بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، أما بعد:
في القرن التاسع عشر أسس العالِم داروين نظرية أثرت كثيراً في السياق الفلسفي، وهي ظاهرة النشوء المشهورة، والتي رحب بها الملحدون وتبنوها لاحقاً بعصبية شديدة، حتى أنهم غالوا فيها وجاوزوا بها الإطار التي تعمل داخله؛ فأصبحت تفسر جميع الظواهر الحياتية.
غير أن لهذه النظرية لوازم فاسدة، والتي تضع الملحد نفسه في موقف محرج إن كان صادقاً فيما يعتقده، ولتوضيح هذه اللوازم ولبيان فسادها سأعرض في هذا المقال النقاط التالية:
• ضرورة الاعتقاد
• مفهوم الإلحاد وعلاقته بالاعتقاد
• مفهوم اللازم المنطقي وبيان أن فساد اللازم يقتضي فساد الملزوم
• ذكر اللوازم الفاسدة وارتباطها بالرؤية الداروينية للحياة
ثم ننتهي بخاتمة نؤكد من خلالها فساد الرؤية الإلحادية الداروينية.
إذا تحدثنا أولاً عن ضرورة الاعتقاد ورسوخه في النفس البشرية فإنه يجب الإشارة إلى أنّ الإنسان بطبعه هو إنسان معتقِد، فلا يمكن أن ينفّك الإنسان عن هذا الطبع؛ فالاعتقاد هو الذي يؤثّر في سلوك الفرد حال التصرف، ممّا يجعله يتبنى أموراً تكون لوازم اعتقاده.
ثانياً: مفهوم الإلحاد وعلاقته بالاعتقاد
الإلحاد: هو الميل عن طريق الصَّواب بسبب العهد الذي رسمه الملحد في تصوّره للحياة، فالإلحاد هو العهد الذي يحمله الملحد، وفي الاِصطلاح العرفيّ: هو إنكار الرب.
وهناك اصطلاح ذكره د/سلطان العميري ووَصَفه بأنّه أدق وأتقن، وهو عدم الإيمان بوجود الله؛ لأنّه يستوعب كل الحالات الواقعية الناقدة للوجود الإلهي.
ذكرنا سابقاً أن الاعتقاد لا ينفك عن الإنسان ولكي نُدرك اعتقاد الملاحدة بهذه النظرية يقول ز.ه. سكون: “إن نظريّة النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها حتى ولو أصبحت عملاً من الاعتقاد ” وممّا هو أعمق من هذا القول، قول مايكل روس: “التطوّر هو دين”، وإن لهذه الكلمة دلالات كثيرة منها:
– أن النّظرية عند أصحابها ليست مجرّد فرضية بيولوجية، فقد تجاوزت هذا بكثير حتى أضحت في مقام الدين الذي له إيديولوجيات خاصة به.
– أنها لا تقبل النقد؛ بل إنهم لا يقبلون حتى الكشوفات العلمية التي تنقد النظرية، والذي يؤكّد هذا القول أن جون هاوكس يقرر أنه لا يوجد في القردة العليا جنس انتقالي إلى الإنسان المنتصب، وهذا الكشف العلمي هو من أخرجه، لكن هل قبله؟ طبعاً لا!؛ بل وضع حلاً إيمانياً بديلاً، وهو أن يؤمن بالانتقال المفاجئ من جنس القردة إلى جنس هومو.
– أن النظرية التي تكون بمثل هذا المقام لابد وأن معتنقيها لهم إيمان عميق بها، وهذا ما نجده عند أعلام الإلحاد.
وحين ندرك أن الإلحاد ينطلق من نفي وجود الخالق، حينها ما هو الشيء الذي يملكه لتفسير حقائق الحياة؟ لهذا احتاج الملاحدة لنظريّة التطوّر التي سدت لهم هذه الفجوة؛ إذ لولا هذه النظريّة لما كان بعضهم ملحدًا.
اسمع لريتشارد دوكنز وهو يقول هذه العبارة التي تعبر بعمق عن احتياج الإلحاد لنظرية التطوّر: “لو عشت قبل زمن داروين _ على الأرجح _ سأكون مؤمناً بالله”!
و بهذا تتأكد صلة الإلحاد بهذه النظريّة؛ لأنّ هذه النظريّة هي البديل الوحيد عن الإيمان بالخلق الخاص المباشر، لذلك رُبط الإلحاد بالرؤية الداروينيّة؛ لأنّ الإلحاد أمر فلسفي يقوم على منصّة الإثبات أو النفي، والتطوّر أمر علمي يقوم على منصة التجارب، و الفلسفة تقوم على مقدمات، ويمكن للعلم أن يكون مقدمة لفلسفة معينة؛ لأن التطوّر ينفي وجود الربّ لأمور فلسفية محضة.
