المقدمة:
إن من أعظم الحقائق الوجودية التي صار يجادل فيها فئامٌ من الناس هي قضية وجود الخالق تبارك وتعالى ، لا نقصٍ في الأدلةِ والبراهين الدالة عليه – قوةً ووضوحاً، يسراً وسهولةً – وإنما لأسباب متعددةٍ ليس هذا موطن ذكرها والتنقيب عنها، المهم هنا أن تستحضر قضيةً هامة مفادها : أن [ معرفة الحقِّ لا تستلزم اتِّباعه ] .
في هذه المقالة أستعرض معكم دليلاً من أدلةِ وجود الخالق وكماله ، منبّهاً على بعض القضايا التي أرى من المهم التنبيه عليها دفعاً لأصول اعتراضات الملاحدة وأضرابهم .
فأقول مستعيناً بمن فَطَرَ عيناً تُبصر هذه الكلمات :
تعدد الأدلة على وجود الخالق تبارك وتعالى.
إن إثباتَ وجود الخالق تبارك وتعالى له عدة مسالك وطرق ، كثيرٌ منها يغني عن غيره في الوصول إلى المطلوب لما اتصف به ذلك الدليل من القوة والوضوح ، والقرب للعقل الإنساني .
وسأعتمد في هذه المقالةِ أحد تلك الأدلة ، ألا وهو دليل الخلقِ والإيجاد (الحدوث)، وأبسطُ القولَ فيه ، تاركاً لعقلك الحكم على ما كتبت .
مستويات دليل الخلق والإيجاد ومكوناته.
إن دليل الخلق والإيجاد على مستويين بالنظر إلى تقسيم الموجودات إلى موجودات بدايتها معلومةً لنا بالحس والمشاهدة – لا تحتاجُ إلى دليل – وموجودات بدايتها معلومة بالنظر والاستدلال ككثير من أجزاء الكون، والجامع بينهما أن وجودهما له بداية ، ثم القسمة الأعم للموجودات : موجودات لها بداية ، وموجودات ليس لها بداية .
– فالمستوى الأول إذاً / الحوادث المشاهدة كالإنسان مثلاً :
المقدمة الأولى : الإنسان حادث
المقدمة الثانية : لكل حادث محدِث
النتيجة : للإنسان محدِث
– والمستوى الثاني / حدوث الكون أو الدليل الكوزمولوجي ( Cosmological argument )
المقدمة الأولى : الكون حادث
المقدمة الثانية : لكل حادثٍ محدِث
النتيجة : للكون محدِث .
وسأبدأ بعرض المستوى الأول لكون مقدمتيه ضروريتان ، وأما المستوى الثاني فسأرجئ الحديث عنه إلى مقالةٍ أخرى لضرورة ذكر بعض الأمور المهمة إضافةً إلى أدلة العلم التجريبي – وإن كان اللبيب يكفيه في إثبات حدوثه حدوث بعض أجزائه – .
مكونات المستوى الأول من دليل الخلق والإيجاد.
المقدمة الأولى : وجود الحوادث
ثمة حوادث معلومةٌ بالضرورة لا يمكن لأحدٍ إنكارها، كالإنسان مثلاً وُجد بعد عدم ، والمطر كذلك ، وهكذا كل ما يحدث أمامنا، فالحوادث إذاً وجودها ينفي امتناعها ( أي : استحالة وجودها ) ، وعدمها قبل وجودها ينفي وجوبها ( أي : استحالة عدمها ) .
المقدمة الثانية : لكل حادث محدث.
