عرض ونقد

هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟

بسمِ الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث بالحكمةِ والبُرهان، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبعهُ بإحسان، أمَّا بعد:

فمنَ الأسئلة كثيرةِ الورودِ على أذهان النَّاس؛ مسألة: هل الإنسان مسيَّرٌ أم مخيَّر؟، إذا كان الله قد كتب علينا كل شيءٍ كتابةً مُسبقة، أليس من الظلم أن يحاسبَنا بعد ذلك عليها؟، أليس الإنسان وفق هذا مجبورٌ على ما يفعل؟.

وحتَّى نُحسّن تصوُّر المسألة وإجابتها، سنناقشها -بإذن الله- وفق ٣ عناصر:

  • معنى التَّخيير والتَّسيير.
  •  هل يُنفى “التخيير والتسيير” مطلقًا؟.
  • ذكر أسسٍ مهمَّة في دفع التعارض بين الشَّرع والقدر.

ما معنى التخيير والتسيير؟

يُقصد (بالتَّخيير والتَّسيير) ما يتعلَّق بعموم أفعال الإنسان وسلوكه في حياته “خيرِها وشرّها، هيِّنها وعظيمِها”، هل يفعلها بإيعازٍ ذاتيٍّ منه يشعرُ فيها بإرادته التامَّة؟، أم هو فيه مُجبر؟.

فالتخيير -مثلًا-، يُقصد به: الأفعال المحكومة بالإرادة الحرَّة، كأكل الإنسانِ وشربه وبيعه وشرائه، وما شابه ذلك، ممَّا الأصل فيه أن الإنسان يختارُ مسبقًا هل يُريد أن يفعله أم لا؟، ولا تكون النتيجة حينئذٍ بالرفضِ أوِ القَبول إلَّا مبنيةً على إرادةٍ منه، يعلمُ حقيقتَها وحقيقة إدراكِه لها، وأما التَّسيير: فهو على النَّقيضِ من ذلك ممَّا خرج عن قصدهِ وإرادته من الأفعالِ والأقوال، كولادةِ الإنسان وموته، وما شابه ذلك.

يقول ابنُ القيِّم -رحمه الله-: (فإنَّ الله فطر عبادَه على التفريقِ بين حركة مَن رُمي به مِن شاهق، فهو يتحرك إلى أسفلَ، وبين حركةِ من يرقى الجبلَ إلى عُلُوِّه، وبين حركة المرتعِش وبين حركة المُصَفِّق، وبين حركة الزاني والسارقِ والمجاهد والمصلي، وحركة المكتوف الذي أُوثِقَ رِباطًا وجُرَّ على الأرض، فمن سوَّى بين الحركتين فقد خَلع رِبقة العقلِ والفطرة والشِّرعة من عنقه)[1].

هل يُنفى التخيير والتسيير مُطلقًا؟

حتى نُحسن فَهم المسألة، ينبغي أن نعيَ الأصل الذي خُلِق عليه الإنسان، وهو حاكميَّة الإلٰهِ عليه، وعدم خروجهِ عن سُلطانه، فإن أقرَّ هذا الإلهُ للإنسان إرادةً يستشعرها الأخيرُ في نفسه واختياراته فإنَّهُ يقرُّها بحدودها، دونَ أن تخرجَ هذه الإرادة عن مشيئة هذا الخالق وإرادته.

إذا فَقِه الإنسانَ ذلك، أدركَ حينئذٍ أنّه لا يُشترط (عدمُ التلازم) بين التخييرِ والتسيير في حياته، بمعنى: أنه لا يُنفى التسييرُ بإطلاق، ولا التخيير بإطلاق، بل هناك جوانبُ تجمع بينهما، ستتَّضح حين يُدرك حقيقةَ علمِ الله بأقدار الخلق وكتابته -عز شأنه- لذلك، لماذا؟ لأن الإنسان الفَطِن سيعلم -بداهةً وضرورةً- استحالةَ أن يكون الإنسان مُخيَّرًا بإطلاق، بحيث لا تتدخل الإرادة الإلهيَّة في شؤونه مُطلقًا؛ لعلمهِ أن ذلك خارمٌ لسُلطان الإله -عزَّ شأنه- ولحكمته في تدبير خلقه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}[البقرة: ٢٥١]، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}[سبأ: ٣]، كذلك سيَستبعدُ تلقائيًّا أن يكون الإلهُ ظالمًا بإجباره الخلقَ على أفعالهم: علمًا منه بكمالِه وكمال صفاتِه، فما هي النقطة المفصليَّة التي أحدثت سوءَ الفهم هذا؟.

