تمهيد:
كيف نثق في صحة الأحاديث النبوية، إن هذا التساؤل المشروع هو أحد أكثر التساؤلات انتشارًا في السّنوات الماضية، ولكن المشكلة ليست في طرح السؤال وإنما في الاكتفاء بطرحه دون بحث عن إجابته، فيتحوَّل مع التداول والابتذال والعزوف عن البحث الصادق من سؤال استفهاميٍّ إلى سؤال استنكاري ثم إلى سؤال تقريري يتعامل مع فقدان الثقة في صحة الأحاديث على أنها حقيقة لا تَقبل المناقشة!
أما الصواب فهو أن يظل السؤال استفهاميًّا ونبحث وندرس إجابته سويًا بإنصاف واعتدال بدلًا من أن نحوّل السؤال إلى إجابة دون حجةٍ أو بينة.
والثقة في صحة الأحاديث النبوية التي حكم عليها المحدثون بالصحة مرتبطٌ بمدى الثّقة في الآلية التي اعتمد عليها المحدثون في هذا التحقيق، ولا تمنح الثقة أو تُنفى عن شيء دون الإلمام ولو بقدر بسيط عام عنه، لذا فيمكن تقسيم هذا الاستفهام إلى استفهامين فرعيين.
- الأول: هل ينسى الراوي أو يُكذَّب؟ وهو ما نناقشه في هذا المقال.
- الثاني: ماموقع علم الحديث وآليته من العلوم الأكاديمية المعتبرة؟ ونناقشه في مقالٍ لاحق.
السؤال الأول: هل ينسى الراوي أو يكذب؟
إن إجابة السؤال الأول هي علمُ الحديث ذاته، فإن علم الحديث لم يقم أصلًا إلا من أجل هذا السؤال، فالنسيان (الخطأ) والكذب هما أخطر ما يهدّد أي رواية يتناقلها البشر فيما بينهم.
وسأبدأ بالخطأ والنِّسيان قبل الكذب، لأنهما لا يسلم منهما أحد سواءً الصالح والفاسد والصادق والكاذب، فما مدى قدرة أدوات المحدثين على كشف الخطأ والنسيان؟
بالنظر إلى شروط صحة الحديث المبيَّنة أدناه نجد أن جلَّ الشروط الخمسة تتعامل بشكل مباشر مع مسألة الخطأ والنسيان كما سيأتي بالتفصيل.
أوّلُ شروط صحة الحديث والتي تتعامل مع مباشرة مع احتمالية الخطأ والنسيان هو شرط (ضبط الرواة)، وهي شرط معنيّ بالتأكد أن الأصل في الراوي هو القدرة على الضبط والحفظ ابتداءً، ففرق بين راوٍ عنده ملكة الحفظ ولكن لأنه بشر فلن يسلم من الخطأ، وبين راو الأصلُ فيه كثرة الخطأ، فبدايةً لابد من (فرز) الرواة حسب قدرتهم الذاتية على الحفظ (حفظ النصوص في الصّدر وحفظها في الكتب) قبل أن تأتي المرحلة التالية الأكثر دقّة وتعقيدًا.
كيف عرف/يعرف المحدثون ضبط الراوي؟
أولاً: بالاختبار المباشر، وهذا من الأمور التي شاعت في عصر التحقيق، إذ يختبر المحدث الراوي فيما يحفظه ويرويه، ويتأكّد من مدى قدرته على الحفظ والتيقُّظ للخطأ، ومن صور ذلك ما يُسمى بالتلقين إذ يتَعمّد المحدث عرض الحديث الذي رواه الراوي عليه بصورة مختلفة لينظر هل سينتبه إلى هذا أم لا، وفي هذا اختبار لملكته ويقظته.
ثانيًا:بمقارنة الروايات المختلفة للحديث الواحد، فالضابطون الحافظون يكثر اتفاقهم وموافقتهم، وكثير النسيان تكثر مخالفته للآخرين، فعلى خلاف ادّعاء المدعين أن علماء الحديث لا ينظرون إلى المتن ويكتفون بالنظر إلى السند فإذا كان الرّواة عُدولًا ضابطين فلا يهتمون بالمتن، يدل الواقع على أن نقد المتون جاء سابقا لنقد السند لأن مقارنةَ المتون ودراستها هي أحد أهم وسائل تصنيف الرواة من البداية في العدالة والضبط، ناهيك عن أنّ نقد المتون يظل مستمرًا في الشرط الرابع والخامس بعدما تم تصنيف الرواة بالفعل كما سيَتبين.