الموجود بعد عدمٍ لا بد له من سبب ، علمٌ يجده الإنسان في نفسه لا يستطيع دفعه ، يقول ابن تيمية :
« معلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث بلا محدِثٍ أحدثه ، وأن حدوث الحادث بلا محدِث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل ، وهذا أمر مركوز في بني آدم …. ولهذا لو جوّز مجوِّزٌ أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدِث لذلك ، لكان عند العقلاء إما مجنوناً ، وإما مسفسطاً ؛ كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية … » [١]
ويقول لايبينتز أحد مؤسسي علم التكامل والتفاضل :
« براهيننا مؤسسة على مبدأين عظيمين : مبدأ عدم التناقض الذي بفضله تحكم ببطلان كل ما هو متناقض وصدق كل ما يناقض ما هو باطل ، ومبدأ العلة الكافية الذي به لا نعد أي واقعة قائمة في الواقع أو موجودة في الوجود الفعلي ، لا نعد أي قضية صادقة ما لم يكن لها علة كافية تبين لماذا كانت القضية أو الواقعة على ماهي عليه وليس على نحو آخر » [٢]
بل الحياة اليومية والتعاملات مع الناس قائمةٌ على الاعتراف بالسببية -أي: لكل حادث سبب – فالطبيب مثلاً لا يمكنه أن يزاول مهنته دون اعتراف بها ؛ إذ عمله هو البحث عن أسباب ما يعتري جسد الإنسان ولولا يقينه بأن لكل تغير أو حدث سبباً لكان بحثه عبثاً !
وأيضاً هذا المعنى يُدركه حتى الأطفال ؛ فمثلاً « إذا رأى شيئاً قال : من عمل هذا ؟ ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل » [٣] و« لو ضُرِبَ الصبي ضربة، فقال : من ضربني ؟ فقيل: ما ضربك أحد لم يصدِّق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل » [٤]
بل ترى الطفلَ حين تُخفي لعبته ينظرُ لمكانها ثم ينظر إليك بدهشةٍ وكأنه يقول : مَن أخفاها ؟! مع أننا لم نعلِّمه أن لكل حادثٍ أو فعل سبب وفاعل !
يقول جيمس لوبيا james Leuba المتخصص في دراسة الأصول النفسية والأنثروبولوجية للأديان :
« تنتاب الدهشةُ كثيراً من الناس وهم يشاهدون استيلاء سؤال الخلقِ على خواطر الأطفال ، يشاهد الطفل حجراً قي تشكّل على نحوٍ غريب ،ثم يسأل : مَن صنعه ؟ فيأتي الجواب : لقد تشكّل بفعل انسياب تيار الماء. ولكنه ، وعلى نحو مفاجئ، لا يلبث أن يقذف بسلسلةٍ من الأسئلة المتعاقبة ، معبرةٌ عن ذهوله بقدر تعبيرها عن تساؤله : مَن صنع النهر؟ مَن صنع الجبل؟ من صنع الأرض ؟. من دون شك ، ضرورة الصانعmaker مغروزة في الإنسان البدائي منذ وقتٍ مبكّر » [٥]
ويعلّق الدكتور عبدالله الشهري :
« نمثِّل بالأطفال لأن وعيهم لم يتشكل على أنقاض التصور الفاسد للعقل من جهة ، ولأن عقولهم تعمل وفق ما نحسبه التصور الصحيح للعقل من جهة أخرى » [٦]
تقسيم العلم إلى ضروري ونظري:
وفيما يلي مزيد كشفٍ لضرورة مبدأ السببية، من باب التذكير والتأكيد لا من باب إقامة الدليل عليه؛ لكونه من العلوم الضرورية التي يستحيل الاستدلال عليها؛ إذ المعارف الإنسانية إما ضرورية ( لا تحتاج إلى دليل ) وإما نظرية ( أي : لا نسلّم بصحتها إلا بعد إقامة الدليل ) ولو كانت كل المعارف ضرورية لما احتجنا إلى إعمال العقل والبحث عن الأدلة للتصديق بكل معنى لاح لنا . وهذا مخالف لما يُعلم من حال البشر، أما على تقدير نقيض ذلك (أي : قيام كل المعارف على الاستدلال ) للزم إما التسلسل أو الدور الممتنع ، فالقضية « أ » تستند في صحتها على الدليل « ب » و « ب » تستند على « ج » وهكذا إلى غير نهاية وهذا هو التسلسل الممتنع وسيأتي بيان امتناعه، أما الدور الممتنع يكون باستناد « أ » على نفسها مباشرةً أو بتوسط علومٍ أخرى، فثبت كون المعارف البشرية تنقسم إلى معارف ضرورية ومعارف نظرية.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى :
« البرهان الذي ينال بالنظر في العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية ،فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علمٍ ضروري؛ إذ المقدِّمات النظرية لو أُثبتت بمقدمات نظرية دائماً لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محلٍ له ابتداء، وكلاهما باطلٌ بالضرورة واتفاق العقلاء … »[٧]
وهذا في حدِّ ذاته دليل على وجود الخالق تبارك وتعالى سيأتي بيانه في مقالات أخرى إن شاء الله.
