بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد..
في البداية يجب إدراك معنى التفسير وماهيته لكي نعلم عن ماذا سنتحدث.
التفسير هو بيان معنى القرآن (كلام الله عز وجل) .
- وبيان القرآن على نوعين:
- إيضاح المعنى.
- تحقق وقوع ما أخبر القرآن عنه، كأشراط الساعة، وما أعدّه الله من نعيم الجنة، وعذاب أهل النار، فتحقق هذه الأمور هو أعلى أنواع البيان لها.
نقطة أخرى وهي أن كل معلومةٍ فيها بيان للمعنى فإنها من التفسير، وإذا لم يكن لها أثر في بيان المعنى فهي خارجةٌ عن مفهوم التفسير ولكن تدخل في علوم الآية. وهذا رسم توضيحي لعلاقة علوم القرآن وأصول التفسير بعلوم التفسير .
والمراد هنا ذكر الحدّ الضابط وليس ذكر منثورات هذا البيان، وبهذا فتخصيص العام بيان، وتقييد المطلق بيان ،وذكر سبب النزول بيان، وبيان المجمل بيان، وتفسير اللفظ الغريب بيان وكل ما له أثر في فهم المعنى بيان، وهو التفسير[1]
وقد قسم العلماء بيان القرآن إلى أربعة أقسام [2]:
- قسم لا يعذر أحد بجهالته.
هو ما بُيّن بنفسه ،فيفهمه التالي للقرآن، ويعرف المراد منه. - وقسم تعرفه العرب من كلامها.
وهذا القسم يشمل ألفاظ القرآن، وأساليبه، وأعلمُ الناس بلغة القرآن من نزلَ القرآن فيهم، ولذلك كان بيان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يحويه من البيان الشرعي إلا أنهم حجة في اللغة كذلك إذ هم أهلها. - وقسم يعلمه الراسخون في العلم.
وهو ما يحتاج في معرفته إلى نوع اجتهاد، كبيان المجمل، وتخصيص بعض المعلومات، وإيضاح بعض المشكلات، وهو موضوع كتب التفسير. - وقسم لا يعلمه إلا الله.
من الغيبيات وكيفياتها ووقتها: كوقتِ قيام الساعة ونزول عيسى ابن مريم..الخ
إذًا كيف نفسر القرآن ؟
والجواب قائم على شقين: النقل والاجتهاد.
أما النقل ، فينقسم لقسمين[3]
- الأول: مما لا مجال للاجتهاد فيه (المنقول البحت)، فحظُّ المفسر فيه الرواية فقط، فهو بدءًا بالنقلة من الصحابة إلى من جاء بعدهم.
- الثاني: مما يجوز فيه الإجتهاد، فيدخله النقل من وجه والاجتهاد من وجه، فيكون لأوّلِ من قال به (رأي) ولمن نقل هذا الرأي (نقل)
أما طرق النقل فطريقتان.
- أولها : الإسناد الشفهي وهو ما يعتمد على الحفظ ونقله لمن بعهدهم.
- ثانيها: نقل الكتاب وقد يكون بالسماع أو العرض من نسخة الشيخ.
وكتابة التفسير مستقلًّا بدأت من التابعين في عهد صغار الصحابة، فقد كتب مجاهد بن جبر (ت:١٠٤) تفسير شيخه ابن عباس (ت:٦٨)، وذلك أثناء حياة ابن عباس[4] ، مما يدل على تقدم العناية بكتابة التفسير، وأنّ القصد إليه باعتباره علمًا مستقلا كان متقدمًا أيضا. وكان عبد الملك بن مروان (ت:٨٦) طلب من التابعي سعيد بن جبير (ت : ٩٥) أن يكتب له التفسير، فكتبه له، وذلك في عهد صغار الصحابة، كأنسِ بن مالك (ت:٩٣). ثم وجد عطاء بن دينار (ت:١٢٦) النسخة، ورواها عن سعيد بن جبير.[5]
أما الاجتهاد (القول بالرأي)
فقد كان قديمًا، وبذوره من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما وقع من عدي بن حاتم في آية الخيط الأبيض من الخيط الأسود[5]، وهنا لم ينهه النبي عن الاجتهاد برأيه ولكن بين له مراد الآية.
واستمرّ ذلك بعد عهد النبي للصحابة رضوان الله عليهم، منها رأي أبي بكر في معنى الكلالة وقول سيدنا عمر إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر [٦]. وهكذا الحال عند التابعين فكانت لهم آراؤهم المستقلة والعناية بالتفسير روايةً وتدوينًا ،منهم سعيد بن جبير، مجاهد بن جبر وغيرهم.
وكذلك الحال أيضًا في أتباع التابعين وكمثال قولهم في (سائق وشهيد).[7]
وهنا يجب أن نبين أن الرأي نوعان: محمود ومذموم.
فالمحمود: ما كان من علم أو غلبة ظن، وهذا الذي كان في طبقات السلف الأولى .
والمذموم: ما كان عن جهل أو هوًى ،وهو من كبير المحرمات كما قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}{الأعراف:٣٣}. وهو الذي نهى عنه السلف في آثار كثيرة كقول أبي بكر رضي الله عنه[8] وابن مسعود[9]وغيرهم.
وإنما ظهر الرأي المذموم تبعًا لظهور البدع، فهم يعتقدون رأيًا ثم ينفون الدلالة الظاهرة للآية التي تخالف مذهبهم أو حمل المعنى على ما يعتقدون-وإن لم يكن يراد به المعنى الذي ذهبوا إليه- .وهنا يأتي سؤال مهم، ما حال الاجتهاد في التفسير بعد السلف؟
والجواب لا يخلو من أمرين:
الأول التخير من أقوال السلف والترجيح بينها كمثال صنيع ابن جرير الطبري في تفسيره.
والثاني أن يأتي المفسر بقول جديد لم يسبقوه إليه، والحديث هنا مبني على احتمال القرآن لوجوه من المعاني التي تظهر لقوم دون آخرين، وهذا ثابت كما تقدم، لكن البحث هنا سينصب على قبول هذه المحتملات من عدمه، يمكن تقسيم المحتملات إلى نوعين :
الأول: القول الحادث الذي تحتمله الآية، ولا ينقض أقوال السلف بالكلية، ويدخل في هذا ما ينقض بعضها دون بعض .
الثاني: القول الحادث التي تحتمله الآية، لكنه ينقض أقوال السلف بالكلية ،وفي هذه الحالة لا يصحّ القول الحادث لأنه يلزم منه أن معنى الآية كان مجهولًا عند جميع طبقات الأمة حتى ظهر هذا القول الحادث، وهذا يخالف المنطق العلمي.[10]
وهنا يجدر بنا الذكر السريع لماهية العلوم التي يحتاج إليها المفسر بالرأي، وعلى كل حال، فإن هناك علومًا أساسية يحتاج إليها المفسر، ولا بد من توفرها عنده، وهي تختلف باختلاف الآيات التي يفسرها، فمرّة يحتاج إلى العلم بالسيرة، ومرة يحتاج إلى العلم بالسنة، ومرة يحتاج إلى العلم بنظائر الآية، ولا يكاد يخلو من حاجته إلى بيان معاني المفردات؛ إذ ما من آية إلا وفيها مفرداتٌ تحتاج إلى بيان. وإذا كان قد تبين المراد بالتفسير، والمعلومات التي هي من صلب التفسير، فإنه ستتبين العلوم (أو المعلومات) المطلوبة للمفسر، ومن أهمها:[11]
–التفسير النبوي المباشر: وهو ما يأتي من نص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على التفسير، وهذا مما لابدّ من معرفته معرفةً تامة، لكي لا يناقض تفسير النبي علومًا، وأمثلته كثيرة منها تفسير السبع المثاني.[12]
–معرفة السنة: ولكنها ليس كحاجة الفقيه إليها، والسنة قد تأتي موافقة لمعنى الآية، فتعزز ذلك المعنى، وتزيد في وضوح ذلك البيان. وهذه الموافقة تختلف في الأحاديث، فبعضها يأتي موافقًا للآية في أسلوبها أو ألفاظها، وبعضها يأتي موافقًا لها في المعنى العام. أما غير ذلك مما يقع من استفادات المفسرين من السنة كأن يذكر المفسر ما فيها من تتميم حكم أو موضوع طرقه القرآن، أو غيرها من الاستفادات فإنها تختلف من اختلافها في البيان والتوضيح لمعاني القرآن، وإن كان جهلها لا يؤثر في البيان في الغالب. وكلما كان المفسر بالسنة أعرفَ كانت استفادته منها واستدلاله بها أكثر وأقوى، كما ظهر ذلك جليًّا عند ابن كثير الدمشقي (ت:٧٧٤) في تفسيره.
–أسباب النزول المباشرة وقصص الآي التي يتأثر بها التفسير.
-تفسير السلف.
-معاني مفردات ألفاظ القرآن.
– الناسخ والمنسوخ-باصطلاح السلف- : والمقصود باصطلاح السلف رفع أي معنى في النص بنص آخر، كرفع العموم بالتخصيص، ورفع الإطلاق بالتقييد، ورفع الإجمال بالبيان، والرفع بالاستثناء. ويمكن تسمية هذه الأنواع التي يقع عليها مسمى النسخ [باالنسخ الجزئي]، أما النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين، وهو رفع حكم شرعي بحكم آخر متراخٍ عنه، فيمكن أن يطلق عليه «النسخ الكلي»؛ لأن الرفع فيه لجميع الحكم.
وهنا نجيب عن لماذا التفسير؟
لفهم كلام الله عز وجل والعمل بمقتضاه، فمعرفة مراد المتكلم ضرورة علمية ، وهذا لازم صفات الله من الحكمة والعلم والرحمة بأن يخاطب الناس بكلام يفهمونه معلوم المعنى، وإلا كان إنزال القرآن من العبث الذي ينزه عنه الله عز وجل، وأن غاية القرآن هو هداية الناس للحق وبث الطمأنينة والعكس بالعكس.
ومن المعتبر في الشرع إفهام الدليل وليس مجرد إبلاغه فقط، ولهذا أكد الله على نزول هذا القرآن بلغة العرب بكلام يمكن فهمه وتفسيره.
[1] مفهوم التفسير والتأويل، مساعد الطيار ص٦٥
[2] تفسير الطبري(١/٦٧)، والبرهان في علوم القرآن (٢/١٦٤).
[3] التحرير في أصول التفسير ، مساعد الطيار ص١٩٧:١٩٩
[4] مقدمة جامع البيان في تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري (١:٨٥)
[5] كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم في ترجمة عطاء بن دينار (٦:٣٣٢)
[6] تفسير الطبري (٦/٤٥٧)
[7] تفسير الطبري (٢١/٤٢٣)
[8] قال: «أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي» ورواه بن أبى مليكة، عن أبي بكر، كذلك مرسلا، وقال في متنه: «إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها».
[9] قال (القرآن كلام الله فمن قال فليعلم ما يقول، فإنما يقول عن الله عز وجل)
[10] التحرير في أصول التفسير ص٢٨١:٢٨٣
[11] السابق ص٢١١:٢٢١
[12] تفسير الطبري (١٤/٥١:٥٨)
الكاتب: أحمد مجدي