وبعد، فإن التّكلم عن اللوازم له بُعد فلسفي؛ إذ يأخذ مقولاتهم ويوصلها إلى النتيجة المنطقية لها، وهو أمر مهم يبيّن تناقض الملاحدة بين تنظيراتهم وعملهم في الواقع.
ثالثاً: مفهوم اللازم المنطقي وبيان أن فساد اللازم يقتضي فساد الملزوم
أما معنى اللازم فقد عرّفه الجُرجاني بما يلي: “ما يمتنع انفكاكه عن الشيء”
ترتكز نظرية التطوّر على ركنين أساسين: العشوائية والانتخاب الطبيعي، والممارسة الداروينيّة تفسر كل شيء داخل إطار الداروينيّة حتى ولو كان خارجاً عن إطارها، وهذا ما فعله أعلام الإلحاد بإدخالهم ملفات خارجة عن هذه الرؤية.
والرؤيّة الداروينية للحياة لخصّها ريتشارد دوكنز بقوله:” الكون كما نشاهده يتمتع بالخصائص التي نتوقعها تماماً إن كان في حقيقته بلا تصميم.. بلا غاية.. بلا شر، ولا خير سوى قسوة عمياء لا مبالية.”
رابعاً: ذكر اللوازم الفاسدة وارتباطها بالرؤية الداروينية للحياة
اللازم الأوّل: العشوائية ونفي الغائية
العشوائيّة هي الطبيعة العمياء للانتخاب، والمسار العشوائي غير واضح؛ لأنّه ليس له هدف أصلاً، والذي في مثل هذا المقام ليس بمقدوره التفسير؛ لأنّ كل الأمور -في النموذج العشوائي- اعتباطية؛ لذا فمعنى الحياة ووجود غاية فيها غير موجود في الرؤية الداروينية.
إذن فصنيع الملاحدة بجعل وجود “معنى للحياة” ليس له مسوّغ في هذه النظرة؛ لأنّ الطبيعة المنطقيّة لهذا القول وهذه الرؤية تفضي إلى فلسفة عدمية.
اللازم الثاني: نزع مفهوم الجمالية من الحياة
أكثر شيء متعلق بالجمال هو الجانب الأخلاقي؛ إذ تشرق منه صفحات جميلة تدل على أن هذا الكائن أسمى من المادة التي تحيط به؛ إذ ترفعه من ماديّة الكون إلى روحانيّته، لكن نجد في التصوّر الدارويني تنكُراً لهذا الجانب، ففي تنظيراتهم يرجعون الأمر إلى الذوق الشخصي والعرف الاجتماعي، وبأن كل الأخلاق نسبيّة، فما تراه خلقاً حسناً قد يراه غيرك قبيحاً، وأقبح لوازم الرؤية الداروينيّة لهذا الجانب تسوية الأفعال -تسوية الفعل الحسن بالفعل القبيح- و هذا ممّا يرفضه العقل و المنطق المستقيم؛ إذ كيف نجعل المسالم كالمجرم، بأيّ معيار نحكم على ذلك؟ فكيف نجعل فعل ستالين وهتلر وغيرهم من الطغاة كفعل المسالم الذي ينشر السلم وسط المجتمعات؟
لكنّها العشوائية الاعتباطية، فهي التي أنتجت هذه الأخلاق لعلّة الاستبقاء، ولازم الإلحاد العدمية الأخلاقيّة التي تجعل من كل شيء مباحاً، وعلى حد تعبير دوستويفسكي {كل شيء مباح إذا لم يكن الله موجوداً}
بيان تناقض الملاحدة:
لما كانت النفس تفرض في واقع المعيشة هذه الأخلاق الموضوعية، ظهر تناقض الملاحدة في تقريراتهم وإنكارهم لهذا الأمر، فنجد أن ريتشارد دوكنز صرح بذلك وأعترف بتناقضه؛ بل يقول: {… ولكنه تضارب يجب أن نتعايش معه، وإلا فستكون الحياة قاسية}
لذلك كان لابد أن تكون النتيجة المنطقية لهذا اللازم بأن يكون الملحد غير أخلاقي؛ لأنّ {الإلحاد يقتضي مذهب اللاأخلاقية}
لمَ يقبلون التناقض رغم فساد قولهم؟
الجواب ببساطة؛ لأنّه يَلزَم من موضوعية الأخلاق وجود الله، والملاحدة لهم حساسية اتجاه الخالق؛ لأن يُوجد كومبيوتر أنشأ هذا الكون هو أكثر معقوليّة عندهم من وجود الخالق
اللازم الثالث: النظرة الدونية للحياة
يقول ستيفن هوكينغ: “الجنس البشري هو مجرد وسخ كيميائي موجود على كوكب متوسط الحجم”.