تكمنُ النقطة بإيجازٍ في خلطهم بين عِلمه -عز شأنه- وكتابتِه المُسبقة للأقدار، بأنَّ ذلك يعني إجبارَهم على أفعالهم، فهل هذا صحيح؟، يُجيب الإمام النووي في شرحه على صحيح مُسلم، فيما نقله عن الإمام الخطَّابي -رحمهما الله-، إذ قال: (يحسَب كثيرٌ من الناس أن معنى القضاء والقدرِ إجبار الله سبحانه وتعالى العبدَ وقهره على ما قدَّر وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معناه الإخبار عن تقدُّم علمِ الله سبحانه وتعالى بما يكون من أكسابِ العبد وصدورها عن تقديرٍ منه)،[2] وذكر ابن حجر الهيثَميّ في شرحه على حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (والقضاءُ علم الله أولًا بالأشياءِ على ما هي عليه، والقدَر إيجاده على ما يطابقُ العلم)[3]، وخُلاصة هذه الفقرة، تتَّضح في:

أولًا: أنَّ الله “يعلمُ ما كان وما يكون وما لم يكنْ لو كانَ كيف يكون”، علمًا سابقًا لا سائقًا.

ثانيًا: أنَّه -عز شأنه- من خلالِ عِلمه هذا (كتَبَ) أفعال الخلائق وأقدارهم منذ خلقهم إلى قيام السَّاعة، بناءً على علمه السَّابق فقط بما ستؤول إليه أفعالُ العباد مما هو داخلٌ في صُلب اختيارهم، لا إجبارًا وسَوقًا؛ لكونِ هذا المعنى الأخير مما يطعنُ في العدالةِ الإلهية المعلوم بالعقل والفطرة نزاهتُها.

ثالثًا: “المشيئة”، وتدلُّ على أن ما يقعُ من المعاصي والطاعاتِ يقع بمشيئة الله -عزَّ شأنه- لحكمةٍ يعلمها هو؛ لأن الخَلق مهما كانت لهم مشيئةٌ؛ إلاَّ أنها لا تخرج في حقيقتِها عن مشيئة الله -عز شأنه-، وبالإمكاِن الرجوع إلى هذه المقالة لتفصيل الفرق بين المشيئتين وحدودهما: [كيف نجمع بين إرادة الله الشاملة وإرادة المخلوق].

أسسٌ مهِمّة في دفع التعارض بين الشرع والقدر:

أولًا،ثبوت العدل الإلهي: وذلك بأن يُدرك الإنسان أنَّ صفات الكمال التي يُنزِّه نفسَه عن نقيضها، فخالقهُ أولى بها، استنادًا على القاعدة العقليَّة المسمَّاة بـ: قاعدة قياس الأولى، وملخَّصها: أنَّ ما ثبت للموهوبِ من صفات الكمالِ فالواهبُ أولى بأن يتَّصِفَ بها، إذ لا يُنزَّهُ المخلوقُ التَّابع بصفةٍ معيَّنة، ويوصَم خالقهُ بها، كما أنَّ اعتقادَ كمالِ الإله المُطلقة في كل صفاته، هي أساسٌ تُدرك الفِطَر السليمة حقيقتها، علمًا منها بأنَّ أيَّ نقصٍ في هذا الإله؛ سيُنزع بها عنه صفة الألوهيَّة [4]، كما أثبتت الشريعة في نصوصها المقدَّسة كمال عدلهِ سُبحانه بما لا يُناقض علمَه السَّابق بأفعال العباد، إذ قال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ} [آل عمران: ١٨٢]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:٩٠].