هل يستوي الرواة في الضبط؟
ولم يكتف المحدثون في تصنيف الرواة من حيث الضبط إلى ضابط وغير ضابط (مقبول ومردود) فقط، فتقييم ملكة كملَكة الحفظ ليست بهذه الحِديّة، فجاء تصنيفهم أكثر تفصيلًا ودقة مقسِّمًا الضبط إلى درجات يختلف التعامل مع كل منها، وللتمثيل على هذا أعرض نموذجًا مختصرًا لهذا التقسيم، فينقسم الرواة إلى مراتب:
- المرتبة الأولى: الرواة العدول الذين قلَّ الخطأ في حديثهم أو ندر، وهؤلاء يُحتجّ بحديثهم.
- المرتبة الثانية: منهم العدول متوسطو الضبط الذين يخطئون بعض الشيء، يُحتج بحديثهم ولكن مع مزيدِ نظرٍ وتحرٍّ.
- المرتبة الثالثة: العدول الذين كثر خطؤهم إلى درجة التأثير عليه بالضعف، فلا يُحتَجّ بحديثهم، وقد يدخل فقط في الاعتبار أي في الشواهد وجمع الطرق.
- المرتبة الرابعة: المتروكون والكذابون والمتَّهمون، فلا يحتج بحديثهم ولا يُعتبر به.
وتؤثر رتبة الراوي في الضبط في قَبول انفراده أو ردّه، فليس كل حديث ينفرد به راو عدلٌ ضابط يُعدّ مقبولًا صحيحًا كما يظنّ الكثيرون بسبب الدعاوى الخاطئة البعيدة عن حقيقة علم الحديث.
ولا يقف التصنيف في الضبط عند هذه الصورة المرتبطة بضبط الراوي بشكلٍ عام، بل يكون التصنيف أيضًا مرتبطًا بشيخٍ معين، بمعنى أن درجة الرواة في الضبط تختلف أيضًا باختلاف الشيخ، فالراوي قد يكون في المرتبة الأولى إذا روى عن شيخ معين ويكون في مرتبةٍ أدنى عندما يروي عن شيخ آخر، لأن ظروف تلقي الراوي عن كل شيخ تختلف بحسب قربه منه ومدى ملازمته له، فيدخل هذا أيضا في اعتبار المحدثين لا سيّما عند الاختلاف بين الروايات وعند الانفراد.
هل ينتفي احتمال الخطأ عند المحدثين بعد ثبوت الضبط العام والنِّسبي للراوي؟
هنا يظهر دور الشرطين الرابع والخامس من شروط صحة الحديث، وهما معنيّان أصلًا بأخطاء الثقات الضابطين! فالراوي الضعيف أو الكذاب لا يصل حديثه أصلًا لهذه المرحلة من التحقيق ويسقط مبكّرًا.
انتفاء الشذوذ: والشّذوذ هو أن يخالف الراوي من هو أوثق منه، أو يتفرَّد بما لا يحتمل تفرده، بمعنى أن يتفق الرواة الثقات في رواية حديثٍ معين عن شيخ معيّن ثم يخالفَهم من أقل منهم توثيقًا في نفس الحديث عن نفس الشيخ، فهو وإن كان في الأصل ضابطًا ثقة ولكن هذه المخالفة تعكس أنه قد وقع في خطأ أو وهمٍ في هذه الرواية، فتُرَد روايته (الشاذة) رغم ضبطه وعدله، أو -الصورة الثانية للشذوذ – أن يتفرد راو بحديثٍ لم يخالف فيه غيره لأنه لم يروه غيره عن هذا الشيخ، ولكنّ درجة ورتبة هذا الراوي العامة والخاصة لا تحتمل أن يتفرد به دونَ غيره، فتُردّ روايته.
