الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وبعد،
إن الكلام عن أدلة النبوة هو تناول لباب عظيم من أبواب الإسلام، فهو الشق الثاني من الركن الأول للإسلام، فإن المسلم حين يؤمن بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبصحة الإسلام فهو يؤمن بعقيدة راسخة رسوخ الجبال الرواسي، ورسوها مصدره أنها عقيدة قامت على العلم والدليل والبرهان، إن حاله ليس كحال أولئك الذين قالوا: (إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف: 23)، فهؤلاء وأضرابهم حجبوا عقولهم عن النظر في الحق ودلائل صدقه، وصمّوا آذانهم عن سماعه، واكتَفوا بالقعود حيث تاهت عقول آبائهم الأولين، فأنكر القرآن عليهم هذا الجمود، وقبّحه، ودعاهم لإعمال عقولهم والإفادة منها، فقال: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون) (يونس: 16)[1].
فالإيمان بالنبوة قضية تصديقية برهانية، قائمة على أسس عقلية مثبتة، فليست مجرد تسليم محض أو تقليد أعمى، وليست مجرد مشاعر نفسية، وعند تدبر أدلة النبوة؛ نجد أنها ترجع إلى أمرين:
- الأول: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم.
- الثاني: ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجمعهما قول الله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). المؤمنون/68 – 70.
“وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ...) الآيات، فدعاهم سبحانه إلى (تدبر القول)، و(تأمل حال القائل)، فإن كون القول للشيء كذبا وزورا، يعلم من نفس القول تارة، وتناقضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب باد على صفحاته، وباد على ظاهره وباطنه، ويعرف من حال القائل تارة، فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع، لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق، المبرأ من كل فاحشة وغدر، وكذب وفجور، بل قلب هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده، يشبه بعضه بعضا، فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله وحينئذ تتبين لهم حقيقة الأمر وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق”.
ولا نستطيع حصر أدلة النبوة في هذا المقام لذا نكتفي بالإشارة إلى نوعين منها.
الدليل الأول: الإعجاز بالقرآن الكريم
فهو أول دلائل النبوة وأعظمها وأظهرها ظهوراً يفوق ظهور الشمس والقمر، هو القرآن الكريم المنزل على قلب الرسول الأمين، بلسان عربي مبين تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثل سوره فعجزوا وإلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله ومن عليها، فإن النبي أتى إلى الناس بحجة ظاهرة بينة وهو القرآن، وطالبهم بأن ينقضوها وكان خطابه لأهل الفصاحة والعلو في البلاغة منهم ولكنهم مع ذلك عجزوا عجزا مطبقا عن الإتيان بمثل القرآن فإن كان النبي من جنس البشر ولم يخرج في قدراته العقلية والجسدية عن القدرات التي يعرفونها فكيف أمكنه أن يأتي بكلام من جنس كلام البشر ويعجز كل الإنس عن الإتيان بمثله مع تكرار التحدي عليهم؟
ودلالة القرآن على صدق نبوة النبي تقوم على تقوم على أمرين:
الأول: استحالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مصدر القرآن والدلائل على هذا متنوعة منها:
- أن القرآن تضمن أمورا لا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بها من عند نفسه ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيها إلى الذكاء أو الاستنباط ولا سبيل إلى العلم بها لمن غاب عنها بالتعلم عن الأمم السابقة و وقائع زمنه والأمور المستقبلية.
- أن النبي كان أميّا ولم يكن معروفا بكثرة الأسفار ومع ذلك فقد أتى في القرآن بعلوم ومعارف لا يمكن أن تكون متناسبة مع حاله المعرفي.
- أن القرآن تظهر فيه مشاهد كثيرة تدل على أن النبي كان مجرد متلق للقرآن ومبلغ له مثل تكرر كلمة (قل).
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تمر به أحوال عظيمة وأحداث كبيرة ومع ذلك كله لم يظهر من ذلك شيء في القرآن مثل أحداث عام الحزن.
الثاني: ثبوت عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثل القرآن.
