بسم الله الرّحمٰن الرّحيم والصّلاة والسّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
ما الهدف من الحياة؟
من أكثر الأسئلة الّتي يطرحها النَّاس على أنفسهم، وقد يفنون أوقاتًا كبيرة من أعمارهم وهم يفكّرون ويبحثون عن جواب لهٰذا السؤال، أو لأسئلة أخرى تدور حول نفس الإشكاليّة، إشكالية الغاية من الخلق وهذه الإشكاليّة قد تقود الإنسان إلى البحث في غايات جزئية محدودة بعيدة كلّ البعد عن الغاية الكبرى الصحيحة، بل وقد يجعل غاية من تلك الغايات الجزئية غاية كبرى لحياته، وذلك بسبب قدرته القاصرة على إدراك الغاية الحقيقيّة.
إنّ من يتأمل حق التأمل في هذا الكون وفي نفسه، وكان صادقًا في طلب الحق والبحث عنه؛ سيدرك أنه عاجز عن إدراك الهدف من حياته بنفسه من دون تدخل ذات عليا ترشده إلى ذلك، بل وتريه السّبيل الصحيح للوصول إلى تحقيق ذلك الهدف، فإذا عرف أنّ هذه الذات العليا هي خالقه لاهتدى إلى الغاية من هذا الخلق كله، ولعلم أن هذه الغاية قد حددها الله سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[1]، هذه الآية توضح أن: “الغاية التي خلق الله الجنّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها؛ هي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبَّته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عمّا سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقّف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربّه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم”[2]
إذا أيقن الإنسان أنّه خُلق لعبادة الله سبحانه وتعالى بحث عن أفضل سبيل يوصله إلى هذه الغاية، وعرف أن الذي خلقه ووضع له هذا الهدف اختار له أفضل سبيل ومنهج يناسب الغاية من خلقه، وترك سبحانه وتعالى للإنسان الحريّة في اختيار اتّباع ذلك المنهج من عدم اتّباعه، وذلك اختبارًا له، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[3]، وأحسن ما يعين الإنسان على تطبيق هذا المنهج هي التقوى، بل إنّ العبادة لها علاقة بالتقوى، وفي هذا يقول الله عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[4]، ويتّضح من خلال هذه الآية؛ أنّ التقوى مرتبطة بأمر العبادة وهو: “أمر عامّ لجميع الناس، والعبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له…”[5]، كما أن الله أمر العديد من الرّسل بدعوة أقوامهم إلى التّقوى، وفي هذا يقول الله تعالى آمرًا العديد من الأمم في هذه الآيات بتقواه:
{وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ
[الشعراء: ١٠ و ١١].
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ }[الشعراء، ١٠٥ و١٠٦.]
{كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ}{الشعراء: ١٢٣ و١٢٤.]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء، : ١٤١ و١٤٣].
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء، ١٦٠ و١٦١].
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء، ١٧٦ و١٧٧].
بل إنّ المقياس في تفاضل النّاس في الدّنيا هي التقوى، يقول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات : ١٣].
. أمّا في الآخرة فيقول الله سبحانه وتعالى محددًا عاقبة المتقين: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا}[ الرعد:٣٥].
هذا بالنّسبة لمن عرف الغاية الصحيحة من خلقه، أمّا الذي لم يعرف هذه الغاية فسيتخبط حتمًا بين الغايات الجزئيّة الّتي يظن أنّها غاية يستحقّ أن يعيش من أجلها، وسيكون من أفسد حياته الدّنيا بيده، بل وآخرته كذلك { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ }[طه: ١٢٤]
[1] سورة الذاريات الآية رقم ٥٦.
[2] عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ط١، دار ابن الجوزي المملكة العربية السعودية، ١٤٢٢ه، ص١٧١٧.
[3] سورة الملك، الآية٢.
[4] سورة البقرة الآية رقم٢١.
[5] عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص٤٥.
الكاتب: ياسمين قلاتي