الحمدُ للهِ وحدَه والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدَه
أمّا بعدُ:
فإنّ القرآنَ وخلالَ القرونِ السابقةِ منذُ ظهورِ الإسلامِ وحتى اليوم، هو المعجزةُ الكبرى التي بُعثَ بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهي التي جعلَتْ معارضِي هذا النبيِّ الكريمِ عليهِ السلامُ يقدحونَ فيه لعلمِهم التامَّ بأنّه حِصنٌ لا يمكنُ اقتحامُه، وإنْ تمَّ هدمُ هذا الحصنِ فالحصونُ بعدَه أهونُ منه، ولكن كيفَ؟
كانَ الادعاءُ بعدمِ ربانِيَّتِهِ هوَ الحلَ الوحيدَ لكلِّ من أرادَ اقتحامَه والنيلَ منه؛ فقالوا عنه: شعرٌ، وقالوا: سحرٌ، وقالوا: أساطيرُ وخرافاتُ السابقين، وقالوا وقالوا…
فهل هذه الادعاءاتُ صحيحةٌ؟
تَتَبَّعْتُ آياتَ القرآنَ وتناولتُ تلاوتهُ بأكثر من قراءةٍ وفي القراءةِ بأكثرَ من روايةٍ فماذا وجدتُ؟
وجدتُ أيةً في سورةِ النساءِ يقولُ اللهُ تعالى فيها: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء:٨٢].
استوقَفَتْنِي هذهِ الآيةُ كثيراً وكانَ توَقُفي يدورُ حولَ التقييدِ بكلمةِ “كثيراً” فكانَ السؤالُ المهمُ هل في القرآنِ اختلافٌ؟! لأن الآيةَ تدلُ ابتداءً على نفيِ الاختلافِ الكثيرِ فهل هناكَ اختلافٌ قليلٌ كما هو مفهومُ المخالفةِ والتقييدِ؟
وجدتُ كلَّ منَ فسَّرَ القرآنَ الكريمَ واعتنى به ينفِي وجودَ الاختلافِ قليلِهِ وكثيرِهِ، ويمكنُ الجمعُ هنا بينَ إجماعِ المفسرينَ وأهلِ الاختصاصِ وبينَ الآيةِ بأن التقييدَ بوصفِ الكثرةِ للمبالغةِ في إثباتِ الملازمةِ، فكأنَّه يقولُ: لو كانَ من عندِ غيرِ اللهِ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً فضلاً عن القليلِ، لكنّه مِن عندِ اللهِ فليسَ فيهِ اختلافاً كثيراً ولا قليلاً، فكيف يكون من عند غيرِ الله؟
فهذا هو المقصودُ مِنَ التقييدِ بوصفِ الكثرةِ؛ لا أنَّ القرآنَ مشتملٌ على اختلافٍ قليلٍ.
وبعدَ هذا الجوابِ يأتي سؤالٌ واقعيٌّ وهوَ: أنَّ الآيةَ تدلُّ على أنّ كلَّ كتابٍ من عند غيرِ اللهِ فيه اختلافٌ كثيرٌ، والواقعُ يدلُّ على خلافِ ذلكَ؟
ويمكنُ الجوابُ حولَ هذا بأنَّ كلّ كتابٍ في فنٍ من العلومِ، إذا كانَ من عندِ غيرِ اللهِ يوجدُ فيه بالنسبةِ إلى الفنونِ الأخرى بلْ وداخلُه اختلافاً ما، سواءً في أحدِ تفاسيرِه أوْ في جملةِ قولِه لا محالةَ وهذا يُعرفُ بالاستقراءِ.
والقرآنُ جامعٌ لفنونٍ من علومٍ شتّى ولم يوجد فيه اختلافٌ في دلالتِه ولا مخالفةٌ يقينيةٌ لأصولِ تلك العلومِ.[١]
ولكن الناظرَ في القراءاتِ يجدُ الواقعَ يدلُّ على أنَّ هناكَ اختلافا في القرآنِ من حيثُ ألفاظُها ومعانِيها فكيفَ يكونُ التوجيهُ حيالَ ذلكَ؟
والجوابُ هنا مُنْصَبٌّ حولَ بيانِ معنى الاختلافِ المرادِ به في الآية، وقبل الدخولِ إلى معنى الاختلافِ في الآيةِ يجب علينا بيانُ الاختلافِ في القراءاتِ وهل هو موجودٌ فعلا؟
[وبالاستقراءِ لآياتِ الكتابِ الحكيم بالقراءاتِ وُجِدَ أن هناكَ ثلاثةَ أنواعٍ من الاختلافاتِ فيه بالقراءاتِ وهي على النحوِ التالي]:
الاختلافُ الأولُ: اختلافُ اللفظِ دونَ المعنى مثل قولِه تعالى:
{صِرَاطَ} و {سِرَاطَ}.
الاختلافُ الثاني: اختلافُ اللفظِ والمعنى مع اجتماعِهما في معنى واحدٍ مثل الاختلافِ في قولهِ تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} و{نُنشِرُهَا}.
والمعنى أنَّ اللهَ تعالى أنشرَ العظامَ أي أحياهَا، وأنشزَها أي رفعَ بعضَها إلى بعضٍ حتى التَأَمَتْ، فضَمَّنَ اللهُ المعنيينِ في القراءتَينِ.
الاختلافُ الثالثُ: اختلافٌ في اللفظ والمعنى دونَ أن يجتمِعا في معنى واحد ولكنهُما يتفقان من وجه آخرَ لا يقتضِي التّضادَّ أبداً مثل الاختلافِ في قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} و{لَقَدْ عَلِمْتُ} بضم التاء.
والمعنى في هاتين القراءتين أنّه على وجهِ الرفعِ فإنّ موسى عليهِ السلامُ يخاطبُ بعلمِه هوَ فرعونَ فهوُ يخبرُ أنّه يعلمُ ومتيقنٌ بأنّ ما جاءَ بهِ من عند اللهِ، وعلى النصبِ يكونُ المعنى بأنّ فرعونَ مكابرٌ في تكذيبِه الآياتِ التي جاءَ بها موسى عليهِ السلامُ معَ علمهِ -أي فرعون- بأنّها من عند اللهِ.
فاختلفتْ في اللفظِ والمعنى ولكنّها تجتمعُ في وجهِ أنهَا تُثبتُ أنّ الآياتِ من عند اللهِ وأنّ موسى وفرعونَ يعلمونَ ذلك.
وبالنظرِ إلى الاختلافاتِ المساقةِ بينَ القراءاتِ ينجلِي معنى الاختلافِ في آيةِ سورةِ النساءِ فالمرادُ بالاختلافِ في سورةِ النساءِ التضادُّ والتناقضُ الذي لا يمكنُ الجمعُ فيه ولا يشبهُ بعضهُ بعضاً كما فسَّره ابنُ عباسٍ وقتادةُ وابن زيدٍ [٢]، وفي القرآنِ بحروفهِ لا يوجدُ تضادٌّ ولا تناقضٌ محضٌ أبداً.
وقد نصَّ القرطبيُّ -رحمهُ اللهُ- على أن اختلافَ ألفاظِ القراءاتِ غيرُ داخلٍ في دلالةِ الآيةِ وكذلكَ ألفاظُ الأمثالِ والدلالاتِ ومقاديرِ السورِ والآياتِ.[٣]
اختلافُ القرآنِ الكريمِ دليلُ ربانيتِهِ كما بيَّنَ القرطبيُّ -رحمهُ اللهُ- أنواعَ الاختلافِ لو كانَ من عندِ غيرِ اللهِ فقالَ: “إنهُ ليسَ من متكلمٍ يتكلمُ كلاماً كثيراً إلا وُجِدَ في كلامِه اختلافٌ كثيرٌ؛ إما في الوصفِ واللفظِ، وإما في جودةِ المعنى، وإما في التناقضِ، وإما في الكذبِ.
فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ القرآنَ وأمرَهُم بتدبرِه؛ لأنهُم لا يجدونَ فيهِ اختلافاً في وصفٍ، ولا رذالةً في معنى، ولا تناقضاً ولا كذباً فيما يُخبَرُونَ به من الغيوب وما يُسرُّون”.[٤]
ولذلك أمرَ اللهُ تعالى بتدبرهِ لأنَّ العبدَ يصلُ بالتدبرِ إلى درجةِ اليقينِ والعلمِ بأنه كلامُ اللهِ؛ لأنه يراهُ يصدقُ بعضُه بعضاً، ويوافقُ بعضُه بعضاً، فترى الحِكَمَ والقِصة والإخْبَارَات تُعَادُ في القرآن في عدَّةِ مواضعَ كلهَا متوافقةٌ متصادقةٌ، لا ينقضُ بعضها بعضاً؛ فبذلك يُعلم كمالُ القرآنِ، وأنه من عندِ مَن أحاطَ علمُه بجميعِ الأمورِ.[٥]
[١] انظر جامع البيان في متشابه القرآن (١/١٧٦-١٧٧).
[٢] انظر تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص٩٩، وزاد المسير (٢/١٤٤)، والطبري (٧/٢٥١).
[٣] انظر الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان للقرطبي (٦/٤٧٧).
([٤] انظر المرجع السابق.
[٥]انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (١/٣٣٠).
الكاتب: عوض القحطاني