ثانيًا: حين علمنا أن الله لا يُساوي الأخيار بالأشرار في المآل، كما قال في كتابه:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَالَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ}[القلم:٣٥-٣٦]، فمِن تمام عدلهِ كذلك؛ أن يمنع عقاب أيِّ مخلوقٍ على شيءٍ ليس فيه قدرة ولا اختيار،{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة: ١٤]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: ١٤]، فهل من العدلِ أو “العقلِ” أن يجعل الله الحاكميَّة يوم القيامة بعد إذنه إلى الإنسان وهو مُجبر؟، كيف سيحاسِب الإنسان نفسهِ على أفعالهِ إن اعتقدَ إجبارَ الإله عليه فيها؟، علاوةً على إدراك هذا الإنسانِ في ذاتهِ حقيقةَ أنَّ كُلَّ فعلٍ قد فعلهُ في الدُّنيا إنَّما فعلهُ على علمٍ وإدراكِ واختيارٍ حُرّ، إدراك لا يُمكن أن يأتي في ذهن “العقلاء” خلافها أبدًا.

ثالثًا، الضرورة الفطرية بالشعور بالاختيار: لن يتساءل -عاقلٌ- غالبًا عن حقيقة تسييره وتخييره في أفعاله وسكناته وحركاته، لعِلمه بأنَّ الدليل الأبرز في هذه المسألة هو “التجربة، والمشاهدة، والشُّعور”، فلا أحد سينكر حقيقة أنَّهُ إذا أراد أن يفعلَ فعلًا مما هو داخلٌ ضمن إرادته الحُرَّة بأنَّ ذلك قد تمَّ إجبارًا لا اختيارًا منه، كما أنَّ شعور الإنسان بالفرقِ بين فعلهِ الشيء عن اختيارٍ أو اضطرار ممَّا لا يُتكلَّف عناء التدليل عليه؛ لدخوله في صميم ما يشعر الإنسان به في ذاته، ويُدركه عقله المُميِّز للأفعال الاختيارية والاضطراريَّة:

الاختياريَّة: كأكله وشربه، ووقوفه وقعودِه، وتأمُّله وتفكُّره، وقراءتِه وكتابته، وقراراتهِ وتنفيذهِ لها… الخ ذلك.

الاضطراريَّة: كالشعور بارتعاش اليد -مثلًا-، وولادته ووفاته، وما شابه ذلك، مما هو خارجٌ عن إرادة الإنسان وإنِ ابتغى غيرها.

رابعًا، أهميَّة رد المتشابه إلى المحكم: ومعنى ذلك -في مسألتنا هذه-: أن يسترجع الإنسان الأصلَ الرَّكيز فيه؛ وهو جهالته بكثيرٍ من أمور حياته، مما لا ينبغي أن يُقحِمَ عواطفَهُ فيها دونَ علمٍ مُحكم، علمًا منه -فطرةً وضرورةً- وجوبَ أن يرجع في كل ما قد يُشكل عليه إلى الأصل الأوَّل المتين عنده –كما في مسألتنا هذه-، وهي: كمال صفاته -عز شأنه- في قضائه وقدره وكمال عدله، وأنَّ عدمَ علمه بشيءٍ ما لا يعني افتقارَ ذلك الشيء إلى الحكمةِ فيه، أو إلى العدالة كذلك، رجوعًا إلى حقيقة جهالتهِ وقلَّة بصيرته.

هذا، وأختمُ بأنَّ الحصيفَ هو من أدركَ أصولَ عقيدتِه فبنى عليها، وكمالَ خالقهِ فأرهقَ عقلهُ وبدنهُ في سبيلِ بلوغِ ما يُمكنهُ بلوغه من العلمِ به، دونَ أن يركنَ إلى شُبهةٍ وإن أقضَّت “جهالتهُ” إلاَّ أنّ عَوْدُهَا إلى مُحكمُ عَدلِ اللهِ أولى؛ إنزالًا لنفسهِ منزلتَها الحقيقيَّة أمامَ كمالِ خالقه -سُبحانه-؛ إنزالًا يُحرِّضه على مزيد التعلُّم واستمرار الطَّلب، استغلالًا لقُدرةٍ يجدُها في نفسه، وافتقارٍ يسعى لسدِّهِ بمن كان هو الغاية، وإليه المصير.


[1] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم -رحمه الله-، ص ٢٠١.

[2] النووي على صحيح مسلم: ١/ ١٥٤ و١٥٥.

[3] فتح المبين بشرع الأربعين النووية: ص ٦٤.

[4] للاستزادة، راجع: كتاب الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، لـ د. سعود العريفي.

الكاتب: خلود القرني

المراجعة: كرم شامية - مها السفياني

التدقيق اللغوي: فاطمة الزعبي

التصميم: ندى الأشرم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى