الجواب عن شبهة شهادة المرأة نصف شهادة الرجل انتقاصٌ لها :
أولاً :
تحت مظلة الفقه الإسلامي يجري الخلاف في اعتبار شهادة المرأة أوعدم اعتبارها في أمور محددة وليس في كل الأمور بإطلاق
ثم هل يقبل أن تنفرد النساء بالشهادة في أمور محددة؟
وبالمقابل فهناك اتفاق على أمور معينة تنفرد المرأة بالشهادة فيها دون الرجل
ومرد ذلك كله ليس امتهان المرأة ولا تنقصها بل حفظ الحقوق ومراعاة إقامة الشهادة على الوجه الذي تستقيم به وتؤدى به تلك الحقوق فعلماء الإسلام لم يكن نقاشهم حول هل المرأة على قدر من الكرامة تؤهلها لقبول شهادتها أم لا فأمر كرامتها مفروغ منه ومقرر بالكتاب والسنة وبآية الشهادة نفسها التي يستدل بها أصحاب الشبهة ولكن ما دار حوله البحث هو مدى عموم الآية أو خصوصها بقضايا محددة والجمع بينها وبين أدلة أخرى في الكتاب أو السنة كلها تدور حول الشهادة فكان رأي كل فريق من العلماء بحسب فهمه واجتهاده وما ظهر له من الأدلة وكل ذلك لا مدخل لأصحاب الشبهات فيه ولا حجة لهم لأنه خارج ما يزعمون تماماً فسيظل خلافاً في أروقة الفقهاء شأنه شأن المسائل الأخرى الكثيرة التي لا يشنع بعض المجتهدين بها على بعض فضلاً عن أن يشنع على المرأة بسببها
وبعد هذا وقبله فإن الشهادة في الإسلام تكليف لا تشريف وعبئ ثقيل لا حقاً يتزاحم عليه الناس بل قد يتهربون منه لمشقته ومافيه من مغالبة هوى النفس فنهاهم الله عن ذلك ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) فلا يتصور من المرأة أن تتوق نفسها لتحمل هذه الأمانة إذا ما اعتبرنا أن الله خفف عنها ورحمها بجعل نصف العبئ عليها ونصفه على أختها التي تكمل شهادتها ثم رفق بهما فأذن لكل منهما أن تذكر صاحبتها بما نسيت وتصحح لها فيما أخطأت فهل في هذا التخفيف بعد التخفيف تنقص أو ازدراء وهل يقول عاقل بأن تخفيف صلاة المسافر بالقصر والإذن له بالفطر وغيرها من الرخص مهانة وتحقير أم أنها رحمة ومثلها رحمة المرأة بتخيف عبئ الشهادة عنها
عزز الإسلام الشهادة عموماً فعزز شهادة الرجل بشهادة رجل آخر ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) ولم يعتبر أحد أن هذا يمس كرامة أحدهما
وكذلك عزز شهادة الرجل المنفرد بشهادة امرأتين ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) وهنا أيضاً لم يعتبر عضد شهادة الرجل بالمرأتين طعناً في كرامته أو نقصاً لمنزلته فبأي وجه يعتبر تعاضد شهادة المرأتين طعناً في أي منهما ؟!!
ضلال المرأة في الشهادة ليس عيباً يستلزم الذم بل أمر طبيعي له أسبابه :
قال تعالى ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) فالآية قد أبانت أن المرأتين مرضيات وأبانت الحكمة من استشهاد امرأتين (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
-ولا غرابة في ذلك فرسالة المرأة الأولى والأهم تقتضي لزوم بيتها غالب الوقت فيندر أن تطلع على هذه الأمور وإن اطلعت عليها فقد يضعف عنايتها بها فإن شهدت في شيئ منها تطرق لها احتمال النسيان فعضدت بشهادة أخرى تذكرها مانسيت
-ثم إن الآية تدل على أكمل وجوه الاستيثاق في القضايا المالية التي لا تشغل بها المرأة غالباً ولا تعنى بها إلا لماماً ونادراً ما تقف على تفاصيلها حتى وإن كانت هي ذاتها من أصحاب الأموال والعمل التجاري فإنها غالباً توكل إدارة ذلك لرجل فلا غرابة في نسيانها لما هذا شأنها فيه ولا حط لقدرها بالاستيثاق لأصحاب الحقوق بشهادة الاثنتين
-ونسيان المرأة قد ينشأ من طبيعتها العضوية والبيولوجية المؤثرة في نفسيتها وكل ذلك في بناء محكم يتناسب مع وظيفتها الفطرية التي هيأت لها وماتستلزمه من سرعة الاستجابة لأطفالها وعبور الآلام والأوجاع بالنسيان لتؤدي رسالة الأمومة في حب واحتواء لكن الشهادة شأن آخر لا علاقة له بالعاطفة وينبغي أن يحكم غاية الإحكام فوجود امرأتين في الشهادة أدعى لضبطها
-ذكر د.بلتاجي أن سبب نسيان المرأة قد يرجع لطبيعتها في الإنشغال بالجزئيات عن النظرة الشمولية وما يعتريها من عدم التوازن الهرموني أو اضطراب مزاجها بحسب أحوال معينة
وذكر د. الزنداني أن للرجل مركزاً في مخه للكلام في أحد الفصين ومركزاً للذاكرة في الفص الآخر فإذا اشتغل مركز الكلام عند الإدلاء بالشهادة لم يؤثر على على مركز الذاكرة أما المرأة فالمركزان عندها مختلطين يعملان لتوجيه الكلام وللذاكرة فإذا تكلمت اشتغلا بالكلام وقد يؤثر ذلك على الجزء من الذاكرة التي فيها المعلومة فلا عجب أن تعضد بأخرى لتذكرها
–
اعتراض : يقول : كيف تكون شهادة امرأة مثقفة كنصف شهادة رجل أمي ؟!
يقول الشيخ الشعراوي :
الشهادة تحتاج عنصرين : الرؤية والمشاهدة ثم أمانة النقل
فأمانة النقل لا علاقة لها بالثقافة
فهل الرؤية يختلف فيها العقل ؟؟!!
إن المسألة في الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهدٍ وأمانة نقل..
ثانيًا:
وأما حضور الحادثة فالمرأة دائماً أمرها مبني على الستر وعدم التهجم على الرجال فتعرض النساء للأحداث التي ينشأ بها الخلاف قليل جداً فإن حدث لا يكون بالدقة التي تعرف بها كل المسائل؛ فلهذا كان لا بد من امرأتين في الشهادة لا طعناً فيها وإنما لما سبق بيانه.
اعتراض : يقول : ولماذا لا تقبل شهادة المرأة كالرجل عدداً وموضوع شهادة ؟
سبقت الإشارة إلى أن ذلك محض خلاف فقهي في فهم الأدلة والجمع بينها لا علاقة له بكرامة المرأة المقررة والمؤكدة في نصوص الكتاب والسنة
فالشروط التي تراعى في الشهادة ليست عائدة أصلاً للذكورة والأنوثة في الشاهد بل عائدة لأمرين :
١- عدالة الشاهد وضبطه وعدم القرابة أو الخصومة بينه وبين المشهود له
٢- أن تكون بين الشاهد والواقعة المشهود بها صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها والشهادة فيها
فإذا اختل أحد الأمرين ردت الشهادة سواء كانت من رجل أو امرأة
ولهذا نجد شهادة المرأة لا تقبل فيما يطلع عليه الرجال **كالعقوبات وهي الحدود والقصاص ( لا بد فيها من أربعة رجال في الزنى ورجلين في غيره ) لأن تعامل المرأة معها بالغ الندرة وغالباً لن تطيق الاطلاع على تفاصيلها وقد تفقد وعيها أو تغمض عينيها وتكون بحال من الصدمة والارتباك يستحيل معه وصف الحادثة بدقة
ولأن الحدود تدرأ بالشبهات
ودليل أن ذلك ليس تنقصاً لها أن الرجل لو كان بحال من الرقة والعاطفة يجعل صلته بمثل هذه المسائل وقدرته على الوقوف عليها ضعيفة فإن شهادته فيها لا تقبل وعلى أن أكثر أئمة العلم – ومنهم الأئمة الأربعة – على عدم قبول شهادة النساء في الحدود ، فلا تقوم المرأتين مقام الرجل ، فقد خالف فيه الظاهرية ، فقالوا : إن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل في كل شيء ، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله .
ومما يطلع عليه الرجال أيضاً :
النكاح والطلاق والرجعة ففيه شهادة رجلين وقال بعض العلماء بقبول رجل وامرأتين كالمال
أما المعاملات المالية فللمرأة والرجل علاقة بها لكن صلة الرجل أشد فكانت شهادة رجلين أو رجل وامرأتان
وأما ماهو من شأن النساء الذي ينفردن بالاطلاع عليه فتقبل شهادتهن دون الرجال وذلك في خمسة أمور ( الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب وانقضاء العدة )
كما أن المرأة والرجل يتساويان تماماً في شهادات اللعان بنص القرآن وفي هذا دليل على أنه لا مدخل للذكورة والأنوثة في قيمة الشهادة والا لتفاوت عدد الشهادات بينهما هنا
وبحسب ما سبق تقبل شهادة المرأة الواحدة في إثبات النسب ( الولادة ) وهو إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها وكذلك الفراق بين الزوجين بشهادة المرضعة فأيها أعظم الشهادة على دريهمات أو على قضايا تحدد مصير أقوام
واختار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : أن المرأتين تقومان مقام الرجل في كل شيء إلا في الحدود ، وهو مذهب الحنفية ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه .
وإذا تأملت ما سبق تأكد لك أن المسألة مسألة خلاف فقهي ليس إلا
اعتراض : ترى المرأة أمام عينيها مقتل أهلها فلا تقبل شهادتها !
تطاول البعض فادعى هذا تلبيساً وطعناً وهي دعوى بلا دليل إلا جهل صاحبها ولمزيد البيان :
فإن الشهادة التي توفرت شروطها تعتبر بينة كاملة فإن كانت في حد مثلاً جرّم المشهود عليه بناءً عليها لذا شدد فيها
ودون الشهادة ما يسمى بالقرائن وحتماً تدخل فيها شهادة المرأة حتى في الأمور التي لا تقبل فيها شهادتها
وفي السنة ما هو أعجب من ذلك
روى البخاري (2413) ومسلم (1672) : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ
فقد سمع منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الرمق الأخير وقبل دعواها على خصمها وأخذ فاعترف وفي رواية عند البخاري ( فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر به )
فها هو صلى الله عليه وسلم يقبل منها دعواها لحفظ دمها وهي بهذا الحال الصعب على حافة النهاية فكيف لو جاءت تدعي أو ترفع مظلمة وهي بكامل قوتها وإدراكها فإن جعل شهادتها نصف شهادة الرجل في أحوال معينة لا يعني إنتقاص شهادتها في تلك الأحوال فضلاً عن إهدارها مطلقاً وفضلاً عن رد دعواها ومطالبتها بحقها أو بحق من ظلم من أهلها وليس من لازم إنصافها أصلاً أن يكون وصف ما تقدمت به شهادة وإلا لم يقبل فحقها محفوظ بكل حال.
الكاتب: مريم سليمان