مدخل
وأنت تقرأ هذه الأسطر تعيش تجربة وعي بذاتك وبما تقرأ, تنتقل بين الكلمات والجمل فترتسم في وعيك المعاني وتثور لديك الأحاسيس, في مشهد يتكرر في كل أنشطتك اليومية دون أن تفكّر في دلالاته، ربّما لأنّك تعوّدت ذلك, وحتّى لو مررت بتجربة تقرّب لك التأمّل في معنى امتلاك هذه التجربة وفقدانها, مثل الإغماء العميق أثناء تخدير لعملية مثلاً, فإنّ هذا الموقف قد يمرّ عليك دون أن تفكّر في دلالاته, رغم أنّنا نعيش حالة يومية قد تقرّب لنا ذلك, حين ينام أحدنا… وفجأة يستيقظ ويزيد إحساسه بذاته.. يستجمع مشاعره.. يعود لوعيه الكامل..
هذه الحالة من اليقظة التي نعود لها بعد الإغماء أو النوم يمكن أن تقرب لنا المراد بـ”الوعي”، إنها مجموعة كبيرة من المدركات المتداخلة والمشاعر، تحسّ بها أنّك أنت أنت ! وتعيش بها عالمك الخاص المتميّز عن الآخرين, بذاتك المتميّزة به عنهم.. مشاعر كثيرة نشعر بها..
منها شعورك بعدما عدت من سفر طويل، فرأيت أبناءك يطيرون نحوك كالعصافير…
ومنها شعورك عند تعرضك لخطر مفاجئ، فتتقي بيدك أو تبتعد بجسمك بشكل سريع..
فرح وحزن، وراحة ومشقة، وأحلام وخيالات تتعلق بالمستقبل.. بل فرح بطعام مفضل أو نوم مؤجل !
كل هذه مشاعر وتجارب داخلية، قد تظهر آثارها على وجوهنا ضحكا وبكاء، وعلى أطرافنا حركة أو سكونا.. ولكن حقيقة هذه المشاعر تبقى أمرا داخليا، تحس به أنت وحدك، ولا يمكن للآخرين أن يشعروا بنفس إحساسك..
ولن تستطيع إخبار الناس بكيف هو حال تلك المشاعر في داخلك، مهما كنت فصيحا بليغا!
بل إنّك لا تستطيع أن تعيش تجربة الوعي تلك بمجرد نقل خبر لك عن شيء لم تعايشه, فلو أنّ إنسانا عاش في غرفة ليس فيها إلا لونان: الأسود والأبيض، وقد امتلك كل العلوم الفيزيائية وتعلمها تعلما تاما، وتعلم أن هناك لونا اسمه اللون الأحمر، فإنه لن يعرف كيف يكون شعوره باللون الأحمر إلا بعد أن يراه.
الوعي آية !
دعنا نسمي كل هذا بـ(ظاهرة الوعي)،
تلك الظاهرة التي يقصد بها أن لدينا تجارب ذاتية داخلية، وأن عندنا إدراكا داخليا ذاتيا لكيف يكون حال تجربتنا لحالة واعية محددة.
قد يبدو هذا الأمر سهلا يسيرا، مشاعر داخلية نشعر بها مئات أو آلاف المرات في اليوم، بل إننا لا ننفك عن حالة شعورية في لحظة من اللحظات، لا ننفك عن وعي داخلي، نعي به: من نحن ؟ ماذا نفعل؟ بم نفكر؟ إلام نطمح ؟
لكن دعنا نلتفت إلى جانب آخر من هذا الوعي، جانب غير هذا الذي نعتاده يوميا، جانب قد نكون غافلين عنه.. جانب يزيد الإيمان ويقوي اليقين..
