تعزيز اليقين

الرِّقُّ في الإسلامِ: هلِ الإسلامُ ضدُّ الحريةِ؟!

تُثارُ إشكالاتٌ عديدةٌ حولَ تاريخِ الرقِّ في الإسلامِ خصوصًا في العصرِ الحاليِّ؛ حيثُ بلغتِ الثقافةُ الغربيةُ الغالبةُ أوجًا عظيمًا، وصارتِ الغلبةُ للمزاجِ الليبراليِّ فيمَا يُشكِّلُ الأحكامَ والتصوراتِ، وهذهِ الثقافةُ الغربيةُ تضعُ الإنسانَ في موقع الذروة؛ فحريَّتُهُ هيَ الهدفُ الأسمى، وتلبيةُ رغباتِه هيَ المقصودُ بكلِّ اختراعٍ أو تطورٍ أو تقدمٍ علميٍّ. وفي الثقافةِ الليبراليةِ لا شيءَ ينبغي لَهُ أنْ يعوقَ أو يحدَّ من هذهِ الحريةِ البشريةِ، ولا أنْ يرشّدَها ولا أنْ يهديَها سبُلَها ولَوْ كانتِ التعاليمُ السماويةُ.

ومصدرُ المشكلةِ هوَ تباينُ الرؤيةِ الإسلاميةِ عنِ الرؤيةِ الغربيةِ، فالرؤيةُ الإسلاميةُ تجعلُ ذروتَها رضا الرحمنِ سبحانَه وتعالى، وتجعلُ حياةَ الإنسانِ ورغباتِه في سياجٍ حصينٍ من تعاليمِ الرحمنِ ليسْعَدَ الإنسانُ. والإسلامُ يرى الإنسانَ مفضَّلًا ومكرَّمًا على غيرِه من المخلوقاتِ، ولهُ العقلُ الذي يجبُ أنْ يجيدَ استخدامَه ولهُ حريةُ الإدارةِ فيمَا يختارُ، غيرُ أنَّ الإنسانَ -في الإسلام- لوْ تُركَ بغيرِ الشرعِ لفسدتِ الأرضُ، ولاتَّبَعَ كلُّ شخصٍ هواه، ولاتَّخَذَ كلُّ واحدٍ إلهَهُ هواه. لذا كانتْ حريةُ الإنسانِ -في الإسلام – تنتهي عندَ حدودِ اللهِ، أمَّا في التصورِ الغربيِّ فحريةُ الإنسانِ تتوقفُ عندَ حدودِ حريةِ غيرِه من الإنسانِ، وهي حريةٌ تتَّبِعُ هوى الإنسانِ ولا تقيمُ وزنًا للوازعِ ولا الضميرِ ولا الأخلاقِ طالما لمْ تحققْ منفعةً للإنسانِ.

وموضوعُ الرقِّ في الإسلامِ موضوعٌ قديمٌ تناولَه المستشرقونَ في العصرِ الحديثِ، ولمْ يكنْ مثارَ جدلٍ قديمًا؛ لأنَّ كلَّ أممِ أهلِ الأرض كانتْ تمارسُ الرقَّ بصورةٍ من الصورِ، وكانتْ أعلاها وأنقاها وأفضلَها إنسانيةً الصورةُ الإسلاميةُ التي جعلتْ للعبيدِحقوقًا، ووسَّعتْ مجالاتِ العتقِ، وضيَّقتْ أبوابَ الرقِّ، حتى كادَ يختفي لولا بقاءُ الأسبابِ الموجِبَةِ لهُ عبرَ العصورِ، حتى بداياتِ العصرِ الحديثِ الذي تكوَّنتْ فيه الدولُ القطريةُ الحديثةُ، وظهرتْ فيه المواثيقُ والأعرافُ الدوليةُ.

وفي هذا المقالِ سنتناولُ بعضَ الشبهاتِ حولَ الرقِّ في الإسلامِ عبرَ محورينِ: حريةِ الإنسانِ، وانتهاءِ الرقِّ.

