بسم الله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وبعد:
من أوضح الأمراض التي انتشرت في الآونة الأخيرة؛ هي النّسبية في كل شيء، والاعتراض على أحكام الله لمجرد جهل الحكمة منها، أو حتى اعتقاد أن حكمًا آخر أفضل وأنسب لزماننا من حكم الله تعالى -والعياذ بالله-، لذلك كان من المهمّ أن أتناول هذه المرة موضوع حكمة الجهل بحكم بعض الأحكام الشرعية، لكن قبل ذلك لا بدّ من تصحيح مفهوم العلاقة بيننا وبين ربِّ العزة جلّ علاه، فهي ليست علاقة موظف بمديره أو مواطن بحاكمه؛ وإنّما هي علاقة عبد -وأكرر عبد- بربِّه و مالكه، مع العلم أنّ البعض -والعياذ بالله- يتعاملون مع مدرائهم وحكّامهم بطريقة أكثر احترامًا من طريقتهم مع الله تعالى!، فتراهم يناقشون أحكام الله تعالى القطعية والتي لا خلاف عليها بين العلماء، كما لو كانوا يتناقشون أي طعام أفضل أو أي بلد أنسب للسياحة!، ومن ثمّ يقررون من غير علم ولا فهم أن حكمًا ما من أحكام الله تعالى لا يناسب عصرنا، أو حتى يتجرأ بعضهم بنعت أحكام الله تعالى بالظّالمة أو الوحشية؛ كقطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن، أو كفر النصارى واليهود، أو جواز تعدد الزوجات، وغيرها من أحكام الله التي لا خلاف عليها، ذلك فقط لأنّهم جهِلوا الحكمة من هذه الأحكام!، وقد وصلت الوقاحة ببعضهم أن يقرّ و يقول: (نعم هي أحكام الله، ولكن أرى العدل في غيرها)، تعالى الله عما يفترون علوًّا كبيرًا، ومما أدى إلى ذلك: هو تشوه مفهومِ العبوديّةِ عندهم، فنحن عباد لله هو خلقنا وأطعمنا وسقانا وآوانا وحفظنا، وأجاب دعاءنا، ونجانا في الكثير من الأحيان، ولم يعجلنا بعقوبة رغم ذنوبنا ليلًا و نهارًا، ورغم أنَّا عبيد لا فضل لأي مخلوق على ربِّه، والفضل كله منه جل علاه، فمهما فعل ربُّ العزّة بنا فلا حق لنا بالاعتراض، فحكمه فينا ماض وقضاؤه فينا عادل، وما فرضه علينا من أحكام هو الحقُّ والكمال والعدل، فما نحن إلا عباد أذلّاء فقراء ضعفاء محتاجون، ولم و لن تنتج عقولُنا و لو اجتمعت حكمًا واحدًا أفضل من حكم الله تعالى؛ لأن ربَّ العزة هو ربنا، وهو خالقنا، وهو أعلم بما يصلح أمورَ دنيانا وأخرانا، حيث قال جل علاه: ﴿أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ﴾ [الملك: ١٤]، وما خالف حكمه ما هو إلا النقص والجهل حيث قال تعالى:﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: ٥٠]، قال العلّامة ابن القيم في “الصواعق المرسلة” (٣ / ١٠٤٦): “أخبر سبحانه أنّ كلّ حكم خالفَ حكمَه الذي أنزله على رسوله؛ فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من حكم العلم والهدى”.
فكيف بعد هذا كلِّه يتجرّأ عبد من عباد الله على الاعتراض على حكم من أحكام الله تعالى فقط لأنَّه جهل الحكمة منه؟!، و لكن هو الجهل والهوى والكبر الذي يعمي البصيرة حتى لا ترى الحقَّ الأبلج و العياذ بالله. وهنا أقول للمعترض: ألم تقرّ بوجود الله تعالى؟، إن قلت: نعم؛ فإنك عند إقراراك بوجوده تعالى، أقررت له لزامًا بالكمال التّامّ من كل وجه، والتنزيه الكامل من كل عيب أو نقص، سواء في أفعاله أو صفاته تعالى، فهذا الإقرار بالكمال من مستلزمات الإقرار بوجوده تعالى، وإن قلتَ: لا؛ فلم تعترِض على حكمة رب لا تقر بوجوده ؟!.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه من لطف الله بنا لم يجعل حكم كلِّ أحكامه مبهمة؛ بل حكم الكثير منها معروفة رحمةً بنا كي ندرك بذلك حكمة الله تعالى الكاملة، وكي نستدل بما علِمنا على ما جهلنا، فنستدلّ لبعض الحِكم التي تظهر لنا في أوامر الله عز وجل على ما جهلنا ممّا لم يظهر، حيث لا يلزم من الجهل بالحكمة أن هذه الحكمة معدومة، فمثلًا في الميراث: للذَّكر مثل حظ الأنثيين، لأن الذكَر في الإسلام مكلف بالإنفاق على كلّ من يعوله من نساء وأطفال، بينما المرأة ولو كانت أغنى الناس فهي ليست مجبرة أن تنفق على زوجها، بل وزوجُها لا بد له أن ينفق عليها، وبالنسبة لتعدّد الزوجات؛ فمن المعروف أنّ أغلب من يقتل في الحروب هم الرجال، وأغلب من يموت بحوادث العمل هم الرِّجال، وفي معظم بلدان العالم نسبة الإناث أكبر من نسبة الذكور، ولذلك لو لم يشرع التعدّد لبقي مئات آلاف النساء بلا أزواج، ولَانتشر الزنا وبيوت البغاءِ في كل مكان، وهذا هو حال بلاد الكفار الآن، كما لزادت نسبة العنوسة والأرامل والمطلقات، وهذا هو الحال في بلاد المسلمين التي لا ينتشر فيها التعدد بكثرة، أمّا اذا جئت لحكم العبيد والجواري في الإسلام؛ والذي كثُر فيه اللغط لترين في هذا الحكم عين الحكمة، حيث يعترض كثر على عدم إلزام الإسلام المسلمين بتحرير العبيد والإماء دفعة واحدة وفي لحظة واحدة، ولقصر نظرهم يرون أن اقتصار فك الرقاب على حالات معيَّنة مثل القتل الخطأ، والظهار، ونقض الأيمان ظلم. ويرون الكمال في فكِّ كل العبيد والإماء دفعة واحدة، ولو حصل ما يرونه حكمة لحصلت كوارث في المجتمع المسلم؛ حيث سيكون في يوم واحد آلاف العبيد والجواري بلا سكن أو طعام وفي الشارع، وعندها سيتّجه غالب الجواري للبغاء، وغالب العبيد لقطع الطريق والسرقة ولفسد المجتمع، أمّا حكم الله تعالى فقد ضمن للعبيد والجواري المسكن والمطعم والمعاملة الحسنة، وحضّ على فكاك رقابهم حتى لم يبقَ عبد ولا أمَة في المجتمع المسلم الآن، ولو يتَّسع المقام لذكرت لكم العديد من الأحاديث في هذا المجال، والتي تظهر أنّ الحكمة كلها والكمال كلَّه في حكم الله تعالى، لا في سواه، ولذلك وجب على كل ذي لبٍّ أن يسلم لحكم الله تعالى، حتّى و لو لم يعلم الحكمة؛ لأنّ الأصل في أحكامه هي الحكمة، والتي ندركها في الكثير منها، وبالتالي: فما خفيت علينا حكمته وجب علينا التسليم له مع اليقين بأنه الأفضل، أمّا لماذا تخفى علينا بعض الحكم؛ فهذا حتى يختبر الله تعالى إيمان عبده، أيستسلم لحكم ربِّه، أم يعترض على الله تعالى ويستكبر؟، فما كلُّ من ادعى الإيمان مؤمن حيث قال تعالى : ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ﴾ [العنكبوت: ٢]، كما أنّ العقل البشري له حدود في إدراك الأمور مثله مثل باقي الحواس، فمثلًا لا نستطيع أن نسمع إلَّا الموجاتِ الصوتية التي يقع تردُّدها في مجال معين، ولا نستطيع أن نرى إلا الأجسام التي تبعد عنا مسافة تقع في مجال معين، وكذا إدراكنا؛ فله مجال معين لا يمكن تجاوزه، حيث قال ابن رشد: “أصدق ما قال القوم [يعني: الفلاسفة]: أن للعقول حدّا تقف عنده، ولا تتعداه”، ولكن في نفس الوقت لا بدَّ من التنبيه بأنَّ الشرع لا يأتي بمحالات العقول؛ وإنَّما يأتي بمحارات العقول، وهذا ما فصل به شيخ الإسلام حيث قال: “ولا ريب أنّ الرُّسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته، ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعَه، فهم يخبرونهم بمَحارات العقول، لا بمُحالاتها، فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرُّسل بعقله؛ كان شبيهًا بمن قال الله تعالى فيه: ﴿وَإِذا جاءَتهُم آيَةٌ قالوا لَن نُؤمِنَ حَتّى نُؤتى مِثلَ ما أوتِيَ رُسُلُ اللهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وقال: ﴿بَل يُريدُ كُلُّ امرِئٍ مِنهُم أَن يُؤتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢]. “درء تعارض العقل والنقل ٧/٣٢٧”.