ضرورة مبدأ السببية.
الذي يهمّنا الآن تسليط الضوء على ضرورة السببية وذلك من خلال أربعة أمور :
الأمر الأول / أصالة العدم في الممكنات :
إن الأصل في المحدَثات هو العدم، وهي باقيةٌ على أصلها معدومة لا تنتقل منه إلا بسببٍ ذي صفاتٍ محددة لولاها لم يتمكن من الإيجاد.
يقول عبدالله العجيري :
« الموجود قبل وجوده إما أن يكون ممتنعاً أو يكون ممكناً أو يكون واجباً ، ومن المستحيل أن يكون ممتنعاً ؛ إذ لو كان كذلك لاستحال وجوده ، والفرض أنه موجود ، ومن المستحيل أيضاً أن يكون واجباً ؛ إذ لو كان كذلك لامتنع عدمه ، فلزم أن يكون ممكناً وهو ما يقبل الوجود والعدم ، وكونه قد انتقل من حالة العدم إلى الوجود يستدعي مرجحاً رجّح وجوده على العدم ؛ إذ بغير ذلك المرجح لاستمر على عدمه ولم يُوجد ، وهذا المرجّح هو السبب أو العلة في وجوده…. وما من موجود يظهر للوجود إلا وله علة رجّحت وجوده على عدمه ، ويستحيل أن تكون هذه العلة المرجحة عدماً محضاً ؛ فإن العدم ليس بشيء ، ولا يتصور أن يصدر عنه شيء ؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه » [٨]
ومن لطيف العبارات ما قاله أبو سليمان الخطّابي – رحمه الله – واصفًا تغيّر الإنسان من حال إلى حال دون اختيار منه وإرادة، ودلالة ذلك على وجود فاعل !
يقول :
« فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى، على أن للخلق صانعاً ومدبراً، أن الإنسان إذا فكّر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوالٍ شتّى مصرفة، كان نطفةً، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عِظاماً، ولحماً، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال؛ لأنه لا يقدر أن يُحدِث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضواً من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه، وأن له صانعاً صنعه، وناقلاً نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدّل أحواله بلا ناقل ولا مدبّر » [٩]
الأمر الثاني / لازمان لا مفر منها :
الحكم بجواز حدوث الشيء من غير شيء، يقتضي الحكم بجواز حدوثه من أي شيء تحقق فيه معنى الوجود؛ إذ الشيء الموجود -بغض النظر عن صفاته – أكمل من اللاشيء (العدم المطلق) من جهة جواز الإيجاد، وهذا سفهٌ عقليٌ انبثقَ عن سفهٍ آخر !
فمن جوّز حدوث الشيء من غير شيء لزمه أحد أمرين لا محيد له عنهما : إما مناقضة الواقع وذلك بإنكار تقسيم الموجودات إلى موجودات يصح وصفها بالقدرة ( ومعنى القدرة: صفةٌ تمكّن المتّصف بها من إيجاد الشيء ) ، وموجودات لا يصح وصفها بذلك، وينكر أيضاً تفاوت ما يصح وصفه بالقدرةِ = فتكون الموجودات كلها – عنده – متصفةٌ بالقدرة، لا بل القدرة على أي شيء !
وإما أن يُقر بذلك (أي : التقسيم والتفاوت ) فيقع حينئذٍ في التناقض من حيث ضرورة الحكم على كلِّ الموجودات بجواز إحداث الأشياء سواءً كانت تقدر على إحداثه أم لا؛ وذلك لأن مطلق الموجودات أحق بجواز الإيجاد من العدم المطلق، والثاني أحقُّ بالامتناع من الأول !
