جاء الإسلام ومجتمعاتُ الشرقِ والغربِ تعاني من كافةِ صور البغي والعدوان والإفساد في الأرض، فجاءت تعاليمه تبين عوار الروابط الأرضية والقيم الوضعية التي كان عليها الناس، ولتضيء الطريق للمسلم وترسم له الصورة الـمُثلى لما يجب أن يقيم مجتمعه عليه.
ولم يكن كافيًا أن يعرف المسلم الأصول البانية لمجتمعه معرفة نظريةً ولو انغرست في قلبه؛ بل أراد الله أن يُقِيم له نموذجًا فعليًا على الأرض ليكون دليلًا لما يريده من خلقه، فأسس الرسول ﷺ مجتمعًا متفردًا تمثلت فيه أحكام الإسلام قانونًا حاكمًا، وظهرت من خلاله في المجتمع المسلم، ومنه انطلقت الحضارة الإنسانية الصالحة التي ارتقت بالإنسان ورفعته بإيمانه إلى السماء، فارتفع ببنيان الأرض إلى قممها.
فما الذي تميز به المجتمع المسلم من خصائص؟ وما القيم التي يقوم عليها؟ وما دوره في حياة الأمة والأفراد؟
إن التفصيل في عنوان هذا المجتمع ومضمونه لن تفي بحقه سطور مقالة قصيرة، لذلك ستكون السطور القادمة بمثابة رؤوس أقلام وأمثلة مما يتفرد به هذا المجتمع.
خصائص المجتمع في الإسلام:
تميز المجتمع المسلم بعدة خصائص أساسية كان أهمها:
- ١- عقيدة التوحيد أساسه: لا يقوم المجتمع في الإسلام على أساس قبلي أو عرقي؛ بل هو تجمع لأسر مسلمة آمنت بالله ربًا ورضيت به حكمًا، ولكنه في الوقت ذاته لا يمنع أحدًا من الانضمام إليه من غير المسلمين، ليستظلوا بظلال الشريعة وينعموا بحسن رعايتها.
ووجهة هذا التجمع واحدة، وسبيله واحد، وهو منهج النبي ﷺ وسبيل المؤمنين، فلا يتطلع لرضا شرقٍ أو غرب ولا يخشى أحدًا إلا الله، مما يجعل أفراده أحرارًا أعزة، ذوي نفوس كريمة لا تنحني لأحد غير خالقها، ولا تقيم لغير شرعه اعتبارًا.
تحدد العقيدة للمسلم هويته وترسم له معالم الطريق الذي يسلكه، فلا تزعزعه شبهات المبطلين ولا تصرفه عن مهمته مناهج المنحرفين؛ لأنه يعلم أن شهادته بـــ (لا إله إلا الله) لا تقتصر على التصديق بمنهج ربه القويم ونفيه الحق والصواب عن كل ما يخالف ذلك؛ بل توجب عليه إقامةً لذلك المنهج في قلبه وعلى أرضه.
كما أن هذا الأساس المتفرد للمجتمع المسلم يجعل هذا المجتمع قابلًا للنمو والزيادة والثراء في أفراده وفي طاقاته وفي عطاءاته المتنوعة؛ إذ يُقبل كل من ينضم إليه مسلمًا موحدًا منتظمًا في صفوفه العاملة، فتتجدد به الدماء وتزداد به الأمة بذلًا وعطاء. - ٢- الشعائر والعبادات أعمدته وأركانه: لا يكون المجتمع مسلمًا كما أراد الله إلا إذا أسلم وجهه لله، فأقام شعائر دينه كما فرضها الله، وجعلها ركنًا من أركان بنائه الممتد نحو السماء.
فالمجتمع المسلم يعرف أن لا بقاء له ولا ثبات لبنيانه دون إقامة هذا الدين عبادة وشعائرًا؛ لأنه قد قام منذ أول يوم على الاستسلام والخضوع لمولاه، وآية ذلك الخضوع هو قيامه بما افترضه عليه من عبودية حقة تعظم فيها الشعائر، ويظهر بها الإيمان خلقًا وعملًا.
