، كما جاء في قصة نوح من عدد سنين دعوته وفي قصة أصحاب الكهف “ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً” وكذلك تضمن القرآن أسماءً تفصيلية للرجال والأمم والقرى والقبائل.
يقول محمد عبدالله دراز: هذا الرّأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم “الوحي النفسي” ، زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءوا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا تفصيله، فقد صوروا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذاً شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه حتى يخيّل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلّا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذاً مجنون، أو أضغاث أحلام، على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلاً على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة الوحي النفسي حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية.”! - الدليل الثاني: من الأمور الظاهرة في القرآن: اختفاء شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ففي أكثر الأوقات لا يذكر شيئاً عن نفسه، ويتجرد تماماً من الإشارة إليها، وعندما يورد شيئاً عن ذاته فإنكما يذكره لكي يحكم على نفسه، أو يضبط سلوكه، أو يسيطر عليه، وفيما يتعلق بأفراحه وأحزانه، فإننا نعلم كم كان حزنه لوفاة أبنائه وأصدقائه وأصحابه، حتى أُطلق عام الحزن على السنة التي مات فيها عمه وزوجته، وفقد بفقدهما العون المعنوي الذي كان يسانده، ومع ذلك كله لا نجد في القرآن أي صدى لهذه الأحداث الأليمة وهي من أشد ما يؤثر في النفوس البشرية.
فعدم وجود مثل تلك الآثار دليل على أن مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم ودواخله ليست مصدراً للوحي، وليس لها أثر فيه، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من الله في السماء. - الدليل الثالث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ليست منحصرة في القرآن فقط، وإنما هي حالة مركبة من تشريعات، ومعجزات كونية وحسية، وأحوال أخلاقية ونفسية مختلفة، واجتماع كل هذه الأمور يستحيل أن يكون حاصلاً بسبب قوة المخيلة أو حدة الذكاء، أو عن طريق التجربة الإنسانية.
فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء نبوته جاء بمعجزات كونية كثيرة، كانشقاق القمر، وخروج الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام والشفاء من بعض الأمراض، وغيرها من الأحوال الخارجة عن المعهود البشري.
والإتيان بهذه الأمور يستحيل أن يكون ناتجاً عن التجربة الحياتية، أو عن قوة المخيّلة، أو حدّة الذّكاء. - الدليل الرابع: إن الدارس لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم يجد أنها أحيطت بأمور وأحداث قبل النبوّة وأثناءها تدل دلالة ظاهرة على أن الوحي الذي نزل إليه لم يكن مصدره نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشاعره ولا عقله ولا تجربته، وإنما هو حقيقة مستقلة عن ذاته نازلة إليه من الله في السماء. فقبل مولده صلى الله عليه وسلم حدثت واقعة الفيل، التي حمى الله بها الكعبة واظهر بها شرف بيته المعظم، “وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده صلى الله عليه وسلم، وكذلك إخبار الكهان بأموره، وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته، أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته، وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب، وما وجد مكتوباً عند أهل الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته وأمر الناس باتباعه أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته”.
فهذه الحوادث تدل على أن النبوة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن راجعة إلى تجربته الحياتية، ولا إلى قوة مخيلته، وإنما هي اصطفاء واختيار إلهي، وإعداد وترتيب رباني، ولهذا تهيأت لها كل الظروف والأحوال المناسبة. - الدليل الخامس: إن الوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاضعاً لإرادته ولا لاختياره ولا لرغبته، فلم يكن توقيت نزول الوحي أو تحديد مكانه وحالته خاضعاً لإرادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ملبياً لمطالبه وحاجاته في وقت الاحتياج، فقد ابتلي في عرض زوجته، وهو من أعظم البلاء الذي يمكن أن يصاب به الإنسان، وكذلك سُئل أسئلة فلم يعرف جوابها، وكذلك مرت به وقائع لم يعرف فيها الحكم، ومع ذلك لم ينزل عليه الوحي إلا متأخراً، فلو كان الوحي خاضعاً لقوة مخيلة النبي أو لتجربته الشخصية أو لحدة ذكائه أو لرغبته، لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدفاع عن زوجته مباشرة، أو لأجاب على تلك الأسئلة مباشرة دفعاً للحرج عن نفسه.
- الدليل السادس: لو كان الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة مرض نفسي أو عصبي أو كان نابعاً من عواطفه الخاصة به، فلماذا أقر أعداؤه له في آخر الأمر؟! ، ولماذا اتبعوه وهم يعلمون بحاله وبكل تفاصيل حياته؟! ولا يصح أن يقال: إن اتباعهم له كان خوفاً من السيف والقتل، فإن كثيراً منهم أسلم قبل انتصار النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكّة، وكان كثير منهم يمكنه الهرب إلى بلدان أخرى، أو يمكنه الرجوع عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لم يقع من أهل مكة والطائف وهم أعلم الناس به، ومن ارتد من العرب لم يرتد لأنه يتهم النبي فيما جاء به ويكذبه، وإنما ارتدوا عصبية وقبلية كما هو معلوم.
فهذه البراهين وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن النبوة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي نزل عليه لا يمكن أن يكون نابعاً من داخله، أو ناشئاً من تجربته الخاص، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من عند الله تعالى، وبهذه البراهين يبطل هذا الاعتراض وينكشف ما فيه من خلل واضطراب وفساد معرفي واستدلالي.