الأمر الثالث / الوقوع في التناقض :
إن الحوادث المشاهدة – كالإنسان مثلاً – يحكم العقل بجواز وجودها وعدمها، ووجودها يعني وجوبها بغيرها ؛ إذ لو كان وجودها بنفسها لكانت واجبة بنفسها فلزم اجتماع النقيضين؛ لما ترتّب على ذلك من اتصافها بالإمكان والوجوب الذاتيين في آن واحد !
الأمر الرابع / حدوث العلم :
تجويز حدوث الشيء بلا محدث سفهٌ عقلي يستلزم جواز حدوث العلم في نفسِ الإنسان بلا سبب البتة؛ إذ كلاهما حادث ولا معنى لتمييز أحدهما عن الآخر بجواز الحدوث من غير شيء ، وحيثُ كان الأمر كذلك لزِمَ ألّا يُحكم بجهلِ مدّعي العِلم إلا بعد سلوك طريقةٍ غيرَ طريقة العقلاء في سبيل الكشف عن صدق أو كذب مدعي العلم، فمثلاً حين يدّعي طفلٌ في الابتدائية قدرته على إجراء عمليات المُخِ والأعصاب فإن المجوّز لحدوث الشيء من غير شيء لا يستطيع إثباتَ جهله إلا بعد إجرائه العملية أو على الأقل اختباره – لاحظ أن صغْره وعدم بذله السبب في تعلم جراحة المخ والاعصاب غير كافٍ في إبطال ادِّعائه – ؛ فهب أنه تسرّع إلى تكذيب الطفل بحجّة عدم الأسباب المقتضية حصول قدرته على ما ادّعاه . سيقول الطفل : ألستَ تجوز حصول الشيء الحادث بلا سبب ؟ وأليست العلوم في النفس الإنسانية حادثة ؟ إذاً جاز حصول العلم الحادث في نفسي بلا سبب، فما دمت تجوِّز ذلك فلِمَاذا تكذبني قبل أن تختبرني أم هي مغالطة التسرع في الأحكام ؟!
بينما القائل بضرورة السببية سيعلمُ مباشرةً بطلان ادِّعائه؛ إذ العلم الحادث أثرٌ لسبب تام ولا بد ، وفقدان السبب التام يقتضي فقدان الأثر والمسبَّب !
استحالة حدوث الحادث بنفسه .
ولا يُمكن أن يكون السبب هو الحادث ذاته؛ لما في ذلك من التناقض، فلكي يُوجد نفسه من العدم لا بد وأن يكون (موجوداً) أي : موجوداً معدوماً في آن واحد، تماماً كأن يقول لك شخصٌ : أمِّي ولدت نفسها !
فتعيّن ضرورة أن يكون للإنسان سببٌ متصفٌ بالقدرة.
امتناع التسلسل في الفاعلين
السبب لا يخلو من أن يكون إما حادث وإما أزلي، فالأول يقتضي أن يكون له سببٌ لما تقدّم ، وسببه كذلك إما حادث وإما أزلي، والتسلسل في الفاعلين ممتنع عقلاً؛ لكونه يستلزم عدم وجود الحوادث المشاهدة، ولتقريب ذلك إليك المثال التالي :
جنديٌ موجهٌ بندقيته نحو قاتلٍ حُكِمَ عليه بالإعدام ، لا يُطلق النار حتى يعطيه الإذنَ مَن هو أعلى منه رتبةً ، لماذا ؟ لأنه جنديٌ مأمور ليس له أن يفعل شيء دون إذن القائد .
مَن هو أعلى منه رتبةً إما أن يكون كذلك – أعني مأمور يحتاج إذن من هو أعلى منه – وإما أنه مستغنٍ عن إذنِ غيره ، فالأول يقتضي ألا يُطلق الرصاصة إلا بعد أن يأذن له ، وهكذا … فلو لم يكن هناك من هو مستغنٍ عن غيره في إعطاء الأوامر – تقف عنده السلسلة – لما خرجت الرصاصة ، لكن خروجها دل على وجود ذلك الذي لا يحتاج إلى إذن غيره !
نشبِّه خروج الرصاصةِ بحدوث الإنسان ، فلو كانتِ الأسباب لم تتوقف عند سبب أول لا يحتاج إلى غيره ، لم يكن الإنسان موجوداً يقرأ هذه الكلمات !