- أولاً :
إنّ هذه الخصوصية التي تلفّ التجربة الذاتية لوعي إنسان تستدعي التفكّر, خصوصاً عندما ندرك أنّنا لا نستطيع بأي وسيلة مادية أن نقف على حقيقة وكيفية ما يحصل في تجارب الوعي لشخص ما, فحتّى لو راقبنا من الخارج بكلّ الوسائل المادية, فرصدنا أجزاء الدماغ التشريحية وما يظهر فيه من تفاعلات كيميائية وكهربائية, وبقينا نراقبه ونرى ذبذباته تلمع وتختفي أمامنا، وأخذنا نحاول الربط بين منطقة معينة من الدماغ وبين شعور معين، فإنّنا مع ذلك لن نستطيع أن نعرف كيفية شعوره عندما يأكل تفاحة يحبها! - ثانياً :
إنّ خصوصية تجربة الوعي لكل إنسان تبرز استقلاليته كذات في الإدراك الموحّد لما يمرّ به من تجارب وعي, قد يتعدّد ويتفرّق ما يرتبط بها من أحداث كهربائية وكيميائية مرصودة, ولكنّه يدركها كحالة وعي وشعور واحد, وهذا يدلّ على أنّ فيه شيئاً أعلى من تلك الأجزاء والأحداث الجزئية, شيئاً لا ينتمى لعالم المادة المرصودة بحواسنا! وتأمّل لتقريب الفكرة مثال السيارة والسائق: لن تتحرك السيارة بدون سائق، والسائق لن يستطيع تشغيل السيارة أو أن يستعملها بالشكل الصحيح إذا كانت تالفة أو معطلة، ومع ذلك فكلاهما مختلف عن الآخر, فالوعي يرجع لشيء متميّز عن الأجزاء المادية التشريحية لأجسادنا. - ثالثاً : إنّنا نعلم أن المادة عمياء جامدة، لا إدراك لها ولا وعي، فلا يمكن أن ينشأ الوعي منها . وتأمّل هذا المثال: لو أن عندنا قطعة خشب أضفنا إليها مزيدا من الخشب فلن تتحول إلى ذهب، هذا والخشب والذهب ينتميان إلى عالم المادة.. فكيف للوعي أن ينشأ عن هذه المادة، وهو يختلف في طبيعته عنها.. ينتمي إلى عالم .
كيف وُجدت هذه العلاقة العجيبة بين المادة وبين الوعي فينا بني البشر؟بالتأكيد يستحيل أن تكون المادة مصدرا لذلك الوعي، لأنها لا تملكه، وهي كذلك ليست سببا في وجوده !
وهنا يأتي السؤال المهم:كيف وُجدت العلاقة بين المادة الجامدة وبين الوعي أو الشعور؟ بل كيف وُجد الوعي من أصله؟
إنّ وجود الوعي ابتداءً من مجرد مادة لا وعي فيها أمر مستحيل, ولهذا فإنّ سبب الوعي ابتداءً لا بد أن يكون متصفاً بالعلم مع اتصافه بالقدرة على خلق هذا الوعي وخلق التفاعل بين حصول الوعي وبين الأجزاء الجسدية في الجسم, ولوضوح هذا التلازم بين الأمرين يقول تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}. سبحانه.
دليل الوعي وتقدم العلم
ومهما تقدّم العلم فلن يزيد هذه الحقيقة إلاّ وضوحاً, فإنّنا لو علمنا كل التفاصيل المتعلقة بالدماغ فلا يمكننا معرفة حقيقة شعور شخص معين عندما يحب أو يأكل طعاما يحبه، كيف نشأ هذا الشعور؟ ولماذا؟ وما علاقته بالأحداث الكيمائية؟
فإذا أكلت حبة من الفراولة، سيتمكن علماء الأعصاب من إيجاد علاقات في الدماغ تشير إلى أنك تأكل شيئا، وقد يتوقعون أنك تأكل فاكهة، أو أنك تجدها لذيذة عن طريق سؤالهم لك، وطلبهم منك أن تصف تجربتك الواعية… ولو تجاوزنا أن هذه النتائج تبقى في دائرة الضعف من ناحية التحديد والدقّة، فالإشكال الأكبر أنهم لن يتمكنوا على الإطلاق من معرفة أو معايشة كيف يكون حال أكلك للفراولة، أو ماذا تعني لك اللذة أو الحلاوة؟ وكيف هو شعورك بها؟ ولماذا مررت بتلك التجربة الذاتية المعينة لأكل الفراولة؟
السبب الرئيس خلف هذا الشيء هو أن علم الأعصاب هو علم يختص بالدرجة الأولى بالعلاقات الترابطية، وغاية ما يقوم به علماء الأعصاب أنهم يراقبون نشاط الدماغ، ثم يربطون ذلك النشاط بما يخبرهم به الشخص صاحب التجربة والشعور، فهو الذي يخبرهم عن حالة الوعي التي يعيشها.