  • أولًا : الأصل في الإنسان الحرية: 

الحريةُ النفسيةُ في نظرِ الإسلامِ هي الأصلُ في كلِّ بني الإنسانِ، وهي ثابتةٌ منْ حيثِ الأصلِ لكلِّ البشرِ، وهذا ما تدلُّ عليه مقولةُ عمرَ بنِ الخطابِ الشهيرةُ التي قالَها مخاطِبًا فيها عمرًا بنَ العاصِ: “متى استعبدْتُمُ الناسَ وقدْ ولدَتْهُمْ أمهاتُهُمْ أحرارًا”[1]، وهي تدلُّ على الأصلِ اليقينيِّ الذي يثبتُ لكلِّ إنسانٍ يُوجدُ على وجهِ الأرضِ أنَّه حرٌ طليقُ الإرادةِ في تصرفاتِه واختياراتِه من غيرِ خضوعٍ لإرادةِ أحدٍ منَ البشرِ، ولا تكونُ تصرفاتُه مملوكةً لأحدٍ من الناسِ. قالَ الإمامُ الشافعيُّ: “أنّّ أصل الناسِ الحريةُ”[2]، ويقولُ ابنُ قدامةَ: “الأصلُ في الآدميينَ الحريةُ، فإنَّ اللهَ تعالى خلقَ آدمَ وذريتَه أحرارًا، وإنَّما الرقُ لعارضٍ، فإذا لمْ يُعلمِ العارضُ، فلَهُ حكمُ الأصلِ”[3] وبهذهِ المساواةِ بينَ جميعِ الأجناسِ والألوانِ والأعراقِ يتمايزُ الإسلامُ عنْ غيرِه منَ الدياناتِ والفلسفاتِ؛ ففي الفلسفةِ اليونانيةِ يرى أفلاطونُ أنَّ معيارَ الحريةِ هوَ العقلُ، فمنْ وهبتْهُ الطبيعةُ عقلًا مُفَكِّرًا فهوَ حرٌ، وبسطاءُ العقولِ همْ رقيقٌ بطبعِهم[4]، واليهوديةُ تقومُ على التمييزِ بينَ اليهوديِّ وغيرِ اليهوديِّ؛ فالجنسُ اليهوديُّ -عندَهم- لا يُسترقُّ لأنَّه عنصرٌ مقدسٌ مختارٌ منَ اللهِ بعكسِ غيرِهم من الأمَمِيين، وبعضُ الكنائسِ ترى الرقَّ اختيارًا منَ اللهِ لبعضِ الأجناسِ ليكونوا متصفينَ بالرقِّ خُدَّامًا لغيرِهم منَ الأشرافِ[5].   

  • إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فلمَاذا  وُجِد الرقيقُ في المجتمعِ الإسلاميِّ؟

جاءَ الإسلامُ والرقُّ والاستعبادُ للبشرِ شائعٌ في الإنسانيةِ ومتجذرٌ في أعماقِها، لذا قامَ الإسلامُ بعمليةٍ إصلاحيةٍ ضخمةٍ للفسادِ في نظامِ الرقِّ، وارتقى بِهِ إلى مراحلَ متطورةٍ جدًا في تاريخِ الإنسانيةِ. فحَفِظَ للرقيقِ إنسانيَّتَه وحقوقَه، وعاقبَ من اعتدى عليه وظلمَه، وصحَّحَ العلاقةَ بينَ الرقيقِ وسيدِهِ وجعلَ له حقوقًا مُلْزِمةً، وسدَّ كلَّ منابعِه الظالمةِ وفتحَ السُّبُلَ لتقليصه في المجتمعِ. فألغى الإسلامُ كلَّ مصادرِ الرقِّ ولمْ يُبقِ إلَّا على مصدرٍ واحدٍ وهوَ الاسترقاقُ في الحربِ للمُحارِبِ فقط، ومنْ كانَ منَ الأعداءِ في بيتِه لمْ يباشرِ الحربَ ولمْ يحضرْ أرضَ المعركةِ فلا يصحُّ استرقاقُه[6].  

ومعَ كونِ الاسترقاقِ في الحربِ للمحاربِ هوَ المصدرُ الوحيدُ للرقِّ، لمْ يجعلْهُ الإسلامُ الخيارَ الوحيدَ، بلْ جعلَ معَه خياراتٍ أخرى كالمنِّ والفداءِ، والقتلِ في بعضِ الأحيان: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد: ٤).