يُلخّص ابن تيمية رحمه الله امتناع التسلسل بعبارة لطيفة :
« الممكن المفتقر لا بد له من واجبٍ غني بنفسه ، وإلا لم يوجد ، ولو فُرِض تسلسل الممكنات المفتقرات ، فهي بمجموعها ممكنة ، والمُمكن قد عُلِمَ بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره ، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فإنه يُعلم أنه فقير أيضاً في وجوده إلى غيره ، فلا بد من غنيٍ بنفسه، واجب الوجود بنفسه ، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال » [١٠]
اتصاف السبب الأول بالقدرة .
إذاً وجب الإقرار بوجود فاعلٍ أول أزلي لم يسبق وجوده عدم ولا يلحقه زوال، وهذا الأزلي لا بد وأن يكون متصفاً بالقدرة، وهي صفة يتمكن بها الفاعل من إيجاد الأشياء، فهو إما أن يكون قادراً على إيجاد الأشياء ، وإما لا – أي : فاقدٌ لتلك الصفة التي تمكنه من إيجادها – القول بالثاني يوقعنا في تناقض ولا بد؛ لأن الشيء قد وُجد فكيف نقول بأنه عاجزٌ عن إيجاده؟!
– القدرة وحدها لا تكفي في حصول المفعول .
وهذا الخالق كما أنه مستغنٍ عن غيره في وجوده فهو كذلك مستغنٍ عن غيره في كمال قدرته، فلِمَ لم تُوجد مفعولاته منذ الأزل؟ الجواب : لم يشأ وجودها إلا لمّا شاء وجودَها، فهو إذاً متصفٌ بالمشيئة والإرادة :
فلو كانت الذات وصفة القدرة كافيةٌ في وجود معلولاته؛ لكانت كآفة المعلولات أزلية مثله – أي : لم يسبق وجودها عدم – لكن هذا يتناقض مع ما نعلمه ضرورة من وجودها بعد عدم !
يقول ابن تيمية :
« العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها لها في الزمان ، وكان الرب علة تامة في الأزل – لزم أن يقارنه كل معلول ، وكل ما سواه معلول له : إما بواسطة ،وإما بغير واسطة ، فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء .» [١١]
معنى العلة التامة
ومعنى العلة التامة ( السبب التام ) : وهو السبب الذي يتصف بكل ما يؤدي إلى حدوث أثره في الواقع ، ولا يمكن أن يتخلف عنه أثره ومعلوله، فكل سبب تام فإنه سيقع مسببه وأثره ولا بد .
ولإيضاح المعنى أكثر أذكر ما يقابل العلة التامة وهي العلة الناقصة ( السبب الناقص ) ومعناها : كل سبب لم يتصف بكل ما يؤدي إلى تحقق أثره في الوجود . أو بمعنى آخر : ما لا يكفي في حصول المعلول.
وأضرب لذلك مثالاً : الفاعل المريد لا يحصل مراده إلا إذا كان قادراً ، فالإرادة الجازمة وحدها لا تكفي في حصول الفعل ، وكذا قل في القادر الذي لم يرد إيجاد الفعل إرادة جازمة ، فقدرته وحدها لا تكفي .
لا علة تامة إلا مشيئة الله تعالى
فلو كانت قدرة الفاعل الأول كافيةٌ في إيجاد المفعول ( أي : علة تامة ) لزم أن يكون المعلول أزلياً لأنه لم يزل قادراً وهذا – كما قلنا – ينافي ما نعلمه من حدوث الأشياء، فعُلِمَ أن العلة التامة هي إرادته ومشيئته. يقول ابن تيمية : « الرب يخلق بمشيئته وقدرته ، وهو موجب لكل ما يخلقه بمشيئته وقدرته ، ليس موجباً بمجرد الذات.. …. فما شاءه وجب كونه ،وما لم يشأ امتنع كونه » [١٢]
ويقول :
« ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن »[١٣]
فهو لم يوجب بمجرد الذات كما يقول بعض المتخبّطين، وإنما أوجب بذاته الموصوفة بالقدرة والمشيئة، ولا علة تامة غير مشيئته، فما شاءه وجب كونه وما لم يشأ لم يكن .
يقول د.نديم الجسر :
« إمَّا أن يكون حدوث الكون عنه – أي : عن واجب الوجود – بطريقة العلية والضرورة بدون إرادة واختيار ، وإمّا أن يكون حدوثها عنه بالإرادة والاختيار ، وغير جائزٍ عقلاً أن يكون حدوثها عنه بطريقة العلية والضرورة ؛ لأنه لو كان كذلك وهو قديم – أي أزلي – لَلَزِمَ أن يكون الكون قديماً، وقد ثبت حدوث الكون ؛ فلم يبق إلا أنها بإرادته واختياره ، وتخصيصه لها في الوقت الذي وُجِدت فيه ، فثبت بهذا أن هذا الموجود القديم مريد مختار »[١٤]
ويقول ابن تيمية :
« وإذا أردت التقسيم الحاصر قُلت : الفاعلُ إما مجرد الذات وإما الذات بصفة : فإن كان الأول : فمعلوم أن العلة التامة تستلزم وجود المعلول ، فإذا كان مجرد الذات هو المُوجب ، فمجرد الذات علة تامة ؛ فيلزم وجود المعلول جميعه، فيلزم قدم جميع الحوادث ، وهو خلاف المشاهدة ، وإن كان الثاني: فالصفة التي يصلح بها الفعل هي القدرة .
أو يُقال : فإذا لم يكن موجباً لذاته ، بل بصفةٍ ، تعيّن أن يكون مختاراً ؛ فإنه إما موجبٌ بالذات، وإما فاعلٌ بالاختيار، والمختار إنما يفعل بالقدرة ؛ إذ القادر هو الذي إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل، فأما من يلزمه المفعول بدون إرادته ، فهذا ليس بقادر ، بل ملزوم ، بمنزلة الذي تلزمه الحركات الطبيعية التي لا قدرة له على فعلها ولا تركها » [١٥]
أصل عظيم عض عليه بالنواجذ.
وبهذا تعلم أن أيَّ شيءٍ أزلي يزعم الملاحدة أو المنكرون للصفات تقدّمه على الحادث إن لم يكن متصفاً بالإرادة والاختيار لزمهم الوقوع في التناقض ولا بد؛ فلا يخلو من أن يكون ذلك الشيء علة تامةٌ تستلزم وجود معلولها أو علة ناقصة لا تكفي في حصول معلولها، وعلى التقديرين هذا مناقضٌ لما عُلِمَ ضرورةً بالحس والمشاهدة، فعلى الأول فهو يناقض ما نشهده من (حدوث) الأشياء بعد عدم؛ إذ يستحيل أن يتراخى المعلول عن علته التامة – سواءً كان علةً مباشرةً لها أو بتوسط معلولات – وقد تراخى على فرض قولهم، وعلى التقدير الثاني فقد ناقض قولهم (وجود) الأشياء؛ إذ العلة الناقصة لا تكفي في وجودها !
تناقض من يقر بوجود خالق مع تجاهل صفاته .
وأنا إذ أستدل هنا بمجرد وجود الحوادث على كماله أنبِّه على أن إثبات الكمال لا يقتصر على هذا المسلك فقط وإنما هناك ما لا حصر له من طرق الإثبات – أسأل الله عزوجل أن يعينني على بسطها في الأيام القادمة – هذا أولاً ، ثانياً : المقصود هنا بيان وجه دلالة دليل الخلقِ والإيجاد على صفات الكمال ، وأن الإقرار بوجود سببٍ أولٍ مستلزمٌ بالضرورة إثبات صفاتٍ له لولاها لم يكن فاعلاً ، وبهذا تعلم تناقض من يقر بوجود سببٍ ثم ينفي علمه بصفاته أو ينفي عنه الصفات ؛ لكونهم فرقوا بين المدلولات المتفقة في أدلتها !
صفة العلم .
ومن تلك الصفات – إضافةً على ما مضى – صفة العلم؛ إذ إرادة ما لا يُعلم مُحال، فهي شرط من شروط إيجاد المراد .