إنه أكثر شيء يعبر عن النظرة الدونية للحياة، فهو يجعل الإنسان مجرد وسخ كيميائي، وهو بهذا ينزع حرية المرء وقدرته على اختيار ما يريد بفعل التفاعلات الحيوكيميائية الموجودة في الدماغ؛ لأن فعل الإنسان في النظرة الدونية مجرّد تفاعلات حيوكيميائية أُجبرت على العمل أو على المشي أو التّكلم أو التأليف….
ما هو الضابط إذن في إطلاق ألقاب مثل متنوّر ومفكر حر وغيرها؟! في ظل هذا التصوّر لا معنى لتلك الألقاب؛ إذ هي جبرية مطلقة، فتفكير الملحد مجبور في ظل تصوّره للحياة، كذلك كل تصرفاته أسيرة هذا التصوّر
ما الفائدة؟
لماذا إذن ينعت الملاحدة المؤلهة ولا يألون جهداً في كسر دعائم الإيمان، ما الفائدة من ذلك؟ وفي هذا التصوّر كان لزاماً على الملحد أن يقول: “هو مجبور على إيمانه كما أنا مجبور على إلحادي”
الجبرية لا تنتج فائدة، فلا توجد غاية من الكتابة مثلاً وفق النظرة العشوائية التي ليس عندها هدف.
النتيجة المنطقية من هذا أن الإرادة الحرّة مجرد وهم!
اللازم الرابع: التحيّز في التفسيرات
التصوّر الدارويني يحجّر من مسارات التفسير ويجعله في نطاق العلموية فقط، والعلموية -كما في موسوعة لالاند- هي: «العلم القادر على معرفة الأشياء كما هي، وحلّ جميع المشاكل، وإشباع جميع الحاجات الحقيقية».
اختزالية مطلقة تنفي المناهج الأخرى وتهيمن عليها، وذلك ما نراه في تصرفات أعلام الإلحاد، فحين نجد أن سام هاريس يريد أن يبني منظومة أخلاقية من خلال العلموية، فهذا يؤكد التحيز في ظل هذه الرؤية، فبرغم من أن الأخلاق بعيدة جداً عن العلموية إلا أنّه عمل داخل إطاره، وكذلك العلموية تختزل تفسير أسئلة الإنسان الكبرى.
ومن التحيّزات التي يمارسها أصحاب هذا التيّار استعمال الأساليب العلمية في غير مكانها، خذ مثلاً الانتخاب الطبيعي، فمكانه الطبيعي عالم الأحياء، لكن نجد أعلام الإلحاد يُدخلون هذا الأسلوب في الاجتماع والاقتصاد..
لذلك نلخص إلى أنّ العلمويّة فلسفة إلحادية تختزل تفسير الظواهر في العالم المادي، وهي مدرسة أحاديّة الرؤى تتفق مع الرؤية الداروينية، وهم الذين نفخوا فيها روح الحياة من جديد، وما ذلك إلا لقرابة المنهجين من بعض.
لكن هل التزموا هذا القول؟ إنّ الناظر للعلم التجريبي بأنّه غير مؤكد بالعلم التجريبي يُظهر فساد قولهم وبطلان دعواهم؛ لأنّهم لم يلتزموا بقولهم وأخذوا بمنهجه خارج هذا الإطار.
ختاماً، فإن هذه الإلزامات كفيلة بإظهار فساد هذه الرؤية، وما سبق ذكره ما جيء به على سبيل الحصر أبداً، إنما لا يسع المقام لذكر تناقضات آراء أعلام الملاحدة وتخبطهم.
وإن المتأمل لهذه النظرية وتطبيقات مؤيديها لها في الحياة لدعم معتقدهم، يدرك حتماً فسادها واستحالة استقامة الحياة بها وتضاربها المباشر مع الفطرة، ولا يسعنا إلا القول أنّه من العسير جداً أن تجد ملحداً صادقاً في إلحاده.
الكاتب: أحمد سلطان