بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
يقولون:
إبليس لم يسجد لآدم عندما أُمر.
إذن لإبليس إرادة حرة، اختار بها عدم السجود.
إبليس من المنظرين إلى يوم القيامة.
والله يقبل التوبة من عباده قبل الموت .
فماذا يحدث لو قرر إبليس أن يتوب ؟
إما أن يقبل الله توبته ، عندئذٍ يبطل القرآن الذي يتوعد إبليس بالنار .
أو أن يرفض الله توبته ، عندئذٍ يبطل العدل الإلهي .
فاختاروا إما فساد القرآن أو ظلم الإله .
هكذا يبنون الشبهة ، وهكذا يلقونها في عقول الشباب. وللإجابة على هذه الشبهة (الفرضية) سنتناول الآتي والله المستعان:
- – فساد المقدمات وفساد القياس
- – نقض مصدر المقدمة في النتيجة.
- – محركات الأفكار
فساد المقدمات وفساد القياس:
من يقول بهذه الشبهة يبدأ من مقدمات أساسية هي الإرادة الحرة لإبليس والحياة الدائمة له حتى يوم القيامة وغفران الله للتائب أبداً. وهذه الأمور الثلاثة لابد من معرفة جوانبها المختلفة، ولا تؤخذ هكذا.
أولا: طبيعة إبليس: إبليس من الجن بنص القرآن {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف : ٥٠]، وما نعلمه عن الجن هو ما ذكر عنهم في القرآن والأحاديث الصحيحة ؛ وهو أنهم من خلق الله ، أنهم مأمورون بعبادة الله كالأنس، أن لهم إرادة للطاعة أو المعصية، أن منهم الصالحين، ومنهم الفاسدين، أنهم يرون بني الإنسان من حيث لا يرونهم ، أن الأشرار منهم هم الشياطين ، أن الشياطين أعداء بني آدم يوسوسون لهم ويضلونهم ، أن لا سبيل لهم على عباد الله الصالحين والمخلصين. {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر : ٤٠]، أنهم يتزاوجون ويتكاثرون ويموتون.
ولأن عالم الجن يختلف عن عالم الأنس ، فإننا لا نعرف تفاصيل ولا طبيعة هذه الخصائص التي ذكرناها ؛ فلا نعرف مثلاً كيف تكون حياتهم ، ولا طبيعة حركتهم ولا كيفية الولادة ولا خروج الروح . وبالتالي فما نعلمه عنهم إنما نقيسه على ما نعلمه في حياة البشر لأن هذه هي حدود معرفتنا . وبالتالي إذا كانت طبيعة البشر مختلفة ، وحياة البشر مختلفة، فكذلك طبيعة الإرادة الحرة عند البشر تختلف عنها عند الجن، وإن اتفقت في أصل المعنى.
ثانيا: حياة إبليس الدائمة. نلاحظ أن اسم إبليس في القرآن لم يذكر بنصه إلا في سياق الإشارة إلى موقف السجود لآدم ، وأما عند الحديث عن الإضلال والإغواء فالقرآن يستخدم (الشيطان، الشياطين، الجنة)، وهذا يعني أن إبليس شخص مخصوص هو من شهد موقف الأمر بالسجود ، لكن هل هو وحده من يوسوس لكل البشر عبر العصور ؟ تخبرنا السنة والقرآن أن للشيطان عرشاً على الماء يرسل منه جنوده كل يوم لإغواء البشر . وهذا يعني أن الأبالسة كثر، وأنهم يموتون ويتكاثرون ، فلا خالد إلا الله ، وكل من عليها فان . وعقيدة المسلم أن إبليس منظر إلى يوم القيامة وسيموت كما يموت باقي الخلق وأنه عدو لله ولبني آدم وأنه بتكبره اختار المعصية والمعاندة. السؤال إذن هل يمكن له أن يتوب؟ نقول إنه من حيث المبدأ يمكن لأي مخلوق من الجن أن يتوب ويرجع إلى الله، وعندئذٍ لا يكون من الشياطين بل يصبح من الجن المؤمنين . أما بالنسبة لإبليس بالذات فالعقيدة فيه أنه لا يفعل ولن يفعل (كما سنرى).
ثالثا: غفران الله للذنب وقبوله للتوبة له شروط في عالم البشر منها رد المظالم وعدم العودة والثبات على الطاعة، فكيف لا يكون له شروط في عالم الجن ؟ فالقول بقبول توبة الله لإبليس لابد فيها من افتراض الشروط المطلوبة لقبول التوبة، ولا يكفي افتراض التوبة وحدها، وقد أغوى إبليس وأهلك ما لا حصر له من البشر منذ بدء الخليقة ، فكيف يكفر عن هذه الذنوب ؟
وبهذا يتبين أن المقدمات التي بني عليها هذا الافتراض فاسدة ، وغير متكاملة .