وأولى تلك العبادات وأكثرها أثرًا في حياة المجتمع المسلم فريضتي الصلاة والزكاة اللتين خصهما الله بأمر الإقامة والأداء في أكثر نداءات أهل الإيمان؛ لأن بهما تقوى صلة العبد بربه فيبقى مستقيمًا مهتديًا بهداه، وتتزكى نفسه زكاةً يأخذ منها المجتمع حظًا وافرًا.
وذلك حين يؤدي حق إخوانه فيما آتاه الله فتتقوى الصِلات بين عباد الله المؤمنين، وتتشكل بهم قوة الإيمان الدافعة لإحسان العمل وعمارة الأرض كما يريدها الله. - ٣-القيم والأخلاق جدرانه: تلك خصيصة اختص بها المجتمع المسلم وتميز بها عن سائر المجتمعات؛ إذ صارت القيم في أغلب المجتمعات نفعية ونسبية تتغير باختلاف الزمان والمكان والأحوال؛ بل والأشخاص والنفسيات.
أما المجتمع المسلم فقد علَّمه ربه أن أخلاقه لا تنفك عنه حتى مع أعدائه وخصوم دينه، وفي أحلك أوقات الشدة والبأس، وقد رسم الله في أكثر سور القرآن وآياته ملامح ذلك المجتمع بآدابه وأخلاقه ونظمه العامة، وقوانينه في حماية تلك الأخلاق.
وقد اختصت سورتي النور والحجرات بآداب تحدد علاقة المسلم بأخيه المسلم، وترسم حدود التعامل بين الجنسين وتراعي حرمات البيوت، كما ترتب عقوبات رادعة على من يتجاوز تلك الحدود الضابطة مع التغليظ على من يريد اختراقها أو توهينها في المجتمع.
ومن خلال تلك الأخلاق والآداب التي يمتثلها المجتمع المسلم طاعة لله، يُحفظ للفرد أيًّا كان موقعه حقوقه الواجبة وتُراعى مشاعره وتوجه مواهبه وطاقاته، ولا يستثنى منها أحد كالنساء وأصحاب الأعذار والحاجات، فالجميع مقدر ومحفوظ الكرامة في ظل قيم الإسلام الحاكمة، وهذا مما يوفر على المجتمع طاقته وفكره، فلا يضيعها في محاولة الوصول إلى حقوقه الأساسية المكفولة له بكونه إنسانًا كما يحدث في مجتمعات اليوم التي انحرفت عن الهدى؛ بل توجه تلك الطاقة وتصرف فيما ينفع نفسه وأمته، وبما يُصلح مجتمعه ومجتمعات الأرض من بعده. - ٤-الوحدة لحمته: يبدأ المجتمع من الفرد المسلم، يقيم بنيانه الإيماني على نور من الله ويؤكده بأداء فرائضه الإيمانية وحقوقه نحو نفسه ومن يعول، فإذا استوى بنيانه قائمًا كان عليه أن يمد سوقه للآخرين ويطرح ثمره لإخوانه من أهل العقيدة، ثم لا يمنعه كذلك عمَّن يصل إليه في سائر مجتمعه.
فالمسلمون بناء واحد يرتفع بالجميع، ووصفه رسولنا الكريم ﷺ بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، لذلك جاءت المؤاخاة في مجتمع المسلمين الأول ترسخ تلك القيمة وتُعلي من شأنها في المجتمع المسلم.
وهكذا يتلاقى الأفراد على طريق واحد، تجمعهم الغاية الواحدة وتشدهم الآصرة المشتركة وتعمق صلاتهم بما يقوم بينهم من تراحم وتكافل، فترتفع العلاقة إلى أخوة الإيمان النابضة بحب في الله، والتواصل من أجله والتضحية في سبيله.