كما وسَّعَ الإسلامُ منافذَ العتقِ ورغَّبَ فيه، ومنْ هذهِ المنافذِ:

الصدقةُ: روى أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: “منْ أعتقَ رقبةً مسلمةً، أعتقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضوًا من النارِ حتى فرْجَه بفرجِه”[7]

ومنها الكفارةُ: عنِ القتلِ الخطأِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ }(النساء:٩٢)، وكفارةُ الظِّهارِ{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ}[سورة المجادلة ٣]، والحنثُ باليمينِ:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ}(المائدة: ٨٩)، والجِماعُ في نهارِ رمضانَ كما جاءَ في السنة.

ومنها مصارفُ الزكاةِ: “وفي الرقاب” (التوبة: ٦٠)، ومنها العتقُ عن طريقِ المكاتبةِ:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}(النور: ٣٣)، وللعبدِ المُكَاتِبِ بذلكَ حقٌ مفروضٌ في الزكاةِ، ومنها العتقُ بسببِ الاعتداءِ على الرقيقِ، ففي الحديثِ: “منْضَرَبَ غلامًا لهُ حدًا لم يأتِهِ أو لطمَه فإنَّ كفارتَه أنْ يعتقَه”[8]

  • وماذا عنِ الجواري والإكثارِ منهنَّ والتمتعِ بهنَّ كما شاعَ في الإعلامِ؟

  1. أولًا: كثيرٌ من الصورِ الإعلاميةِ في الأفلامِ والمسلسلاتِ مغلوطةٌ، تعملُ على تشويهِ صورةِ الإسلامِ من رؤيةٍ استشراقيةٍ.
  2.  وثانيًا: ليستْ سلوكياتُ المسلمينَ تعبيرًا عنِ الإسلامِ دائمًا، فمنَ المسلمينَ الكثيرُ الذين لا يتَّبِعونَ تعاليمَ الدينِ الصحيحةِ، ولا ينبغي أنْ يُحاكمَ الإسلامُ إلى سلوكياتِهم الشخصيةِ.
  3. وثالثًا: بالنسبةِ إلى الجواري، تذَكَّرْ أنَّها اُسترقَّتْ عنْ طريقٍ واحدٍ فقط، وهوَ طريقُ المشاركةِ في القتالِ.

إذنْ هذهِ الجاريةُ هي في الأصلِ محاربةٌ معتديةٌ على المسلمينَ، ولوْ كانتِ الغلبةُ لجيشِها لكانوا استرقَّوا المسلمينَ كذلكَ، بلْ لمْ يكونوا ليلتزموا بشعائرِ الدينِ في التعاملِ معهم. وكمَا أنَّ هذهِ المحاربةَ كانتْ حريصةً على قتلِ المسلمينَ وتدميرِهم، فكانَ عقابُها الاسترقاقَ– إنْ لمْ ينلْها المنُّ أو الفداءُ- في حينِ أنَّ أختَها التي لمْ تحاربْ وبقيتْ في بيتِها لا تُسترقُّ وتبقى على حريتِها الأصليةِ، وتختارُ إمَّا الإسلامَ أو البقاءَ على دينِها.

بالإضافةِ إلى ذلكَ، فإنَّ المحاربةَ المُسترقةَ لا تُستكرهُ على الزواجِ، فهي إنْ أرادتْ ألَّا تكونَ فراشًا لمالكِها، فلا تُجبرُ على ذلكَ، ولكنْ تتَّجهُ إلى المكاتبةِ وتبقى عندَ مالكِها تخدمُه دونَ أنْ يمسَّها حتى تنتهيَ من سدادِ المبلغِ المتفقِ عليه فتحررَ نفسَها. وإنْ وجدت أنَّها مغلوبةً على أمرِها فقومُها همْ منْ أكرهوها على المحاربةِ، ولا مالَ عندَها، فإنَّها إنْ تزوَّجْها سيدُها من المسلمينَ حرَّرَها ولدُها الذي تلدُه فتصبحُ أمَّ ولدٍ محررةً.

والمسلمونَ لا يسترقونَ البلادَ التي يدخلونَها بالأمانِ، ولا بالنزولِ على الجزيةِ، فلا يكونُ الرقُّ إلا لامرأةٍ محاربةٍ مقاتلةٍ معَ الكفارِ أوْ وُجدتْ معَ المقاتلينَ لِتشدَّ من أزْرِهم على القتالِ. ولا يجوزُ لمسلمٍ أنْ يجامعَ أسيرةً قبلَ إقرارِ الحاكمِ المسلمِ برقِّها وعبوديتِها، وهذا أمرٌ تسبقُه أمورٌ، فربَّما رأى الحاكمُ العفوَ العامَّ عنِ الأسرى لمصلحةٍ للمسلمينَ، وربَّما رأى قبولَ الفديةِ، وغيرُ ذلكَ ممَّا هو معروفٌ، وربَّمَا عرضَ عليهنَّ الإسلامَ فيخلِّي سبيلَ منْ دخلتْ في الإسلامِ.  فالأسيرُ مرحلةٌ قبلَ الرقِّ، ولا يكونُ رقيقًا حتى يحكمَ الحاكمُ المسلمُ عليه بهذا.

  • حقوقُ الأرقاءِ في الإسلامِ[9]:

لم تكتفِ الشريعةُ الغرَّاءُ بتقليلِ عددِ العبيدِ والإماءِ فحسبُ، بلْ شرعتْ لهم حقوقًا و حفظتْ لهم كرامتَهم لكونهم بشرًا، معَ أنَّهم همْ منْ جنَوا على أنفسِهم بحربِهم الإسلامَ والمسلمينَ ومِن هذه الحقوقِ:

  1. التأكيدُ على المساواةِ في أصلِ الانسانيةِ،فقد قالَ النبيُّ ﷺ :” يا أيَّها الناسُ ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ ولا لأَحمرَ على أسودَ ولا لِأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتقوى”
     
  2. المساواة   في الَأجرِ الَأخروي {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل: ٩٧) والآيةُ عامةٌ تشملُ كلَّ منْ عملَ صالحًا سواءً كانَ حرًا أو رقيقًا.
     
  3. إثباتُ الأخوة الإيمانيةِ ومقتضياتها بينَ السيدِ والعبدِ أو الأمةِ؛ لقولِه ﷺ: ” إنَّ إخْوانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ‏”‏‏متفق عليه.يعني مطعمَ ومشربَ وملبسَ العبدِ من حقوقِه على سيدِه و ليسَ أيَّ مطعمٍ أو ملبسٍ، وإنَّما ممَّا يأكلُ ويلبسُ السيدُ نفسُه، وإذا ما كُلِّفوا ما يشقُّ عليهم فالسيدُ يساعدُهم، يعني صارتْ علاقةَ أخوةٍ وأسرةٍ واحدةٍ، كما نهى النبيُّ ﷺ أنْ يناديَ السيدُ عبدَه يا عبدي أو أمتَه يا أمتي: “لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي” أخرجَه مسلمُ.
  4. الَأمرُ بالإحسانِ إليهم و إكرامهم”: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(النساء: ٣٦)  وعنْ أمِّ سلمةَ قالتْ: “كانَ مِنْ آخرِ وصيةِ رسولِ اللهِ ﷺ الصلاةَ الصلاةَ ومَا ملَكَتْ أيمانُكُمْ”.
  5. التأكيدُ على المساواةِ بينهما  في القصاص  كما جاءَ مُصرَّحًا بِهِ في قوله ﷺ: “منْ قتلَ عبدَه قتلْنَاه ومَنْ جدعَ عبدَه جدعْنَاه” حسنٌ غريبٌ وأخرجَه أبو داوودَ وابنُ ماجةَ.
  6. إيجابُ المهرِ للأمةِ المتزوجةِ {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النساء: ٢٥).   وكانَ من نتيجةِ معاملةِ المسلمينَ للأرقاءِ هذهِ المعاملةِ، اندماجُ الأرقاءِ في الأُسرِ الإسلاميةِ إخوةً متحابينَ، حتى كأنَّهم بعضُ أفرادِها.
    يقولُ جوستاف لوبون في (حضارةِ العربِ): “الذي أراه صادقًا هو أنَّ الرقَّ عندَ المسلمينَ خيرٌ منه عندَ غيرِهم، وأنَّ  حال الأرقاءِ في الشرقِ أفضلُ من حالِ الخدمِ في أوروبا، وأنَّ الأرقاءِ في الشرقِ يكونونَ جزءًا من الأسرة… وأنَّ المواليَ الذينَ يرغبون في التحررِ ينالونَه بإبداءِ رغبتِهم.. ومعَ هذا لا يلجئونَ إلى استعمالِ هذا الحقِ” انتهى.