وعجز العرب الذين تحداهم النبي بالقرآن عن إتيانهم بمثله دليل كاف على إثبات عجز غيرهم من الأمم لأن عجز أهل الاختصاص عن شيء ما يثبت عجز غيرهم من باب أولى، وليس المراد بالمثلية في التحدي بالقرآن أن يؤتى بكلام مطابق للقرآن في ألفاظه وتراكيبه ومبانيه وترتيب كلماته وإنما المراد بالمثلية المساواة بالقرآن في الفصاحة والبلاغة وقوة البيان ودقة الإحكام وعلو المضامين بأي لفظ عربي آخر أو المجيء بما هو أعلى منه في تلك الأمور، وثبوت عجز العرب والناس لهم بالتبع دليل على أن القرآن خارج عن السنن المعهودة في الكلام فالسنن الكونية جارية على أن الناس كلهم لا يعجزوا عن معارضة كلام من جنس كلامهم إلا أن يكون خارجا عن مقدورهم.
ومما امتاز به القرآن عن باقي أدلة النبوة استحالة التشكيك في ثبوته فهو موجود بين أيدي الناس الأن في مشارق الأرض ومغاربها يستطيعون أن يرجعوا إليه ليتأكدوا بأنفسهم من صدق النبوة، قال ابن الجوزي[3]: “جعل الله سبحانه هذا القرآن معجزاً لمحمد صلى الله عليه وسلم يبقى أبداً، ليظهر دليل صدقه بعد وفاته وجعله دليلاً على صدق الأنبياء، إذ هو مصدق لهم ومخبر عن حالهم”.
الدليل الثاني: الإخبار بالغيوب الصادقة الكثيرة
فمن الدلائل الواضحة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم إخباره بالعديد من الأمور الغيبية مما سيقع في المستقبل مما لا يدخله الإحتمال، والتي أثبتت الأيام والوقائع مصداقيتها، حيث وقعت بدقة على الوجه الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم. كيف لا، وهو الرسول المبعوث من رب العالمين، الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا الاطراد في الصدق مع الكثرة يؤكد أنه لم يأت بتلك الأخبار مصادفة.
- فالكاذب لا يقدم على الإكثار من الإخبار الأمور المستقبلية، لا سيما بلغة جازمة وصريحة.
- والكاذب لا يقدم على الكلام بغير طلب من الناس.
- وإن فعل وأخبر وأكثر فإنه يظهر كذبه.
وحال النبي صل الله عليه وسلم بخلاف ذلك كله.
وهذه الدلالة مركبة من معان هي: – أن النبي صل الله عليه وسلم أخبر بكثير من المغيبات، ووقعت كما أخبر، ثم إنه يقدم على الإخبار من غير طلب – ويتكلم بعبارة جازمة صريحة.
ومن النماذج الجلية على ذلك:
- قوله سبحانه وتعالى (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) الروم، أنزل الله هذه الآيات يخبر بها بأن الروم ستنتصر في أقل من عشر سنين بعد هزيمتهم من الفرس، وبأن ذلك اليوم سيكون فيه نصر للمسلمين على أعدائهم ولم تكن الأمارات والشواهد العقلية تدل على شيء من هذا، لا بالنسبة للروم ولا للمسلمين، فقد كان الروم منهكين، قد غزاهم الفرس في بلادهم وهزموهم وأثخنوا فيهم كما أن حال المسلمين كانت حالة ضعف قبل الهجرة، ولكن وعد الله تحقق، فانتصر الروم على الفرس في أقل من عشر سنين بإجماع المؤرخين، وهزم المسلمون قريشا في بدر في الوقت نفسه.
- إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بظهور الإسلام وعلوه فعن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( شكونا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو الله، فقعد وهو محمر وجهه وقال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما ـ أو قال: ذمة وصهرا ـ، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها، قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها) رواه مسلم
- إخباره أن ابنته فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقا به، فتوفيت بعد أقل من ستة أشهر من وفاته.
- البشارة باستشهاد عددٍ من أصحابه بأسمائهم، وهلاك بعض رؤوس الكفر بأسمائهم وأماكن قتلهم، وكذلك التحذير مما سيحدث في الأمة من الافتراق والبعد عن منهج الله، والتنبّؤ بزوال بعض الممالك والدول من بعده وفتح البعض الآخر، وغير ذلك من الأخبار الصحيحة.