- ٥-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سوره وحصنه: هذه الركيزة هي السياج الحامي للمجتمع المسلم، وهي أساس خيرية هذه الأمة ومنزلتها بين غيرها من الأمم. فبينما تطلق المجتمعات الأخرى حرية أفرادها بلا ضابط فيما يخص الأخلاق والدين وتنتزعها منهم فيما يخص الدولة والقانون، يحرص الإسلام على أن يمنح أفراده حرية الفعل والأداء، ولكنه في المقابل لا يتساهل مع مروجي الشبهات أو مطلقي الشهوات، لأنه يريد المجتمع المتطهر الذي ينشغل بأداء أمانته، وليس بقضاء شهواته دون ضابط أو تمييز.
لذلك يحث أفراده على القيام بتلك الشعيرة بكافة صورها حفاظًا على سلامة المجتمع، وعلى قيمه أن تتصدع، وعلى أفراده أن يجتذبهم إلى صفوفه شيطانٌ من الإنس أو الجن.
القيم التي يقوم عليها المجتمع في الإسلام:
يحرص الإسلام على التزام مجتمعاته بقيم أساسية منها:
- ١- العمل والإنجاز: لا يعرف المجتمع المسلم السلبية والقعود والتهاون في أداء الواجبات، فحتى إن قصَّر بعض الأفراد، فالمجتمع بمجموعه يعرف أن دوره في قيادة العالم بمنهج ربه يبدأ من عنده ببذله وسعيه اليومي، وبالفسائل التي يغرسها في طريقه غير مبال بما يثبطه، أو يقلل من جهده أو يُيئسه من الأثر أو النتيجة.
وقدوة ذلك المجتمع هو نبي الإسلام ﷺ الذي لم يتوقف يومًا عن مهمته في الدعوة والبلاغ إلى أن أداها كاملة رغم كل ما لقي في سبيل أداءها من كبد وأذى، ثم لا ينسى في عمله الإخلاص والإحسان؛ لأنه يشاهد الله مشاهدة قلبية، كما يعلم أن وجوده في الدنيا هو من أجل العمل {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فلا يكون همه اقتناص المتع أو التوقف في منتصف الطريق للتلفت والتحسر على فوات بعض الحظوظ التي ابُتلي بها غيره، ولا بأس لديه ببعض ما يريح القلب ويجدد النشاط ويزيد الهمة مما أحل الله، لكنه لا يترك نفسه عبدًا لتلك المتع والشهوات بلا انضباط بزعم الترفيه؛ إذ لا ينبغي الترفيه إلا لمن استفرغ الوسع وبذل الطاقة واحتاج إلى ترويحة يعود بها يقظًا منتبهًا للطريق. - ٢- العدل والشورى: من المبادئ الكبرى التي بنى عليها الدين العدل بين الناس جميعًا “ {لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ}لذلك حرص المجتمع المسلم على تلك القيمة وجعلها لا تنفك عنه بحال، فهو يعدل بين كافة الفئات والطبقات، فلا يرفع أحدًا فوق قدره، ولا يزدري أحدًا أو يستبعد أحدًا من عطاءه استنادًا إلى لون أو عرق؛ بل شعاره {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّـهِ أَتْقَىٰكُمْ}.
أما الشورى فهي قرين العدل الذي يكتمل به الإطار الحاكم للمجتمع، وهي الأمان من الاستبداد الذي تعرضت له سائر المجتمعات التي طرحت منهج الله وراء ظهرها واستبدلت به الأهواء والنزعات.
ولأن الله قد قسَّم الأخلاق والعقول فقد أوجب على المسلمين التشاور وأخذ الخبرة والفكرة ممن يملكها، وفي هذا حماية للمجتمع من الوقوع تحت استبداد فرد أو جماعة لا ترعى في الله حقًا، وقد استشار خير البشر أصحابه استجابةً لربه تعليمًا لرعيته، لذلك كان مجتمعه عصيًا على أعداء الله، قويًا بتماسكه وشعوره بالقيمة والتقدير من قائده، فأخرج للدنيا قادة عظامًا ضربوا المثل والقدوة في طريقتهم وعدلهم. - ٣- الحرية والمسؤولية: لأن الله خلق الإنسان حرًا كريمًا ومنحه الاختيار، فقد جاء الإسلام ليبقي على تلك القيمة ويجعلها أساسًا للتكليف ولأداء الواجبات، لذلك كان المجتمع المسلم الذي يقيم شعائر دينه لا يعتدي على حرية أفراده ولا يقيدها إلا بما يقيده به الشرع من حدود تمنع التجاوز والاعتداء، أما دون ذلك فلا إكراه ولا استضعاف؛ بل رعاية وإنصاف.
