تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن خلق الله للناس لا يمكن أن يكون كمالا؛ لأنه إن خلقهم لحاجة إليهم: إما أنه محتاج لعبادتهم، أو محتاج لمساعدتهم، أو غير ذلك من أنواع الاحتياجات، فهو ناقص، وإن كان خلقهم لغير حاجة فهو عبث، والعبث نقص، فالإله في خلقه للإنسان لا ينفصل عن النقص أبدا.
وإن قيل: إنه خلقهم لحكمة لا يعلمها إلا هو، فهذا يدل على أن الأديان قائمة على أمور لا تُفهم، وهذا يدل على مناقضتها للعقل والمنطق كما يقولون.
وهذا الاعتراض مبني على مغالطات عقلية، واستنتاجات خاطئة، واختزالات متكلفة لا دليل عليها، وبيان ما فيه من بطلان وفساد يتبين بالأمور التالية:
1- هذا الاعتراض قائم على مغالطة عقلية ظاهرة وهي المقابلة بين الاحتياج والعبث، فإذا انتفى الاحتياج في فعل ما فهو عبث، وإذا وجد الاحتياج انتفى العبث
وهذا تصور خاطئ؛
– فالعبث لا يقابل بالاحتياح بل يقابل بالحكمة، والحكمة مختلفة كل الاختلاف عن الاحتياج. فالطبيب الغني الذي يعالج الفقراء لا يكون بحاجة إليهم ولا يريد منهم شيئا وإنما لأنه يريد أن يقدم للفقراء النفع والخير. والله خلق الخلق وأمرهم بعبادته ليس لأنه محتاج إليهم بل لأن له حكما أخرى تجعل خلقه لهم محمودا وأمره إياهم بالعبادة كمالا.
2-إذا ثبت أن العبث لا يقابل الاحتياج، وإنما يقابله الحكمة، فإن العقل الضروري يدل على أن الله لم يخلق الكون إلا لحكمة ولم يكن الخلق لمجرد العبث، فالكون بما فيه من اتقان ودقة وصرامة موضوع لغاية محددة وحكمة، والإنسان من أشد مكونات الكون إتقانا وإحكامان فظهور الحكمة في خلقه أجلى وأبين.
3- إذا ثبت أن الله لم يخلق الناس إلا لحكمة فإنه لا يلزم أن نعلم كل التفاصيل المتعلقة بحكمة الله. وإنما يمكن أن نعلم بعضها فقط. وعدم العلم ليس علما بالعدم، فعدم العلم بحكمة الشيء لا يعني أن الشيء لا حكمة له أو لا فاعل له، فعدم علمنا بكل التفاصيل المتعلقة بالحكمة من خلق البشر، لا يقتضي بنفسه نسبة النقص إلى الله.
4-إذا ثبت أن خلق الله للناس وأمره إياهم بالعبادة ليس لأجل الاحتياج إليهم، وإنما لحكم عديدة، وثبت أن البشر لا يمكنهم أن يتعرفوا على جميع كمالات الله وحكمه. وغاية ما يمكنهم التعرف عليه بعض تلك الكمالات والحكم، وسنقتصر على ونوعين منها:
أ- تحقيق الكرامة الإنسانية: فخص الله الإنسان بالعقل والتفكر وحرية الإرادة والاختيار وأعلى منزلته وجعله مختلفا عن سائر أنواع الحيوانات في حياته، وأمره بالعبادة الاختيارية، فلولا أمر الإنسان بالطاعة لكان سائر المخلوقات أفضل منه لكونها مجبولة على الخضوع لله. فالمحافظون على عبادة الله يتنعمون بالنعيم الابدي في الجنة. ونحن لا ننكر أن البعض من الجنس البشري جزاؤهم الخلود في النار ولكن بسبب اعمالهم.
ب- ظهور لوازم الربوبية في الكون، وجبروت الله وملكوته وتحقق آثار كمالاته كلها. ومنها ظهور أسماء الله القهرية فمن أسمائه المنتقم والقهار. ولو كان الخلق على نفس الصلاح لم تظهر هذه الآثار، وأيضا ظهور آثار أسمائه المتضمنة لمعاني العفو والرحمة.
فإن قيل: بل تلك الحكم تدل على أن الله محتاج إلى الخلق في إظهار كمالاته، فلولا وجود الخلق لما ظهرت تلك الآثار:
نقول إن هذا غير صحيح؛ فنحن لا نقول إن كمال الله ناقص حتى تتحقق آثاره في الوجود. فلو لم تتحقق كان باقيا على النقص، وإنما نقول إن تحقق تلك الآثار لازم ضروري لكماله سبحانه وربوبيته، فتحقق آثار أسمائه نتيجة لكماله تعالى وليس سببا لها، فهناك فرق بين أن نقول إن وجود المخلوقات سبب في كمال الله وبين أن نقول إن وجودها نتيجة لكمال الله.
5- الاعتراض الذي أورده الرازي أن التكليف انما جاء لتحصيل مصلحة خاصة بالإنسان؛ فهذه مغالطة منطقية؛ فقد ظهر من الكلام أن التكليف جزء جوهري من نظام الكون جملة: تتعلق به آثار في طبيعة المفاضلة بين الأجناس وطبيعة علاقة الإنسان بالكون والأنواع الحيوانية الاخرى وطبيعة علاقة الانسان بالله وبكماله وربوبيته للكون، وهو مبني أيضا على أنه يمكن لجنس الإنسان أن ينفصل عن التعبد لله والخضوع له وأنه يمكن له ألا يكون عابدا لله في حياته، وكل ذلك مناف لطبيعة الإنسان وكونه مخلوقا ضعيفا مربوبا لله تعالى.
==========================