انتفاء العلة: والحديث يكون (معلّلًا) إذا اطُّلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة والصحة، فيكون الحديث جامعًا لشروط الصحة من حيث الظاهر ولكن تظهر فيه علة عن طريق جمع الطرق والروايات المختلفة فيظهر الخطأ سواءً كان في السند أو المتن. لذلك الصورة الأولى من صور الشاذ والتي ذكرت منذ قليل تُعدّ أيضًا من صور العلة، إذن فالمحدِّث لا يحكم على الحديث بالصّحة إلا بعد جمع روايات الحديث وطرقه لاكتشاف (أخطاء الثقات) أوّلًا، وقد انتشرت في الفترة الماضية على الانترنت تجربة شهيرة كثيرًا ما تُطبّق في دورات التنمية البشرية وهي أن يخبر المدرب أول متدرب بقصة يخصه بها، ثم ينقلها المتدرب لمتدرب آخر، ثم لآخر وتتكرر لعدة أفراد، ثم يطالب الأخير بذكر القصة التي وصلته ليتفاجَأ الناس عادة بأنها مختلفة تمامًا عن التي ذكرها المدرب في البداية بسبب تراكم الأخطاء في السلسلة، وقد استدل بها البعض على عدم موثوقيّة علم الحديث، هكذا جُزافًا كالعادة، رغم أنها في الحقيقة تجربة تنصِف أدوات علم الحديث، فكما ذكرت ونجمل هنا أن الرواة يُصنَّفون ابتداءً حسب إمكانياتهم في الضبط والحفظ بالاختبار المباشر وبمقارنة مرويَّاتهم مع غيرهم، وبناء على هذا التصنيف لا يقبل تفرد أي راوٍ ضابط، بل الأصل هو عدم قبول التّفرد ولكن لابد من وصول الراوي إلى درجة عالية جدًا من الضبط ليقبل تفرده هذا، ولا يصح الحديث الذي كل سلسلته رواة ضابطون إلا بانتفاء العلة والتي تظهر بجمع طرق الحديث الواحد والتي تنكشف بها أخطاء الثقات الضابطين، ففي واقع المحدثين سيحدّث هذا المدرب عددًا من المستمعين وليس واحدًا، من كان منهم معروفًا بضعف الضبط سيكون هذا طعنا في روايته ابتداء، وعندما يروونَ جميعًا الحديث سيظهر مدى الاتفاق والمخالفة، ومن المخالِف ومن أين أتى الخطأ، أما إذا حدّث واحدًا فقط كما في تلك التجربة فلن يُقبل منه هذا إلا بتحقُّق أهليّته لهذا التفرد بثبوت قوّة ضبطه في عموم أحاديثه وبلوغه درجةً عالية فيها، وليس بمجرد حضوره للمجلس وسماعه ونقله، فإدراك المحدثين والعلماء منذ نحو أربعةَ عشر قرنًا لغاية تلك التجربة ونتائجها انعكست كما ترى في شروط قَبول الحديث في تطبيقاتهم العملية حتى قبل تحويلها إلى قواعد نظرية مكتوبة.
هل الضبط صفة مصاحبة للراوي بمجرد ثبوتها في مرحلة من مراحل حياته؟
البشر ليسوا كذلك، وأحوالهم الصحية والذهنية ليست ثابتة، ولأن المحدثين لا يُثبتون لأحد العصمة أو يَنفون عنه البشرية، فلم يغفلوا هذا، فتصنيف الراوي بأنه ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ ليس ساريًا على كل حياته بالضرورة، فجزء لا يتجزّأ من علم الحديث أنه يدرس (من اختُلط من الثقات) أي من فقد شيئًا من دقّة حديثه وروايته في حياته بسبب خرف (تقدم السن) أو عمىً أو احتراقِ كتبه وغير ذلك، فمن الرواة من فقد تركيزَه ودقّته عندما تقدم في السن، ومنهم من فقد بصره فأصبح يلقّن بعدما كان يطّلع بنفسه، ومنهم من كان يقرأ من كتبه وأوراقه فلما احترقت كتبه أصبح يحدث من ذاكرته والتي ليست قوية كالرواة الثقات الحافظين، فعلماء الحديث يفرّقون حينها بين ما رواه قبل حدوث هذا الاختلاط وما رواه بعده، فإن تم التحقق أن تلك الرواية كانت قبل حدوث هذا الاختلاط أُخذ حديثه، وإن ثبت أنها بعد الاختلاط لم يؤخذ حديثه، ولو وقع الشك هل كانت قبل الاختلاط أم بعده فهذه الحالة ترد الرواية أيضًا ما لم توجد قرينة خارجية واضحةٌ على صحتها وسلامتها من أثر الاختلاط، وقد صُنّف في هذا المجال أيضًا كتبٌ تؤرخ للرواة الذين أصيبوا بهذا الاختلاط، مثل كتاب (الاغتباط بمن رمي بالاختلاط) للحافظ إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي، وكتاب (المختلطين) صلاح الدين أبو سعيد خليل العلائي، و(الكواكب النيّرات في معرفة من اختُلط من الرواة الثقات) لابن الكيال الشافعي.