نقض مصدر المقدمة في النتيجة.
من يقول إن القرآن سيبطل لأنه إذا قبل الله توبة إبليس ستسقط آيات توعد إبليس بالنار، يناقض نفسه. لأننا نسأله ببساطه : كيف عرفت أن إبليس متوعد بالنار؟ وكيف عرفت أن هناك مخلوقاً اسمه إبليس لم يسجد لآدم أساساً ؟ سيقول من القرآن. نقول له إذن معرفتك اليقينية بصدق القرآن أدت إلى معرفتك اليقينية بوجود إبليس وعصيانه، ونفس هذا القرآن الذي اتخذت منه معرفتك اليقينية هو الذي يخبرك بأن إبليس من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وأنه ومن تبعه في جهنم وبئس المصير، فلماذا لم تؤمن بهذه الآيات كما آمنت بالسابقة ؟ وكيف تنقض الأساس الذي عليه وضعت الافتراض ؟ فتقول بفساد آيات القرآن إذا خالفت مجرد تخيل مشوه لما يمكن أن يحدث لو لم تقبل توبة إبليس؟
وزيادة في تأكيد مصداقية القرآن، نقول لصاحب الشبهة: دعك من إبليس الذي لا تعرف طبيعته، وخذ مثال أبي لهب – وهو بشري مثلنا – توعده الله بالعذاب في نار ذات لهب في حياته، والآيات تتلى عليه، وله إرادة حرة، ويمكنه الاختيار، ويمكنه حتى أن يتظاهر بالإسلام ويقول آمنت الآن، إذن القرآن فاسد لأنه يتوعدني بالعذاب. لكن ذلك لم يحدث طوال حياة أبي لهب حتى مماته. فلما تستبعد ألا يحدث مثله من إبليس وهو أضل وأكفر من أبي لهب ؟ وتبقى آيات القرآن شاهدة على أنها من عند الله حقا . بل هناك أثر ضعيف في السنة أن إبليس قال لموسى و اشفع لي عند ربك ليقبل توبتي ، فشفع له موسى ، فأمره الله أن يذهب ويسجد لقبر آدم لتقبل توبته ، فقال أستكبرت أن أسجد له وهوحي أأسجد له وهوميت ؟ ولم يتب .
محركات الأفكار
إن من يقول بهذا الافتراض هو في الحقيقة مشغول بفكرة أكبر ، وإنما اتخذ مثال الشيطان ليخفي وراءه حيرته في فهم إشكالية الجبر والاختيار. فالمشكلة الحقيقية لديه ليست إبليس ولا غيره، إنما هي كيف يحاسبنا الله على أفعالنا وهو خالقنا وعالم بما نفعل ومقدر لأفعالنا ؟ وهل لنا إرادة حقيقية أم نحن مجبرون على ما نفعل ؟
وهذه المشكلة قديمة جداً، ناقشها الفلاسفة والمفكرون ورد عليها علماء الأديان عبر العصور، ولكن التصور الإسلامي هو الوحيد الذي حل المشكلة. فمن يعترض على قدر الله يقول : إذا كان الله يعلم ما سأفعل غداً ، إذن فهو قرر لي ما أفعله من قبل أن أفعله ، وليس لي أن أغيره ، وسيحدث سواء شئت أم أبيت، فلماذا إذن يحاسبني عليه؟
والخلل في هذا التساؤل هو الخلط بين صفات الله سبحانه وتعالى وحدود البشر. والمعترض هنا كأن يعترض على أفعال ملك من ملوك الدنيا وينسى أنه يعترض على خالق السموات والأرض سبحانه المتصف بالكمال العظيم والجلال الكبير الذي يعجز البشر عن الإحاطة به . ولابد عند تصور هذه المسألة من استصحاب الأصول التالية:
- الأصل الأول : أن الله كلي القدرة، كلي العلم ، متصف بالكمال . وهذه الصفات تعني أنه سبحانه على كل شيء قدير ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه لا يظلم الناس شيئاً فهو الحكم العدل دائماً . ولابد من الإيمان بهذه الصفات معاً. وعلم الله سبحانه يقتضي منه معرفة كل شيء في هذا الوجود فهو خالقه ومدبره فكيف لا يعلم بما يكون فيه؟
- الأصل الثاني : أن علم الله ومشيئته محض غيب للإنسان لا يمكن للإنسان أن يعلم قدر قدرة الله ولا علم الله ، لأن عقل الإنسان محدود وهذه صفات الله سبحانه اللامحدودة ، وأهل السنة يؤمنون أن الله -سبحانه وتعالى-مستعل بذاته ؛ في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه ، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء ، دون تكييف ولا توصيف ، و أن إلى ربك المنتهى .