ومع أن هذه “الارتباطات” لم تثبت بشكل مستقر إلى الآن، لأن الربط لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا ثبت أنه كلما وجد ذلك الحدث العصبي الكيميائي وجد ذلك الشعور، والعكس كذلك؛ وقد وجد بالتجربة أنه قد يحدث تخلف أحدهما عن الآخر، فقد يوجد الشعور ولا يوجد الحدث الكيميائي، وقد يوجد الحدث الكيمائي ولا يوجد الشعور! ثم إنه يظهر لنا عدة عوامل مادية متشابهة عند ذلك الشعور، ومهما حاولوا التقليل من هذه الاحتمالات فإنها تبقى متعددة. فالشيء المتيقن عندهم فقط هو متى تحدث تلك المشاعر والتجارب الداخلية.
مع ذلك، فلا يمكن لهذه “الارتباطات” أن تجيب عن سؤال: كيف يكون شعور هؤلاء المشاركين في حالة أو أخرى من حالات الوعي؟ ولا كيف نشأ ذلك الشعور؟ ولا يمكنه أن يفسر لنا كيف ينشأ الشعور عن أحداث مادية معينة؟
ليس المراد هنا إنكار وجود علاقة بين الشعور وبين الأحداث الكيمائية،
بل المراد بيان أن علم الأعصاب لا يمكنه:
- أن يحدد أي موضع هو المسؤول عن ذلك الحدث بدقة.
- ولو حدد فلا يمكنه الادعاء بأن هناك علاقة سببية بين الحدث وبين الشعور.
- ولا يستطيع أن يخبرنا بكيفية ذلك الشعور.
- ولا يستطيع أن يفسر نشأة الوعي، ولا كيف وُجدت العلاقة بينه وبين المادة.
بين الذات المدركة والذاتية
يدلّ وجود الإدراك الموحد على ذات واحدة تدرك, ولا يمكن أن يحدث الوعي بلا ذات مدركة, فلو نظرت إلى تفاعلات الخلايا العصبية على أنّ كل منها مسؤول جزئياً عن الوعي, فمن أين إذاً يأتي الوعي الموحد, من أين تدرك أنّك ذات تتعرّض لمجموعة تجارب تمرّ بها أنت لا غيرك, فأنت من يمسك الفراولة ويشعر بملمسها ثم يمضغها ويشعر بطعمها ثم يشعر بتأثير ذلك على إحساسه بالشبع والرضا بما نال.
إنّ الوعي الموحّد يدلّ إذاً على ذات لا يمكن أن تختزل في مكونات جسدية مادية محسوسة، ويزيد هذه الحقيقة وضوحا ما يلي :
لو أن فلانا فقد الجزء الأسفل من جسده على إثر حادثة، لبقي فلانا، ولم تنقص ذاته بنقص جسده.
وحين أكبر أنا وأنت وتتبدل صورنا وخلايا أجسامنا .. فذواتنا باقية كما هي .