وفي كل ما سبق دلالة لا تحتاج إلى توضيح أن كل راو في الحديث لابد أن يكون معلومًا تمامًا، وأن التصوّر الموجود عند البعض أن المحدثين يروون عن أسماء متتابعة تفصلها العنعَنة أو عبارات (حدثني) و(أخبرني) دون معرفة بحالِ وإمكانيات كل شخص في السند، تصوَّر ليس خاطئًا فحسب بل مصادم للحقيقة تمامًا، فالجهل بحال راوي واحد من الرواة يقدح في صحة الرواية، فكيف يدعي البعض على علم الحديث أنه يقبل من المجاهيل ولا يدري هل هم أهل للرواية أم لا! و(الجهالة) نقطة مؤثرة في الاتصال والعدالة أيضًا وليس في الضبط فقط لذلك سنتطرق إليها في النقاط التّالية بإذن الله.
هل يكذب الراوي؟
اشترَط المحدثون في صحة الحديث أن يكون كل رواته عدول، والعدالة هي نزاهة الراوي في باب الصّدق وسلامتُه الدينية من الفسق، والعدالةُ أمر يمكن إدراكه عمليًّا وليس هلاميًا كما يزعم البعض، فلا يزال الناس قادرين في حياتهم اليومية على تمييز الشخص الكاذب من الصادق ومعرفة الفاسد من المصلح، وقد جعل الله تعالى العدالة شرطًا لقبول الشهادة، والله تعالى لا يشرّع المستحيل.
وأما احتمال أن يتظاهر الشخص بالصلاح والتقوى ويضمرَ الفساد والكذب فيدسّ في الأحاديث ما ليس منها، فهذا ممكن عقلًا غير ممكن عمليًا، لأن شرط العدالة ليس شرطًا وحيدًا لقبول الحديث، وكما تبيّن في النقاط السابقة أن الصالح الحافظ إن أخطأ يمكن معرفة خطئه النادر، والصالحُ ضعيف الحفظ يرد حديثه، فالكثير من العدول الصالحين يرد المحدثون أحاديثهم مع إقرارهم بصلاحهم وعدالتهم وذلك لأنهم لم يحققوا الضبط، فكيف بمن يختلق حديثًا بالكامل أو جزءًا من حديث، بل إن اتّهام بعض الرواة بالكذب والوضع لا يأتي دائمًا بتقييم صلاحهم من قبل معاصريهم بل تدلّ رواياتهم أحيانًا على الكذب والفساد بسبب ما فيها من مخالفة وانفراداتٍ غير محتملة تدل على أنه ليس راويًا ضعيفَ الضبط فقط بل تكشف أنه يتعمد الكذب، فمدّعي الصلاح الذي يريد أن يدس في الحديث ما ليس منه مطالَب بألا ينفرد بحديثه المكذوب وألا يخالِف فيه الثقات العدول، فأنى له ذلك!
ولو فرض أنه نجح مرة أو بعض الوقت فإنّ كذبه سيكتشف في مواضع أخرى وحينها ستُردّ كل أحاديثه، فشروط صحة الحديث متضافرة لا يُنظر لكل شرط منها بصورة منفصلة فيحدث بهذا التوهّم الخاطئ عن نتائج تطبيق آليته.
العلاقة بين الرواة (اتصال السند)
فإذا تبين أن كلّ فرد في سلسلة الرواة عدلٌ ضابط، ينظر في كيفية تلقّيه الحديث عن شيخه، فلا بُدّ أن يكون السند بينهما (متصلًا)، أي أنه تلقاه منه مباشرة، والانقطاع بين الرواة: منه انقطاعٌ ظاهر مثل أن يروي الراوي حديثًا عن شيخ لم يدركه ولم يقابله، أو يروي بصيغة الانقطاع فيها بيّن بأن يقول (بلغني عن فلان) أو (نُبئت أن فلان قال..)، (أخبرني رجل عن فلان) مع جهالة هذا الرجل وعدم تحديده، وهكذا، فهذا انقطاع ظاهر.
