تعزيز اليقين

الصوم .. عبادةُ الأحرار

جاء الإسلام ليحرر العباد ويعتقهم من رق العبودية لغير الله، ويقطع العلائق ليصلها بحبل الله، فالإسلام ليس دين الرموز ولا طقوس وثنية، لم يعلق مصير العبودية برمز (أيَا كان)، ولم يعلقه بطقس (أيَا كان).

وشواهد القرآن والسنة حرصت على أن تكون عبادة العباد خالصة لربهم دون أي شائبة، وهي كثيرة مبثوثة، ولإن الإسلام دين العتق جاءت نصوصه وتعاليمه تؤكد ذلك، ويتجلى ذلك في رمضان (شهر الصيام)، شهر عتق العباد وتحرير أنفسهم من كل النقائص والرذائل والشوائب التي تشوب طريقهم إلى الله.

وهذا من محاسن الصيام، التي من أدركها وعمل بها، بلغ ذروة العتق.
ولعلنا هنا نطرح سؤالا:

  • كيف نستعيد شعورنا برمضان لنبلغ ذروة العتق؟

الغاية الأسمى التي من أجلها فرض الصيام هي “التقوى”، يقول الله تعالى:ِ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة

والتقوى: هي عبادة ومرتبة عظيمة من أدركها فقد سمى بروحه إلى الجنان، وعند فقه معناها وبلوغ مرتبتها في رمضان ستكون قد أخذت فسحة من وعثاء الدنيا إلى جنة الآخرة.

فالله تبارك وتعالى من عظيم فضله على عباده أن شرع لهم عبادات مكانية و زمانية، تهوي إليها الأفئدة، وتحرك لها الأشرعة، فالعبادات المختصة بالمكان (الحج والعمرة)، والزمانية (شهر رمضان وعشر ذي الحجة).

  • والسؤال الأهم: كيف نحقق التقوى في رمضان؟

تتحقق التقوى فيه، بتحقق أصلين مهمين:

  • الأصل الأول:

(تحرير النفس): وقد كتب في هذا المعنى الأديب محمود شاكر مقالا بعنوان (عبادة الأحرار)، ناقش فيه أعظم مقصد من مقاصد الصيام ألا وهو تحرير النفس المسلمة، وأن الذي يظن أن غاية الصوم هو الشعور بجوع الفقير مخطئ، حيث قال: “ولرأيتهم يبنون فوائدهم وحِكَمهم على غير منطق؛ كالذي يزعمونه من أن الغني إذا جاع في صيامه أحسّ بل عرف كيف تكون لذعة الجوع على جوف الفقير، فهو عندئذٍ أسرع شيء إلى الجود بماله وبطعامه، ثم يزعمون أنّ الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنَّت نفسه، لا أدري أَمِن شماتته بالغني حين جاع كجوعه وظَمِئ كظمئه، أم من حبّه للمساواة في أيّ شيء كانت وعلى أي صورة جاءت! ولا تزال تسمع مثل هذه الحِكَم، حتى كأنّ ربك لم يكتب هذه العبادة إلا ليعيش الفقير وليعيش الغني كلاهما في سلطان معدته جائعًا وشبعانَ!”

وقال: ” تأمل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كلّ رِقّ: من رقّ الحياة ومطالبها، ومن رقّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقّ النفس وشهواتها، ومن رق العقول ونوازعها، ومن رق المخاوف حاضرها وغائبها؛ حتى تشعر بالحرية الخالصة: حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل. فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كُتب عليها فرضًا، وتأتيه تطوعًا؛ ولتعلم هذه النفس الحُرّة أنّ الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحقّ، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق -لا يرضى لها أن تذلّ لأعظم حاجات البدن لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة لأنها أسمى منها، وأراد اللهُ أن يُكرم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر الناس عن ربه إذ قال: «الصوم لي»، فلا رياء فيه لأنه جُرِّد لله فلا يُراد به إلّا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزي به كما يشاء.”

وفي نفس السياق قال شهاب الدين القسطلاني: “اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن خسيس عاداتها، وحبسها عن شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى فى الحديث الإلهى الذى رواه مسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به». فأضافه تعالى إليه إضافة تشريف وتكريم، كما قال تعالى: ناقَةُ اللَّهِ ، مع أن العالم كله له سبحانه.[1]

فنصوص الشريعة الواردة في شأن الصيام تدور في فلك تحرير العبد لنفسه من عوائد النزوات، وترك المحرمات، واتقاء الشبهات، وتقويض الشهوات، وأن الصيام ليس مجرد تبديل لمواعيد الطعام، ولملئ البطن في اليل وإفراغه في النهار، بل هو تعليم وتدريب وتهذيب للعبد على تحرير نفسه لربه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “” أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ “. قَالَ : ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}[2]

وبيّن القسطلاني معنى ” الصوم جنة”: هى بضم الجيم، الوقاية والستر، أى: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفى النهاية: أى يقى صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضى عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصى قولا وفعلا. [3]

ومن التنبيهات النبوية العظيمة التي جاءت بتحرير العبد من المحرمات والنقائص في الصيام، ما أخرجه البخاري في صحيحه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:” مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَه ” [4]

  • الأصل الثاني:

الذي تتحقق به التقوى (مزاحمة الطاعات):

فبعد تحرير العبد لنفسه، الذي يعد بمثابة وضع لبنات البناء، يأتي دور مرحلة الإكساء الذي يكون بمزاحمة الطاعات وبذل الخير، فرمضان كله عبادة ليله ونهاره، نهاره (صبرُ وتصبر و ذكر وتدبر وتفكر)، وليله (قيام وتهجد ودعاء وتلاوة)، فيتخلل ذلك فيض من المشاعر والأحاسيس الغامرة التي تسمو بروح العبد، وتشحن طاقته الإيمانية التي تدفعه دفعًا نحو العلياء، ثم يلين قلبه ويطمئن، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (٢٣) سورة الزمر
وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (٢٨) سورة الرعد

ومن أراد النظر لحال الرسول في رمضان قليقرأ إن شاء، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. [5]

ثم يأتي في آخره العشر الأواخر، العمل فيهن من أعظم أعمال العام كله، فيه الإعتكاف وفيه ليلة القدر العمل فيها خير من ألف شهر، فانظر إلى عظيم فضل الله لعباده أن جعل بعمل أيام معدودات أجر وفضل ألف شهر، اعمل واجتهد و اسعَ واستدرك ما فاتك من الطاعات مما سبق، وسترى سابغ نعم الله عليك بالسكينة والطمأنينة والفضل من لدن رحيم كريم، أخرج البخاري في صحيحه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.[6]

هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حالنا نحن؟ كان يعتكف في رمضان، وفي آخر رمضان له اعتكف عشرين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا. [7]

فالإعتكاف يعطي للمبنى الذي بُني جماليته و روعة روحانيته عندما تخلو مع الله وبين يديه، فتخرج من رمضان وقد عشت في زمن النبوة، وعايشت آثارها وسموت بروحك للجنان، وحققت معنى التقوى والصوم في نفسك، كانت والدتي تقول لي في صغري عند انقضاء رمضان نستلم الجوائز وكانت تعني الجوائز المعنوية _بطبيعة الحال_ فأدركتُ فيما بعد بأنها الطمأنينة والسكينة كل بحسب عمله. وإنها والله لمن أعظم الهدايا والعطايا والنعم من الرحمن، ولكن لا ترجع بعده كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فتزل قدمك بعد ثبوتها، وتذوق السوء بما انقلبت، فاسأل الله تعالى الثبات والتوفيق والسداد.


[1] ص٤٠٤ – كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية – النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

[2] سنن الترمذي في أبواب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في حرمة الصلاة (٢٦١٦) (٣٦٢/٤)

[3] ص٤٠٦ – كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية – النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

[4] صحيح البخاري ( 6057) كتاب : الصوم. | باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم

[5] صحيح البخاري كتاب : فضائل القرآن | باب : كان جبريل يعرض القرآن على النبي. ( ٦, ١٩٠٢, ٣٢٢٠, ٣٥٤٠ )

[6] صحيح البخاري ( ٢٠٢٤) كتاب : فضل ليلة القدر. | باب العمل في العشر الأواخر من رمضان

[7] صحيح البخاري أبواب : الاعتكاف | باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان.

الكاتب: دعاء فؤاد قربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى