بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم:
أمَّا بعد
الخوفُ والرجاءُ من أهمِّ المقامات الإيمانية التي حظت باهتمام العلماء، ولا يكاد يخلو كتابٌ من كتب السير إلى الله عن بيان هذين المقامين ، فالخوف والرجاء هما جناحا المؤمن بهما يقطع شهوات وحظوظ النفس وبهما يقطع مفازات المكاره، فلا يصدُّ النفسَ عن حظوظها إلا سياطُ التخويفِ والتعنيفِ الممزوجِ بحادي الرجاء الذي يحدو بالقلوب إلى بلاد المحبوب ، فلنبدأ أولًا بالحديث عن الخوف ومن ثَمَّ الحديث عن الرجاء.
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
الخوفُ كما يقول ابن القيم (اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ) .. فالخوف عبادةٌ قلبيةٌ تبدأُ من القلب وبه تنتهى ويعود أثرُها على الجوارح .. وقد حثَّ الله عليه في العديد من آي القرآن قالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:١٢] وَقالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:١٠٢–١٠٦] وَقالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٢٨] وَقالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيه وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} [عبس:٣٤–٣٧] وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١–٢] وَقالَ تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} .
وكذلك كتبُ السنةِ النبويةِ تذخرُ بالأحاديثِ التي تتصل بهذا المقام قالَ رسولُ اللّه ﷺ: “يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا” رواه مسلم.
وعن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، يقول: “إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيامَة لَرَجُلٌ يُوضَعُ في أَخْمَصِ قَدميْهِ جمْرَتَانِ يغْلي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ مَا يَرى أَنَّ أَحداً أَشَدُّ مِنْه عَذَاباً، وَإِنَّه لأَهْونُهُمْ عذَاباً” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وعن ابنِ عمر رضي اللَّه عنهما أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: “يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمِينَ حَتَّى يَغِيب أَحدُهُمْ في رَشْحِهِ إِلى أَنْصَافِ أُذُنَيه” متفقٌ عَلَيهِ.
وعنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه ﷺ إِذ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ: “هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ “قُلْنَا: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ في النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَريفاً فَهُوَ يهْوِي في النَّارِ الآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلى قَعْرِهَا، فَسَمِعْتُمْ وجْبَتَهَا” رواه مسلم.
ولطالما تحدَّثَ الصالحُونَ عن الخوفِ، مبيِّنِينَ حقيقتَه وحدودَه ..قَالَ أَبُو حَفْصٍ: الْخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشَّارِدِينَ عَنْ بَابِهِ، وَقَالَ: الْخَوْفُ سِرَاجٌ فِي الْقَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّكَ إِذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَا فَارَقَ الْخَوْفُ قَلْبًا إِلَّا خَرِبَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ: إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ الْقُلُوبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا، وَطَرَدَ الدُّنْيَا عَنْهَا، وَقَالَ ذُو النُّونِ: النَّاسُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ الْخَوْفُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ ،قالحَاتِمٌ الْأَصَمُّ: لَا تَغْتَرَّ بِمَكَانٍ صَالِحٍ، فَلَا مَكَانَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَقِيَ فِيهَا آدَمُ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ الْعِبَادَةِ لَقِيَ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا لَقِيَ مَا لَقِيَ وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِلِقَاءِ الصَّالِحِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ، فَلَا شَخْصَ أَصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقَائِهِ أَعْدَاؤُهُ وَالْمُنَافِقُونَ.
قال ابن القيم (وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ: مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ.)
بين مشهدين ..
شابٌ اسمُه خالدٌ ،كانَ تقيًا ورعًا، يكسبُ من عرقِ جبينِه، كانَ قسيمًا وسيمًا ، يعمل بجدٍ وإخلاصٍ و أمانةٍ، كانَ يعملُ بائعًا للقماش، يتجوَّلُ في الطرقات قانعًا بما رزقَه اللهُ،متوكلًا عليه، انبهرتْ بجمالِه إحدى النساء، واحتالتْ عليه بمكرِها وأدخلته بيتها بحجَّة أنَّها تريد الشراءَ منه، غلَّقت الأبوابَ وراودَته عن نفسه وقالتْ هيتَ لك، لكنَّه أبى وذكَّرها بالله، وكان الشيطانُ قد طمسَ بصيرتَها، هدَّدته بأنَّها ستفضَحُهُ، فأظهرَ لها الاستجابةَ، وطلبَ منها دخولَ الحمَّام؛ لكى يهيئ نفسَه، وهو في الحقيقة يريد خلاصًا، فلطَّخ جسدَه بالغائطِ وخرجَ إليها فاستقّذرته وطردته،فأنعمَ اللهُ عليه برائحة المسك يعرفه الناسُ قبلَ قدومه، ولُقِّبَ بخالد المسكي.