أما الانقطاع الخفيّ وهو ما يسمى (التدليس)، فهو أن يروي الراوي حديثًا لم يسمعه عن شيخه بصيغة محتملة، بمعنى:
يكون هذا الراوي بالفعل قد سمع من شيخه هذا أحاديثَ في العموم، وبالتالي روايته عنه الأصل فيها القبول.
أن يروي حديثًا معينًا لم يسمعه من هذا الشيخ ولكن سمعه بواسطة أخرى، ولأنه في الأصل عدلٌ فلا يقول (حدثني فلان) لأنه بذلك يكون كاذبًا صريحًا وتسقط عدالته ولكن يستعمل صيغةً تحتمل أن يكون قد سمعه بصورة مباشرة أو غير مباشرة فيقول مثلًا (قال فلان ..) (عن فلان.. ) وهكذا.
هل هذا الخفاء الشديد مما يعني به المحدثون ويكشفونه؟ نعم، فكيف بالانقطاعات الظاهرة.
وباب التدليس كبير وبه تفاصيل كثيرة، ولكن في ظلّ ما يستهدفه هذا المقال المختصر نشيرُ إلى أن المحدثين يميزون في التعامل بين الرواة العدول الضابطين الذين ثبت عليهم التدليس والذين لم يثبت عليهم التدليس، والتدليس يثبت أيضًا بجمع الطرق، إذ يظهر بها هل أَسقط أحد الرواة الشيخَ الذي قبله أم لا مع عدم تصريحه بالسماع، فتجد – مثلًا – أن كل الرواة في طبقته قد رَووا الحديث (حدثنا محمد قال حدثنا أحمد قال حدثنا إبراهيم) فيرويه هو (قال أحمد قال حدثنا إبراهيم) أو (عن أحمد قال حدثنا إبراهيم) فيتبين أنه أسقط (محمد) من السند وفي نفس الوقت لم يقل (حدثنا أحمد) لأنه لم يسمعه منه مباشرة.
فمن ثبت وقوعه في التدليس لا يُقبل منه إلا التصريح بالسماع (حدثني-أخبرني -سمعت .. إلخ)، أما الصيغ الموهمة فلا، ومن لم يثبت عليه أبدًا وقوعه في التدليس فكلا الصيغتين منه سواء، وسبب هذا الحذر والاهتمام بباب التدليس هو خَشية أن يكون الشيخ المحذوف من السند ضعيفًا، نعم مجرد خشية الاحتمال، فكيف يزعم من يزعم أنّ علم الحديث يَقبل من مجهول الحال أحاديثَه! ويظهر لك كيف أن المحدثين لا يساوون بين صيغ الأداء، ف(سمعت) ليست دائمًا كـ(قال) وكـ(عن) وأن لكل منهم مسارًا في التعامل يمكن الرجوع إلى تفصيلاته في كتب الحديث، فمن الظلم والبغي أن يقال بسطحيّة بل وبسخرية أحيانا لا تعيب إلا صاحبها (رجل عن رجل عن رجل) ما يدرينا من هم هؤلاء الرجال؟ إن هذا أسلوب غير علميّ في إثبات الروايات!
ومن العلوم المنبثقة من علم الحديث والمتعلق بإثبات الاتصال والتعريف برجال الإسناد ما يلي، على سبيل المثال للحصر
الاهتمام بدراسة وتمييز الصحابة من غيرهم وألّف في ذلك الكثير من المراجع مثل (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلاني، و(أسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير، و(الاستيعاب في أسماء الأصحاب) لابن عبد البر.
واهتمُّوا بدراسة وتمييز التابعين وسيرهم وألّفوا أيضًا في ذلك كتب مثل (معرفة التابعين) لأبي المطرف الأندلسي
وتمييز الصحابة من التابعين مسألةٌ هامة جدًا، لأن التابعي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسَل (سقط في السند) بخلاف الصحابي، فإذا وُصف تابعي خطأً بأنه صحابي توهّمنا اتصال السند وصحة الحديث والواقعُ خلاف ذلك.
بل واهتموا في دراسة سير الرواة بتمييز الإخوة والأخوات، حتى لا يُظنَّ في راويين أنهما إخوة لاشتراكهما في اسم الأب مثلًا وهما ليسا كذلك، وهذا يؤثر إذا روى أحدهما عن الآخر، فإذا روى راوٍ عن أخيه فهناك اتصال، ولكن ربما إذا روى عن صاحب الاسم الشّبيه يكون هناك انقطاع ونظنه اتصالًا، وألّفوا في ذلك كتبًا أيضًا مثل كتاب (الإخوة) لأبي العباس السراج وكتاب (الإخوة) لأبي المطرف الأندلسي.