ولعلمه سبحانه بأنَّ العباد قاصرون عن أن يحيطوا علمًا بحكمته، وقدرته، وتدبيره لأمر خلقه؛ قطع سبحانه أطماعَهم عن منازعتِه في سلطانه، أو مُساءلته في شأنه، فإنّ الرّبَّ هو الذي يسأل عباده، ويحاكمُهم، وأما العبيد؛ فهم عبيد، قال تعالى : ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: ٦٨]، و قال جلَّ علاه : ﴿لا يُسأَلُ عَمّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، و قد قال شيخ الإسلام عن هذه الآية: “وهو لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرَّد قهره وقدرته”.
انتهى، من: مجموع الفتاوى (٨/٥١١).
فمن خلال إخفاء الحكم في بعض الأحكام تتمايز الصفوفُ بين من آمن باسم الله الحكيمِ العليم اللطيف العدل الرَّحمٰن الرحيم الودود، قلبًا وعملًا ويقينًا، وبين من لم يكن له نصيبٌ من هذه الأسماء الحسنى إلا التّلفظ بها دونما يقينٍ أو إيمان فعليّ. و لا بدَّ أن نعلم خطورةَ هذا المرض وعواقبه، حيث لن يثبت لعبدٍ من الإسلام شيء دون أن يستسلم في الأمرِ كله، جليله وحقيره، لربِّ العالمين، ويرضى بشرعه ودينه، سواء وافق هواه أو خالفَه.
قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
فلا تثبت قدم الإسلام إلَّا على ظهر التَّسليم والاستسلام، كما قال الطحاوي رحمه الله:
“ومن أراد أن يتعلَّم التَّسليم والرِّضا بحكم الله؛ فعليه بسِير الصحابة رضوان الله عليهم، الذين ضربوا أروعَ الأمثلة في التسليم لحكم الله، سواء علموا الحكمة من أمر الله أم لم يعلموا، ففي لحظة نزول تحريم الخمرِ غرقت شوارع المدينة بالخمر، ولم نسمع عن صحابي كلَّم رسول الله ﷺيقولُ له ما الحكمة من فعل ذلك؟، و لماذا لا نبيعها كي نستفيد من ثمنها؟ [١].
و كذلك في قصَّة الصحابي الذي كان يرتدي خاتمًا من ذهب، فرآه رسول الله ﷺ ونهاه عن ذلك، ورمى خاتمه أرضًا، وعندما قال له : خذ الخاتم و بِعه؛ رفض ذلك وقال: أنَّه ما كان أن يأخذ شيئًا رماه الرسول ﷺ [٢].
و كذا عندما نزلَ أمر الاحتجاب؛ سارعتِ النساء وهنّ في الأسواق وأخذن يحتجبن!، سبحان الله لم ينتظرن حتَّى يفهمْن الحكمة، أو حتّى يصلْن البيت، بل مباشرةً عمِدْن إلى اتباع أمر الله برضا وتسليم عجيب [٣].
وغيرها من صور التسليم البديعة، والتي تعلِّمنا كيف يكون التسليم لحكم الله تعالى، حتَّى ولو لم تُعرف الحكمة من ذلك.
بالفعل أتعب الصحابةُ مَن بعدَهم!.
ولذلك؛ أوصي نفسي وإيَّاكم بمجاهدةِ الهوى والكبر والجهل، كي نسلم من هذه الآفّة، فالحكمة كلُّ الحكمة في أمر الله، والجهلُ كلُّ الجهل فيما خالفه، والآن أتترككم مع هذه الآية الكريمة تتفكَّرون فيها، ومن ثم تختارون أي الفريقين تريدون أن تتَّبعوا: فريق الظَّالمين أم فريق المفلحين؟!،
قال الله تعالى : ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
المصادر:
- موقع الإسلام سؤال و جواب.
- صحيح البخاري
- صحيح مسلم
- صحيح البخاري
الكاتب: إبراهيم بن محمد خليل الغزالي