فلاحظ أننا قد توصلنا من خلال مجرد حدوث الحوادث إلى صفة القدرة والإرادة والعلم والغِنى، وله من تلك الصفات أكملها؛ إذ الوجود وُجودان لا غير: وجودٌ واجب أزلي ، ووجود ممكن حادث ، فالوجود الواجب الأزلي مستغنى عن غيره ،والوجود الممكن الحادث مفتقر إلى غيره، ومن جعل الواجب محتاجاً في صفاته إلى غيره وقع في التناقض؛ لأنه زعم احتياجه إلى غيره في الوقت الذي يُثبت فيه غناه عن غيره ! فوجود الغني غنى مطلقاً هو أمر ضروري؛ لأن الموجود إما أن يكون غني عن كل أحد وإما أن يكون مفتقراً إلى أحد، وثبوت الثاني يقتضي ثبوت الأول؛ لأنه لو لم يثبت – أعني الغني عن كل أحد – للزم إما التسلسل الممتنع وإما الدور القبلي وكلاهما مستحيل عقلاً – كما بينت سابقاً – فيؤول الأمر إلى عدم وجود شيءٍ، وهذا مناقض لما عُلِم بالحس، فثبت إذن وجود غني عن كل أحد وهو الخالق تبارك وتعالى.
صفتا الحكمة والعدل
وإذا ثبت غناه عن كل أحد لزِم اتصافه بالحكمة والعدل؛ لأن الذي يفعل نقيض الحكمة أو العدل يفعل ذلك إما جهلاً منه أو حاجةً إلى ذلك ، والخالق عليم بكل شيء ؛ لأنه لا يحتاج إلى من يعلمه – كما أنه لا يحتاج إلى معينٍ أو من يجعله قادراً – وليس محتاجاً إلى فعل الظلم أو العبث لأنه ليس بحاجة إلى فعلها.
وهنا أمر مهم : جهلنا بحكمة الشيء أو وجه عدالته لا يعني عدم الحكمة أو انتفاء العدل ؛ لأن الجهل بالشيء لا يعني عدمه ، فجهلنا بوجود القارة الأمريكية قبل اكتشافها لا يعني عدم وجود القارة عند العقلاء ، ثم نحن حين نقر بالتفاوت بين الخالق والمخلوق في العلم ، نقع في التناقض حين نشترط معرفة حكم كل أفعاله أو معرفة حقيقة ما يخبرنا به ، بل المخلوق مع المخلوق لا يشترط هذا ، كمن نراه من المريض أمام الطبيب ، حين يسلّم بتوجيهاته لا لعلمه بحقيقة ما يقول ، بل لثقته به !
وثبوت ما سبق من الصفات – أعني : القدرة والإرادة والعلم والغِنى والحكمة والعدل – متضمن لإثبات صفة الحياة ؛ لاستحالة اتصاف الجمادات بما سبق.
وهذا استدلالٌ على وجوده (بمجرد) وجود الحوادث المشاهدة ، أما الاستدلال على ذلك بحدوث الكون فسيكون في مقالةٍ أخرى إن شاء الله. وبالله التوفيق وعليه التكلان.
[١] الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ( ٢/٢٠٢)
[٢] أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، ترجمة أحمد فؤاد كامل ص٧٦. عن كتاب الإجماع الإنساني لرضا زيدان ص٧٢
[٣] الإلحاد للمبتدئين د. هشام عزمي – والنص لابن حزم أحال المؤلف إليه –
[٤] الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ( ٢/٢٠٢)
[٥-٦] ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان ، د. عبدالله الشهري ص ١٠٤
[٧] درء تعارض العقل والنقل (٣/٣٠٩)
[٨] شموع النهار ص ١٠٦
[٩] عن كتاب ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث ، د. سلطان العميري
[١٠] مجموع الفتاوى (٢٠/١٨٣)
[١١] درء التعارض (٣/٦٢-٦٣)
[١٢] النبوات (٢/٨٧١)
[١٣] مجموع الفتاوى (٨/١٣٣)
[١٤] قصة الفلسفة والإيمان د. نديم الجسر
[١٥] شرح الأصفهانية ص ٣٩٩
الكاتب: مُهنّد بِن جَازِي