سليمانُ بنُ يسارٍ .. كان وسيمًا قسيمًا من أجملِ الناس وجهًا .. رأته أعرابيةٌ فأعجبها حسنُه، وكشفت عن وجهٍ كفلقة القمر وقالت له:”هبني” .. تصوَّر أنَّها تريد طعامًا فقام ليعطيَها بعضَ الطعامِ، فقالت له:” لست أريد هذا انما أريد ما يكون بين الرجل وزوجته” .. اضطرب سليمانُ وصاحَ فيها :”إنَّما جهزك إبليس”، ثم غطَّى وجهَه بكفيه ودسَّ رأسَه بين ركبتيه وأخذ بالبكاء والنحيب .. فلمَّا رأت أنه لا ينظر إليها غطَّت وجهَها وانصرفتْ ..عندما جاء رفيقُه بالطعام وجده يبكي فقال له:” ما يبكيك”..قال:”ذكرت صبيتي وأطفالي” فقال له :”لا ! إن لك قصةٌ، إنَّما عهدُك بأطفالك منذ ثلاث أو نحوها” ..فلم يزل به حتى أخبره.. فوضع رفيقُه السفرة وبكى بكاءً شديدًا، فقال له سليمان: “وأنت ما يبكيك؟”فقال رفيقه:” أنا أحق بالبكاء منك”، فقال سليمان:” ولم؟ فقال:”لأنني أخشى أن لو كنتُ مكانك لما صبرت عنها”. فأخذ سليمانُ ورفيقُه في البكاء .
فالخوفُ من الله هو ما أكسبَ خالدًا وسليمانَ حصانةً ضدَّ الوقوعِ في المحارم رغم قوة الداعي وسهولة المواقعة .. فالخوفُ الذي لا يمنعُك عن إتيان المحرمات ليس خوفًا .. الخوفُ الذي لا يجعلك تسابق في الخيرات ليس خوفًا .. فكما قِيل :(صِدْقُ الخوفِ هو الورعُ عن الآثام ظاهرًا وباطنًا ).
(الرجاءُ هو ارتياحُ القلبِ؛ لانتظارِ ما هو محبوبٌ عندَه)
بالرجاءِ نسعى للعمل موقنين بكرم الله، وموقنين على الرغم من تقصيرنا فيه، فإنَّ اللهَ بكرمه وسعة فضله سيقبله منَّا .. ندعو ونحن نقرُّ بذنوبنا موقنين بالإجابة .. فرجاؤنا يقوم على حسن ظننا بربنا، ولو قامَ على حسن ظننا بأنفسنا لصار غرورًا، يقول ابن القيم عن الرجاء: الرَّجَاءُ ” حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى بِلَادِ الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ اللَّهُ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ. وَيَطِيبُ لَهَا السَّيْرُ.
وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِبْشَارُ بِجُودِ وَفَضْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالِارْتِيَاحُ لِمُطَالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ”.
قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] وَقالَ تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:١٧] وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:٤٨] وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف:١٥٦] .
وعن عُبادَة بنِ الصامِتِ، رضي اللَّهُ عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: “منْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحمَّداً عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وأَنَّ عِيسى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلى مَا كانَ مِنَ العمَلِ” متفقٌ عَلَيهِ.
وعن جابر، رضي اللَّهُ عنه، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النبيِّ ﷺ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما المُوجِبَتانِ؟ فَقَالَ: “مَنْ مَات لاَ يُشرِكُ بِاللَّه شَيْئاً دخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ ماتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، دَخَلَ النَّارَ” رواه مُسلم.
وَعن أَنسٍ، رضي اللَّهُ عنه، أَنَّ النَّبِيِّ ﷺ، وَمُعَاذٌ ردِيفُهُ عَلى الرَّحْلِ قَالَ: “يَا مُعاذُ” قَالَ: لَبيَّيْكَ يَا رسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قالَ:”يَا مُعَاذُ “قالَ: لَبَّيكَ يا رَسُول اللَّهِ وَسَعْديْكَ. قالَ:”يَا مُعاذُ” قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْديكَ ثَلاثاً، قالَ: “مَا مِن عَبدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمدا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صِدْقاً مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ” قالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِها النَّاسَ فيستبشروا؟ قال: “إِذاً يَتَّكلُوا “فَأَخْبرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْد مَوْتِهِ تَأَثُّماً. متفقٌ عَلَيهِ.
وقوله: “تَأَثماً” أَيْ: خَوْفاً مِنَ الإِثمِ في كَتْمِ هذا العِلْمِ.
وَعَنْ عِتْبَانَ بنِ مالكٍ، رضي اللَّه عنه، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمي بَني سالمٍ، وَكَانَ يَحُولُ بَيْني وَبينهُم وادٍ إِذَا جاءَتِ الأَمطارُ، فَيَشُقُّ عَليَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ، فَجئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فقلتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ الوَادِيَ الَّذِي بيْني وَبَيْنَ قَوْمي يسِيلُ إِذَا جَاءَت الأَمْطارُ، فَيَشُقُّ عَليَّ اجْتِيازُهُ، فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتي، فَتُصَليِّ في بَيْتي مَكاناً أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فقال رسُول اللَّهِ ﷺ: “سأَفْعَلُ” فَغَدا عليَّ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ، رضي اللَّهُ عنه، بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، وَاسْتَأْذَنَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَذِنْتُ لهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قالَ: “أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ “فَأَشَرْتُ لهُ إِلى المَكَانِ الَّذِي أُحبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّه ﷺ، فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَراءَهُ، فَصَلَّى رَكَعَتَيْن، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ، فَحَبَسْتُهُ علَى خَزيرة تُصْنَعُ لَهُ، فَسَمَعَ أَهْلُ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في بَيْتي، فَثَابَ رِجَالٌ منهمْ حتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ في البَيْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ لا أَرَاهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: ذلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّه ورَسُولَهُ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم “لاَ تَقُلْ ذَلِكَ أَلاَ تَراهُ قالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعالى؟،”. فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ مَا نَرَى وُدَّهُ، وَلاَ حَديثَهُ إِلاَّ إِلى المُنَافِقينَ، فقالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “فَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهِ اللَّهِ” متفقٌ عَلَيهِ.
فالرجاءُ الصحيحُ هو ما تبعه العملُ، وإلا صار أمانيَّ باطلةً وأحلامًا، يقول ابنُ القيم :”الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ مَعَ الْكَسَلِ. وَلَا يَسْلُكُ بِصَاحِبِهِ طَرِيقَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَ ” الرَّجَاءُ ” يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجُهْدِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ.
فَالْأَوَّلُ كَحَالِ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ يَبْذُرُهَا وَيَأْخُذُ زَرْعَهَا.
وَالثَّانِي كَحَالِ مَنْ يَشُقُّ أَرْضَهُ وَيَفْلَحُهَا وَيَبْذُرُهَا. وَيَرْجُو طُلُوعَ الزَّرْعِ.
وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ”.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: مَا عَلَامَةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَبْدِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ الْإِحْسَانُ أُلْهِمَ الشُّكْرَ، رَاجِيًا لِتَمَامِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَمَامِ عَفْوِهِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
وختامًا نقول: إنَّ مقامي الخوفِ والرجاءِ متلازمان، لا يقومُ أحدُهما بدون الآخر .. ولا ينفصلان مطلقًا .. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: “الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ. وَإِذَا نَقَصَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ. وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ” .. فلا خوفَ بدونِ رجاءٍ ولا رجاءَ بدونِ خوفٍ ..
المراجع:
[١] كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين للإمام بن القيم
[٢] كتاب رياض الصالحين للإمام أبو ذكريا النووي
[٣] كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي
الكاتب: أحمد عبد العظيم