فنحن نعلم أننا نتغذى لتتجدد مكونات أبداننا، وهذا التغيّر في البدن يفيدنا أن ذواتنا بتجاربها وما تحب وما تكره لا يمكن أعتبرها مجرد أجساد، وإلا كانت تلك الذوات تتبدل مع الزمن، لأن جسد الواحد منا يتغيِّر بمرور الزمن، أما ذواتنا فهي واحدة مُذ كنا أطفالا، كخيطٍ منتظم، تتراكم فيه الخبرات والذكريات، إضافة إلى أنا الواحد منا لو فقد جزءًا من جسده فسيبقى هو هو، ينادى باسمه، ولن تنقص (ذاته)، فذاته ليست مجرد جسده، ولا يمكن أن تختزل في بُعده الجسدي المادي.
ويزيد هذه الحقيقة وضوحا كذلك.. أننا لو نظرنا بنظرة مادية للأشياء لوجدنا أنّه تجمعات من الذرات ليس لها ذوات مستقلة, وستكون أنت وغيرك سواء, وبل لن توجد تعبيرات أصلا مثل أنا وأنت, وستغيب بناء على ذلك مسؤوليتك كذات عن أفعالك, إلى غير ذلك من الآثار الضخمة التي تبرز وضوح هذه الحقيقة, وهي أنّنا ميّزنا بالذاتيّة التي تدرك بالوعي.
سبحان الله الذي خلقنا وخلق أرواحنا
يقودنا دليل الوعي إلى يقين بأنّ الله تعالى بقدرته خلق ذواتنا الواعية، وخلق الوعي الذي يحصل بتفاعلها مع أجزاء الجسد, ليضفي علينا معنى الذات وتميّزها عن غيرها
وهذا القدر الذي دلّ عليه العقل جاء به النقل أيضاً عندما أمرنا بالتفكّر في أنفسنا, وأرشدنا للعلم باسم ما يؤثّر في وجود الوعي وأنّها مخلوق اسمه الروح, فقد أثبتت النصوص الشرعية وجود الروح، وأنها شيء آخر غير الجسد، ولكنها تتفاعل مع الجسد تفاعلاً نشهد آثاره, كما ظهر من دليل الحياة السابق ومن هذا الدليل وغيره, وإن كنا لا نعلم تفصيلاً كيفيات هذا التفاعل، كما قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.
وسبحان من خلق وأبدع، ووضع بين جنبينا ما يذكرنا بفقرنا له، ويفتح لنا آفاق التفكر والتطلع لتلبية حاجات هذه الروح المعنوية، لنسعى في تزكية أنفسنا فنفلح {قد أفلح من زكاها} …
لقد أقسم الله ﷻ بهذه النفس، وأخبرنا أنه سواها: {ونفس وما سواها}، وأرشدنا إلى التفكر في هذه النفس فقال: {أولم يتفكروا في أنفسهم} والتفكر في وعيها من أعظم التفكر.. نعم أنت تحس بذاتك في كل لحظة ومع كل نفَس تتنفسه.. مع كل خطوة تقدِم عليها أو تحجِم عنها, تستشعر في ذلك ذاتك وحريتك… ولكن هل أعطيت تجربة الوعي هذه حقّها من التفكّر؟
وأخيراً..
لا يقف العجب عند أصل ظاهرة الوعي, بل يمتد الأمر إلى ما يتعلّق به الوعي مما سنقف معه بالتفصيل في مقالات لاحقة, فالوعي نافذة على عالم آخر غير ماديّ, من المبادئ العقلية التي يقوم عليها التفكير العقلاني والقيم والأخلاق وغير ذلك.. وكل ما في هذا العالم الذي نراه من هذه النافذة.. لا يمكن أن يفسّر بمادة عمياء أو أحداث كهربائية وكيميائية لا معنى فيها ولا غاية لها.. إنّه وجود مصدره من له العلم والحكمة والإرادة والقدرة.. إنّه الله سبحانه .
⇐ منقول من : صفحة المُيسّر في تعزيز اليقين