ولا ريب أن تلك الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع المسلم ترفع من شعور المسؤولية لديه وتدفعه لبذل أقصى جهد لنفع الناس وخدمتهم بما يملك من طاقات ومواهب، ومن ثم تتكامل المواهب وتتنوع مجالات الإسهام حتى تظهر أكمل صور الحضارة التي تعرف لله قدره وتخدم الإنسان المستخلف في أرض الله، كما حدث في عصور حضارة المسلمين، وهو ما يخالف الحضارة المادية التي لا تعرف الله ربًا ولا تُعنى إلا بإطلاق شرورها على الإنسان المستضعف.
وإن تلك الحرية التي ترتفع بها كرامة الفرد في المجتمع المسلم تحمله على الولاء لهذا المجتمع وللأمة بأسرها، فلا يقبل أبدًا أن يمتطي ظهره أحد أو يعتدي على أمته معتد، فيقف له بالمرصاد، ويقف بإيمانه وقيمه وكرامته المرفوعة حائلًا بين مجتمعه وبين أعداء أمته أن يخترقه أو ينفذ إليه أحد، وذلك أثر شديد الأهمية والقدر لتلك القيمة العليا في مجتمع المسلمين.
الدور الذي يقوم به المجتمع في الإسلام:
١-وحدة مصغرة للأمة: تتكون أمة المسلمين من مجتمعات مسلمة لها صبغة واحدة وإن تعددت ألوان النسيج، تشترك في أداء الشعائر وإقامة العبادات كما فرضها الله، وتلتقي زمانيًا عبر مواسم الخير كما في رمضان والأعياد، وتلتقي مكانيًا في شعيرة الحج، فتمتن الأواصر وتقوى الصلات بين مجموع الأمة العابدة لربها، الخاضعة له المبلغة عنه.
ومن خلال هذه المجتمعات تتبادل الأفكار وتتكامل الطاقات، وتقدم الأمة رسالتها الحضارية لغيرها من الأمم.
٢-خط دفاع عن الأمة: إن الأمة المسلمة معرضة للاعتداء من خصومها، وحدث ذلك كثيرًا في تاريخ هذه الأمة، لكنها كانت تستعيد مكانتها وتعود أقوى مما كانت بفضل مجتمعاتها التي تصمد وتقاوم وتحافظ على مقومات بقاءها.
لذلك كان شغل خصوم الأمة بعد تجاربهم الخاسرة أن يخترقوا حصونها ويمزقوا أواصر مجتمعاتها حتى لا يبقَ لها من رافد يمدها بالترياق إذا سقطت، وإن سبيل بقاءها حية هو تلك المجتمعات المؤمنة التي تعرف آفاتها فتنتزعها وتراجع مسيرها فتعدله، حتى تعود إلى سابق عهدها في القيادة وريادة الأمم.
٣-مقوم لصلاح الأفراد: رغم المسؤولية الفردية التي قررها الإسلام، فإنه قرر كذلك أن الإسلام دين جماعي تتوحد فيه القلوب والصفوف في الصلاة الجامعة، وتلتقي فيه الأرواح في غيرها من العبادات والشعائر، وهذه الوحدة وهذا الاجتماع المطلوب على الطاعة يشد المسلمين جميعًا بخيط معنوي من التقوى وإرادة الآخرة؛ إنه التواصي بالصبر والحق الذي يكون بين المؤمنين فيدفعهم إلى الاستمساك بحبل الله المتين، وإلى مجاهدة النفس والهوى مصداقًا لقوله تعالى{وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
وهكذا تتحدد ملامح المجتمع الذي ينشده الإسلام، وتتأسس به الأمة ويتقوى به الفرد المسلم.
الكاتب: فاطمة عبد المقصود العزب