- إخباره بأمور لم تحدث إلا في زماننا مثل الإخبار عن الرعاة الحفاة وتطاولهم في البنيان وعن تقارب الأسواق وانتشار الربا.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه بالعديد من الأمور الغيبية، فلم يخطئ في خبر غيبي، وقد تحقق كثير منها في زمانه، وبعد وفاته، ولا تزال الأيام تكشف عن صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي أخبر به، مما يؤكد صدق نبوته، وصدق ما جاء به عن ربه عزوجل، ولو لم يكن يوحى إليه من علام الغيوب لخالف خبره الواقع ولو مرة واحدة، ولكن هذا لم يحدث قط؛ لأنه لا يقول من عند نفسه، بل يخبر عن الحق سبحانه وتعالى.
والناظر في أدلة نبوة النبي صل الله عليه وسلم يجد أن لها خصائص مميزة أهمها:
- الكثرة: فهي أكثر مما أعطيه أي نبي قبله.
- التنوع: فهي في مجالات متعددة، بعضها متعلق بالأفلاك السماوية، وبعضها بالحوادث الأرضية، وبعضها حسي وبعضها معنوي، وبعضها وقع وانتهى وبعضها ما زال باقيا.
- الحفظ: مع كثرتها فقد نقلت لنا وحفظت، مع تفاوت في درجة نقلها، فبعضها بلغ التواتر، وما لم يثبت منها فقد بين العلماء حاله.
- الظهور والضخامة: فهي من ظهورها لا تحتاج إلى تفكر وعناء، كانشقاق القمر، ونبوع الماء وتكثير الطعام.
- التكامل: أي كما أن كل دليل يشهد على نبوته تجد أن اجتماعها في شخص واحد قاطع لأي شك حول نبوته صلى الله عليه وسلم.
فأدلة نبوة النبي صل الله عليه وسلم أنواع متعددة منها المعجزات والإخبار المغيبات والكمال الشخصي والأخلاقي والتحدي بالقرآن ومع تعدد تلك الأنواع نجد أن كل نوع على حدة يوجد له أفراد كثيرة وأدلة متنوعة مجموعها يثبت هذا النوع، فمثلا نوع المعجزات نجد له أفراد كثيرة منها انشقاق القمر وتكثير الطعام ونبع الماء بين يديه صلى الله عليه وسلم كل ذلك في نوع واحد وهكذا على نفس المنوال نجد باقي الأنواع كل واحد منها له شواهد متعددة مكونة من أدلة منفردة.
فعندما نقول أن أدلة النبوة متكاملة يكون هذا التكامل على درجتين، الدرجة الأولى: بين أفراد النوع الواحد، فنجد تكامل بين تلك الأدلة المنفردة التي تشهد لهذا النوع، حتى يجد الناظر نفسه مضطرا للتسليم بصحته، ثم في الدرجة الثانية نجد التكامل بين تلك الأنواع المختلفة، ما يشهد على أن من اجتمعت له كل تلك الدلائل مثل المعجزات والكمال الشخصي والأخلاقي والاعجاز بالقرآن هو بحق نبي مرسل من عند الله وأنه صادق في كل مايخبر به.
إن اجتماع تلك الدلائل مع بعضها لا يمكن أن يجعله الله تعالى وهو الحكيم العدل في شخص واحد مدع للنبوة فمدعي النبوة يدعي أن الله بعثه فهو إما في أسفل دركات السفه والكذب والسوء أو في أعلى درجات الصدق والكمال الأخلاقي فالتفريق بين هذين المتناقضين من أيسر الأمور، فكون النبي صلى الله عليه وسلم في قمة الكمال الأخلاقي مع التنوع في الدلالة على صدق نبوته وكون الله تعالى كامل في صفاته سبحانه فلا يمكن أن يجتمع ذلك كله في شخص ويكون كاذباً ثم يمده أيضاً بالمعجزات التي تدل على صدقه في دعواه.
فهذه الأدلة هي غيض من فيض من دلائل نبوته، وصدقه في دعوته، وفيها مقْنَع لكل من كان عنده عقل يبحث عن الحقيقة، وقلب سليم يطمح للوصول إليها، والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر مقدمة كتاب دلائل النبوة للدكتور منقذ السقار
[2] الصواعق المرسلة، ابن القيم، ج 2، ص 469
الكاتب: أحمد فوزي
القراءة الصوتية: ماهر غازي القيسي