بل واهتموا بدراسةٍ خاصّة للرواة الذين اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم، أو اتفقت أسماؤهم وكُناهم ونحو ذلك وهو ما يسمى بمعرفة المتفق والمفترق، وذلك لأن اتفاق الأسماء بين عدد من الرواة قد يورِث أخطاء؛ أن يظنّ المحقق أنهم شخص واحد وفي الحقيقة هم عدة أشخاص وقد يكون منهم الثقة والضعيف، فعدم التمييز بينهم مؤثر جدًا، فمثلًا كان هناك أربعة رواة في عصر واحد اسمهم (أحمد بن جعفر بن حمدان)، وأيضًا ألّفت كتب متخصصة في هذا الباب مثل (المتفق والمفترق) للخطيب البغدادي، و(الأنساب المتفقة) للحافظ محمد بن طاهر.
بل بلغ الاهتمام بالتدقيق حدَّ الدراسة والتفريق لمن تتفق أسماؤهم أو أنسابهم خطًّا (كتابة) ولكن تختلف في اللفظ والنطق، مما قد يؤدي للوهم والخطأ، وألفت في ذلك كتبٌ مثل (المؤتلف والمختلف) لعبد الغني بن سعيد الأزدي، و(الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب) لعلي بن هبة الله بن جعفر ابن ماكولا، و(المؤتلف والمختلف) لعلي بن عمر الدارقطني.
واهتموا بدراسة ما يسمّى ب(الإهمال)، وهو أن يروي الراوي عن شخصين متفقين في الاسم ولا يميز بينهما، فإذا كان أحدهما ضعيفًا يضعّف الحديث لأننا لا نعلم أيهما يقصِد الراوي، وإذا كان كلاهما ثقةً فلا يضرّ عدم التمييز بينهما، وقد ألف الخطيب البغدادي كتابًا عن الراوي المهمَل أسماه (المكمل في بيان المهمل) من أجل هذه المسألة، كذلك ألف أبو علي الغساني الجيّاني كتاب (تقييد المهمل وتمييز المشكل).
كما اهتموا بدراسة وتمييز الرواة الذين ذُكروا بأسماء وكنى وصفات مختلفة حتى لا يحدث التباسٌ في أسماء الشخص الواحد وكي يتم اكتشافُ أي تدليس في أسماء الشيوخ، فمثلًا الراوي (محمد بن السائب الكلبي) يسميه البعض (أبا النضر) ويسميه بعضهم (حمّاد بن سلمة) ويسميه بعضهم (أبا سعيد) وهو شخص واحد، وبلغت الدراسة أيضًا حدّ التصنيف، فمن ذلك كتاب (إيضاح الإشكال) للحافظ عبد الغني ابن سعيد، و(موضح أوهام الجمع والتفريق) للخطيب البغدادي.
وكذلك الاهتمام بدراسة تواريخ الرواة ميلادًا ووفاةً لأنها مما يفيد جدًا في التحقق من اتصال الأسانيد.
وقد تقدم الكلام عن مسألة اختلاط الرواة وتغيّر ضبطهم، فيهتم المحدث بـ(من اُختُلط من الثقات) أي من فقد شيئًا من دقة حديثه وروايته في حياته بسبب خرف (تقدم السن) أو عمىً أو احتراقِ كتبه وغير ذلك، فمن الرواة من فقد تركيزه ودقته عندما تقدم في السن، ومنهم من فقد بصره فأصبح يلقّن بعدما كان يطلع بنفسه، ومنهم من كان يقرأ من كتبه وأوراقه فلما احترقت كتبه أصبح يحدث من ذاكرته والتي ليست قويّة كالرواة الثقات الحافظين، فعلماء الحديث يفرقون حينها بين ما رواه قبل حدوث هذا الاختلاط وما رواه بعده، فإن تم التحقق أنّ تلك الرواية كانت قبل حدوث هذا الاختلاط أُخذ حديثه، وإن ثبت أنها بعد الاختلاط لم يؤخذ حديثه، ولو وقع الشك هل كانت قبل الاختلاط أم بعده فهذه الحالة تردُّ الرواية أيضًا، وصُنّف في هذا المجال أيضا كتبٌ تؤرخ للرواة الذين أصيبوا بهذا الاختلاط، مثل كتاب (الاغتباط بمن رمي بالاختلاط) للحافظ إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي، وكتاب (المختلطين) صلاح الدين أبو سعيد خليل العلائي، و(الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات) لابن الكيال الشافعي.