و في ظلِّ دينِ اللهِ الإسلامِ، سنحتِ الفرصةُ للعبيدِ والإماءِ أنْ يدخلوا ميزانَ التفاضلِ عندَ اللهِ
تعالى حتى ذابتِ الطبقاتُ المجتمعيةُ التي كانتْ في الجاهليةِ بينَ الَأحرارِ أنفسِهم وبينَ الَأحرارِ والعبيدِ، حيثُ لمْ يتركِ الإسلامُ أيَّ معيارٍ للتفاضلِ عندَ ربِّ العبادِ إلَّا التقوى، لا لونَ ولا جنسَ ولا رقَّ ولا مهنةَ ولا نسبَ ولا شكلَ بلِ الدينَ والإيمانَ فقط، فلا مانعَ أنْ يتقدمَ العبدُ على الحرِّ في بعضِ الأشياءِ فيما يفضِّلُه فيه من شئونِ الدينِ والدنيا، وقد صحَّتْ إمامتُه في الصلاةِ، وكانَ لعائشةَ أمِّ المؤمنينَ عبدٌ يؤمُّها في الصلاةِ، بلْ لقدْ أمرَ الإسلامُ المسلمينَ بالسمعِ والطاعةِ وإذا ملكَ أمورَهم عبدٌ!

  • ثانيًا: هل قصد الإسلام إلى إلغاء الرق تمامًا؟ 

لم يأتِ نصٌ صريحٌ في القرآنِ أو السنةِ يدلُّ على ضرورةِ إنهاءِ نظامِ الرقيقِ، لذا اختلفَ العلماءُ في مقاصدِ الإسلامِ وهلْ قصدَ إلى إلغاءِ الرقِّ بالكليةِ أمْ لا؛ فمنهم منْ قالَ إنَّ مِنْ مقاصدِ الإسلامِ الكليةِ إبطالُ العبوديةِ وتعميمُ الحريةِ، منهم الطاهرُ بن عاشور، ومحمد رشيد رضا الذي قالَ: “ولمَّا كنَّا مخيرينَ فيهم – الأسرى – بينَ إطلاقِهم بغيرِ مقابلٍ والفداءِ بهم، جازَ أنْيُعدَّ هذا أصلًا شرعيًّا لإبطالِ استئنافِ الاسترقاقِ في الإسلامِ، فإنَّ ظاهرَ التخييرِ بينَ هذينِ الأمرينِ أنَّ الأمرَ الثالثَ الذي هو الاسترقاقُ غيرُ جائزٍ وإنْ كانَ هو الأصلُ المتَّبعُ -قديمًا- عندَ جميعِ الأممِ فمِنْ أكبرِ المفاسدِ والضررِ أنْ يسترقوا أسرانا ونطلقَ أسراهم.[10]
والفريقُ الثاني من العلماءِ يرى أنَّ الشريعةَ لمْ تصرِّحْ بضرورةِ إنهاءِ الرقِ، وأنَّه عقوبةٌ شرعيةٌ مثلَه مثلَ باقي الحدودِ، ورغمَ تضييق الشريعةِ في تطبيقِ الحدودِ فإنَّها لمْ تقصدْ إلى إلغائِها بالكليةِ.

ومِن أصحابِ هذا الرأي الدكتورُ محمدُ البهي الذي قال: “إذا لم يبقِ الإسلامُ استرقاقَ الأسيرِ كمبدأٍ، لا يكونُ منهجًا سليمًا لحياةٍ إنسانيةٍ كريمةٍ؛ لأنَّه عندئذٍ لمْ يشرْ بالأسلوبِ الذي ينطوي على الردعِ للمعتدي الأثيمِ الذي لا ينجحُ معَه اللينُ أو حسنُ الخلقِ… ومبدأُ الاسترقاقِ قائمٌ وباقٍ، لكنْ لا يجبُ الأخذُ  به دائمًا، كمَا لا يجبُ التغاضي عنه لمصلحةٍ لا تعودُ على المسلمينَ بالخيرِ”[11].