والطريق الصحيح الذي أرشد إليه النبي ﷺ في ذلك هو أن نعمل ولا نتكل . فعن عبد الرحمن السلمي عن علي – رضي الله عنه – قال كنا مع النبي – ﷺ – في بقيع الغرقد في جنازة فقال “ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار ، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل ؟! فقال “اعملوا فكل ميسر”. وإرشاد النبي ﷺ إلى الطريق الصحيح في التعامل مع التقدير السابق، يتحصل في أنه لا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بما قدره الله عليه في العلم السابق ؛ لكون ذلك أمر غيبي محض وسر بعيد الأغوار ، لا يمكنه إدراكه ، ولا الوصول إليه ، فليس من العقل أن يشغل الإنسان نفسه ، ويجهدها في البحث عما كتبه الله له أو لغيره ، فإنه لن يستطيع الوصول إلى ذلك أبدا ، وعليه أن يشتغل بما يدرك ويتيقن بقدرته عليه ، واختياره له . وقد قال علي رضي الله عنه “القدر سر الله فلا نكشفه” ويعني بذلك : فلا تحاول كشفه ومعرفته، فهو ليس مما يقدر عليه أحد ، ويسمي الطحاوي ذلك بالعلم المفقود ، الذي طواه الله عن كل الخلق ، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن : ٢٦ ] ..
- الأصل الثالث : أن الله ربط كل شيء في الوجود بأسباب خاصة به لا يتحصل إلا بها ، فجرت سنة الله تعالى الكونية على الترابط السببي بين أحداث الكون ، ولا يستثنى من هذه السنة شيء البتة ، فكما أن أحداث الدنيا الطبيعية ، خيرها وشرها ، لا تحصل إلا بأسباب معلومة محددة ، فكذلك أحداث الآخرة ، خيرها وشرها ، لا تحصل إلا بأسباب معلومة محددة .
ومع أن كل أحداث الدنيا مقدرة مكتوبة، فإن الله ربطها بأسبابها ، وعلق حدوثها بتحقق تلك الأسباب ، فكذلك الشأن في أحداث الآخرة ، فمع كونها مقدرة مكتوبة ، فهي مربوطة بأسبابها.
فقاعدة الأسباب إذن، شاملة لكل الأحداث الدنيوية والأخروية ، ولا فرق بينها.
- الأصل الرابع : كما أن الله تعالى علم تفاصيل كل شيء في الوجود وقدره وشاءه ، فإنه أعطى الإنسان الإرادة والاختيار ، فخلقه خلقة مختلفة عن سائر المخلوقات ، بحيث أن كل إنسان يملك إرادة يستطيع بها الترجيح بين الخيارات المختلفة ، وقدرة يستطيع بها التأثير في الأحداث ، وتحقيق الخيار الذي ترجحه إرادته.
والنصوص الشرعية في الإسلام جاءت على هذا الأساس، فتعاملت مع الأفعال الإنسانية على أنها أمور حادثة باختيار الإنسان وإرادته ، وأنها كسب له وعمل من أعماله ، كما قال تعالى :{مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت ٤٦ ] وقال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر :۳۷]، وقال تعالى { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ} [آل عمران: ۱۵۲]
ومن المهم ملاحظة أنه كما أخبر الله سبحانه بأن الإنحراف والضلال كان بمشيئته ، فإنه أخبر أن إضلاله لمن ضل و انحرف إنما كان عقوبة له على أفعاله الصادرة منه باختياره وإرادته ، كما قال تعالى :
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [ النساء : ١٠٠ ]
وقال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
[ الأنعام: ١١٠ ] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[ الصف : ٥]
- الأصل الخامس : أن الإنسان لا يحاسب إلا على أفعاله الواقعة باختياره وإرادته ، وأما الأفعال التي وقعت منه من غير قصد ، كالأفعال الواقعة منه بالجهل والنسيان والخطأ ، أو الأوصاف التي خلقها الله فيه مما لا يتعلق باختياره ، كالطول والقصر واللون والقوة والضعف والصحة والمرض والعقل والجنون وغيرها ، وكذلك الأفعال التي يقهره عليها الناس ، فإن العبد لا يحاسب عليها ، ولا يعاقب على تركها أو فعلها .
- الأصل السادس : ومع كل الأصول السابقة ، فإن الله تعالى لم يترك الناس سدی من غير بيان ولا هدى ، وإنما أبان لهم الحق ، وأنار لهم الطريق ، وأوضح لهم المحجة ، فأرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأقام الأدلة ، ليرشد الناس إلى سبيل الهداية ، ويميزها عن سبيل الغواية . فالهداية الإلهية العامة ، التي بمعنى البيان والدلالة والإرشاد ، ثابتة مستقرة لكل العالمين ، كما قال تعالى : {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [ الشورى : ٥٢ ] وقال تعالى :{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [ النساء : ١٦٥] ، وغيرها من الآيات .
والحمد لله رب العالمين..
الكاتب: أ.د. عنتر صلحي عبداللاه