في ظل كل ما سبق فإن العبارة الشهيرة (وما يمنع أن يختلق أحدهم حديثا ويركب له سندًا ذهبيًّا كاملًا متصلًا، رواته عدول ضابطون وبالتالي يدسّ في السُّنة بسهولة ما ليس منها ) تبدو شديدة السذاجة رغم انتشارها، وهل يظن أحدهم أن الأحاديث الموضوعة المحجوزة على شباك المحدثين كان الراوي يرويها بالضرورة بلا سندٍ أو بسند فيه رواه معلومو الكذب والضعف؟ بالقطع لا، فإن كان هذا المختلِق الواضع للحديث في زمن الراوية فلا بدّ أن ينتهيَ السند إليه، فإن ركّب للحديث إسنادًا صحيحًا تمامًا مثلا (مالك عن نافع عن ابن عمر) سيبقى السؤال كيف وصله الحديث عن مالك، فإن قال سمعت مالكًا أو حدثني مالك فقد دخل الواضع بنفسه في السند وستكشفه قواعد الحديث ومعرفة الرواة، هل سمع من مالك حقًّا أم بينهما انقطاع؟
هل هو ضابط حافظ؟ هل انفرد به عن مالك ولم يذكره أي تلميذ من تلاميذ مالك غيره؟ وهل هو أهلٌ لهذا التفرُّد؟
وهكذا، أما بعد انتهاء زمن الرواية واستقرار الحديث في الكتب الكبرى ، فهو حينها لا يملك بعد أن يسوق الاسناد المزيف إلا أن ينسب وجوده إلى كتابٍ من تلك الكتب لأنه قطعًا لن يكون قد سمع من آخر راوٍ كالبخاري أو مسلم أو النسائي أو أحمد أو ابن ماجة أو أبو داود أو الطبراني … إلخ ، والكتب موجودة ويمكن دراسة إذا ما كان الحديث بسنده هذا موجود في الكتاب أم لا؟
لذلك فكون أن يخرجَ خطيبٌ مثلًا ويقول حديثًا لا أصل له ويؤلف له سند أو يقول رواه فلان وهو لم يروه، أو لا يقول من رواه أصلًا ولا ما مصدره فهذا لا يعني نجاحَه في تمرير الباطل، أو فشل منهجِ المحدثين في كشفه، فكون المستمعين يثقون فيه ولا يبحثون في الكتاب الذي ينسب إليه الحديث ، أو لا يبحثون وراءه في الأحاديث التي يرويها بلا أي ذكر للمصدر ، فهنا علم الحديث لم يستخدم أصلًا كي نقول أنه فشل في الإمساك بهذا الاختلاق ، بل كم أمسك هذا العلم ربما بآلاف الأحاديث المختلقة خلال أربعة عشر قرنًا، وهل قام علمُ الحديث أصلًا إلا من أجل هذا؟
وكل ما سبق ما هو إلا إشارات بسيطةٌ وأمثلة تناسب الاختصار، وفي مراجع هذا العلم الكثير الوفير الذين يتحقّق معه اليقين في مدى قوته ودقته العلمية والعملية.
ونكمل بإذن الله في مقال لاحقٍ إجابة السؤال الثاني:
ما موقع علم الحديث وآليته من العلوم الأكاديمية المعتبرة؟
https://almohaweron.co/the-status-of-alhadeeth-science1/
من مراجع المقال:
[١]-تيسير مصطلح الحديث، للدكتور محمود الطحان، أستاذ الحديث وعلومه بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت، دار المعارف للنشر والتوزيع.
[٢]-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق وتعليق أ. د.عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، ومحاضرات الشيخ أحمد بن يوسف السيد في التعليق عليها.
[٣]-اختصار علوم الحديث، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق وتعليق وشرح الشيخ أحمد شاكر، دار الغد الجديد.
[٤]-كتاب الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر.
[٥]-مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث.
[٦]-تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين للشيخ أحمد بن يوسف السيد.
الكاتب: معتز عبد الرحمن