ويتبقَّى سؤالٌ آخرُ: هلْ يمانعُ الإسلامُ من إلغاءِ الرقِّ بالكليةِ؟

والفارقُ بينَ السؤالينِ عظيمٌ، فالأولُ يسألُ عن حقيقةِ ما يدعو إليه الإسلامُ ومرادِ شريعتِه، أمَّا الثاني فهو يبحثُ في موقفِ الإسلامِ من الدعواتِ القادمةِ من خارجِه، والتي تدعو إلى إلغاءِ الرقَّ. والإجابةُ على هذا السؤالِ واضحةٌ وصريحةٌ ومجمعٌ عليها بينَ العلماءِ، وهي أنَّه يجوزُ التعاقدُ معَ غيرِ المسلمينَ على عدمِ الاسترقاقِ، وإذا دخلتِ الدولةُ الإسلاميةُ في هذا العقدِ فإنه يحرمُ نكثُه أو عدمُ الالتزامِ بِه[12].

وهو ما حدثَ فعلًا بتوقيعِ الدولِ الإسلاميةِ والعربيةِ على اتفاقيةِ الأممِ المتحدةِ لإبطالِ الرقَّ عام ١٩٥٦.  وفي المقابلِ، فإنَّ رقًّا من نوعٍ جديدٍ ينتشرُ في العالمِ الغربيِّ بالذاتِ، وهو رقٌّ يتمثلُ في الاستعمارِ للشعوبِ ونهبِ خيراتِها وقتلِ رجالِها وفرضِ الأجنداتِ عليها بالقوةِ والتميزِ العنصريِّ بِناءً على اللونِ والرقِّ الجنسيِّ الخفيِّتحتَ ستارِ البغاءِ.

وبهذا نرى أنَّ الإسلامَ لمْ يستعبدِ الإنسانَ ابتداءً، بلْ أقرَّ الحريةَ الأصليةَ لكلِّ ذريةِ آدمَ، وأنَّه عالجَ مشكلاتِ المجتمع الإسلاميِّ الأولِ بتضييقِ مصادرِ الرقِّ وتوسيعِ منافذِ العتقِ، وكرَّمَ الرقيقَ وجعلَ لهم حقوقًا، ثمَّ إذا دُعيَ إلى عقدِ ميثاقٍ لعدمِ الاسترقاقِ كانَ من أسرعِ الملبِّينَ له، وصدقَ رسولُ اللهِ ﷺ:” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا”.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 


[1] فتوح مصر وأخبارها، ابن عبد الحكم (٢٩٠)، ومناقب عمر بن الخطاب، ابن الجوزي (٩٩).

[2]الأم، الشافعي (٦/٢٤٧).

[3] المغني، ابن قدامة (٦/ ٤٠١).

[4]الرق ماضيه وحاضره، عبد السلام الترمانيني (٢٠).

[5] المرجع السابق (٢٩- ٣٢).

[6] فضاءات الحرية. سلطان العميري. (١٧٤).

[7] البخاري (٦٧١٥) ومسلم (١٥٠٩).

[8] مسلم (١٦٥٧).

[9] تم اقتباس القسم الخاص بحقوق الرقيق من مقالة للزميل الأستاذ إبراهيم الغزالي.

[10] مقاصد الشريعة الإسلامية (٣٩٢).

[11]الإسلام والرق. محمد البهي (٥).

[12] فضاءات الحرية. سلطان العميري (١٩٧) وله نقول في ذلك عن السرخسي شرح السير الكبير (١/٣٠٣ ) والقيرواني التهذيب في اختصار المدونة (٣/٧).

الكاتب: أ.د عنتر صلحي عبد اللاه

المراجعة: كرم شامية - مها السفياني

التدقيق اللغوي: إسراء عبدالرحمن

التصميم: معاني بنت فهد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى