بسمِ الله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله
علمتُ من منشوراتِها أنها طبيبةٌ مثقفةٌ فأرسلتُ لها على الخاصِّ جملةً من الكتبِ والمراجعِ؛ وقلت اقرأي لربما اكتشفتِ أنكِ على خطأ، فجاءني الردُ السريعُ في العلنِ: “إذا وجدتموني أعبدُ الهاتفَ فانصحوني“.
والحقُّ أني ما كنتُ أريدُ إلا الخيرَ وما كنتُ أريد إلا انقاذَها قبل أن تصلَ لتلكَ المرحلةِ فقلَّما يُجدِي النصحُ في حالٍ إذا عَبَدَ الواحدُ هاتفهُ..
لكنَّ أمثالَها من أصحابِ العقول حسبُوا أنهم وحدَهم مَن خُلقَ لهم عقولٌ، فعمَدُوا على تضخيمِها وإعلائِها حتى جعلوا منها حاكماً على نصوصِ الدينِ وما نتجَ عنها من أحكامٍ، وغاب عنهم أنَّ مِن أهلِ العقولِ أيضاً مَن ذهبتْ بهم عقولُهم نحو عبادةِ الحيواناتِ، والأصنامِ وما هو أقلُّ شأناً من الهاتفِ، بل إنَّ هؤلاءِ العقلاءَ يزعُمونَ أنهُ قد اتسعتْ في عقولهمْ مساحةُ الانفتاحِ والحريةِ وقبولِ الآخرِ إلى حدٍ كبيرٍ لكنها ويا للأسف قد ضاقتْ عن فهمِ نصوصِ الشريعةِ كما أرادَ اللهُ ورسولُه أنْ تُفْهَمَ وأنْ يُعْمَلَ بها وزعموا أن في ذلك انتقاصاً مِن عقولِهم وسلباً لحقِّهم في العملِ بما تُمليه عليهم إرادتُهم، والحقُّ أنَّ رفعهم للعقلِ والإرادةِ فوقَ منزلتِهما وإعطائِهما سلطةً أكبر من قدراتِهما قد أدّى إلى مزيدِ تخريبٍ وهدمٍ لجدارِ التسليمِ الذي يَحُولُ بينهم وبين عقيدةٍ ليست إلا اسماً على الورق.
يقولُ العلماءُ أن التسليمَ هوَ: “بذلُ الرِّضا بالحكمِ، والامتثالُ لأمر الله الشرعي وحُكمهِ وقَدَرِه، وذلك باجتنابِ ما أمرَ سبحانه باجتنابِه؛ وفعلِ ما أوجبَ فعلَه؛ واعتقادِ ما أوجبَ الله اعتقادَه، ثمَّ الرِّضا بقضائِه وقَدَرِه، ثمَّ التخلصُ بعدَ كلِّ ذلك منْ كلِ شهوةٍ وشبهةٍ تُعارِضُ الشرعَ وإرادةٍ تعارضُ الإخلاصَ واعتراضٍ على قَدَرِ الله.
هذا هو التسليمُ، فما معنى التَّدَيُّن؟ التَّدَيُّنُ في جوهره معنى يتضمنُ الطاعةَ المطلقةَ والإيمانَ والتصديقَ المطلقَ لكلِّ ما يقولُه اللهُ ورسولُه.
والحقيقةُ أن الشريحةَ التي قصدتُها بكلامِي هذا ليسَ لديها مشكلة في حدودِ علمي مع ما أوردتُه من مفاهيمَ، وإنَّما تَظهرُ المشاكلُ كلُّها بعدَ أن نُكمِل كلامنا بأنَّ التسليمَ للهِ ورسولهِ ولشريعتِهِ إنما يكون على النهجِ الذي انتهجَهُ صحابةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما تَلاهُم من تابعينَ وعلماءَ مخلصينَ وما أجمعت عليه الأمةُ، عندئذٍ ترتفعُ راياتُ الشجبِ ويعودُ الواحدُ منهم أدراجَه وينقضُ ما آمنَ به سلفاً ويكتشفُ أن له عقلاً يفكرُ فيقولُ: “كيفَ تريدونَ أن أُلغيَ عقليِ؟ أنا لي عقلٌ كما كانَ للصحابةِ والعلماءِ عقلاً! لا يمكنني أن اضعَهُ في الثلاجةِ وأنطلقُ هكذا بلا تفكيرٍ ولا منطقٍ”.
حسناً، لن أُعدِّدَ الآياتِ التي عظَّم الله فيها العقلَ، ولن أذكرَ كم مرةً ذكرَ سبحانه “لعلكم تعقلون” و”أولى الألباب” و”أولى النهى”، بل أقولُ إنَّ من يردِّدُ مثل هذه العباراتِ قد نقضَ عقلَه بدايةً وقدحَ فيه من حيثُ لا يدري، فالإيمانُ بالله ورسوله وتصديقُه كان من طريقِ العقلِ أولاً وأخيراً، فإن عُدتَ للاعتراضِ أو لعدمِ التسليم بما ءامنتَ به سلفاً بعقلِكَ فأنتَ تُسيئُ لعقلكَ قبلَ أي شيءٍ، وأنَّ ما قد يُتوهَّمُ أنهُ معارضٌ للعقلِ من النصوصِ غيرُ صحيحٍ، فما هو من صريحِ العقل لا يتعارضُ مع ما هو من صريحِ النقل أبداً فإما أن الدليلَ العقليَ غيرُ قاطعٍ فيُقدَّمُ عليهِ الدليلُ النصيُّ القاطعُ أو أن الدليلَ النصيَّ ظنيٌّ لم يثبتْ فيُقدَّمُ الدليلُ العقليُّ، هذا مع الأخذِ في الاعتبارِ أنَّ مبدأَ التسليمِ لحكمِ اللهِ في العمومِ هوَ ابتلاءٌ لنفسِ المؤمنِ؛ اختبارٌ لانصياعِهِ وتسليمِهِ وقَبولِه ورضاه بحكمهِ سبحانَهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وليس خياراً يُتركُ حيناً ويُؤخذُ به حيناً.
وأمَّا الشِّقُّ الثاني وهوَ مسألةُ أنَّ لنَا عقولاً كما كان للصحابة عقولٌ، هذا صحيح؛ ولكنْ ليس لنا من التزكِيَةِ ما للصحابةِ، فَهُم الذينَ زكَّاهم الله في كتابه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وزكَّاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صحيحِ سنَّتهِ فَقَالَ: “النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ”، واختارهم سبحانه ليكونوا المُتلقِّي الأولَ للإسلامِ قرآناً وسنةً، الصحابةُ رضوان الله عليهم قد رُبُّوا إيمانياً تربيةً إلهيةً ونبويةً أهَّلَتهُم لبلوغِ هذه المكانةِ شرعاً بحيثُ تكونُ طريقتهم هي الصحيحةُ وفهمهم هو المرادُ وما بلغوا تلك المكانةَ إلَّا لأنهم بذلوا كمالَ التسليمِ والانقيادِ للَّهِ ولرسولهِ وبلغوا في ذلك الذروةَ فلم يذوبوا في الثقافةِ الغالبةِ آنذاك ولم يُغْرِهِمُ الفرقُ الحضاريُّ الشاسعُ الذي كان واقعاً ملموساً بينهم وبين أممٍ كالفرسِ والرومِ بل اعتزُّوا بدينهم وجعلوه نُصْبَ أعينهم، وليسَ أدلَّ على كمالِ التسليمِ هذا من موقفِ أبي بكر رضي الله عنه يوم وقعتْ حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ حينَ أَتى المشركون ليسوقوا له الخبرَ فما وجدوا في عينهِ اندهاشاً ولا في نبراتِ صوتِه تساؤلاً بل فقط عبارةً موجزةً تفيضُ بالصدقِ: “إنْ كانَ قالَهُ فقدْ صدقَ”.
وهذا هو منهجُ الصحابةِ الذي ساروا عليه، ويجب علينا أن نسلكَهُ من بعدهم اقتداءً بهم لأنهم الأحرصُ على تَطَلُّبِ مقصودِ اللهِ تعالى ومقصودِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدين، ولأنهمْ أهلُ اللغةِ نزلَ القرآنُ بلغتهم وعاصروا تَنَزُّلَهُ آيةً آيةً، وهم الأقدرُ على فهمِ مرادُ اللهِ تعالى ومرادِ رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الأوزاعي: “العلمُ ما جاءَ عن أصحابِ محمدٍ، وما لم يجئ عن واحدٍ منهم فليسَ بعلمٍ”.
لكنْ لا تزالُ راياتُ الشَّجْبِ ترتفعُ تارةً أخرى وهذه المرة قالوا: “القرآنُ كلامُ اللهِ وهوَ نصٌ مقدَّسٌ محفوظٌ، لكن كلُّ واحدٍ يفهمهُ بطريقتهِ وبما يتناسبُ مع طبيعةِ حياته ودرجةِ تديُّنِه، فالقرآنُ معجزٌ وهو يسعُ الجميعَ ويشملُ كلَّ الأفهامِ ويصلحُ أن يتماشى مع كلِّ أحدٍ بحسبِ طريقتِهِ في الحياةِ”.
وهذا كلامٌ به كثيرٌ من الزخرفةِ وكثيرٌ من السُّمِّ أيضاً فهو يصوِّرُ لمن يقرأُه أن القرآنَ نصٌ هلاميٌّ يَسْهُلُ تَطويعُهُ في كلِّ الاتجاهاتِ ليناسبَ الكلَّ باختلافِ الأفهامِ والتوجهاتِ، ومن يطلقُ مثل هذهِ الشبهةِ يكونُ على الأغلبِ تحتَ تأثيرِ النظرةِ الغربيةِ لكتبِ الأديانِ الأخرى التي كانت كتباً سماويةً ثم عَبَثَتْ بها أيدي البشرِ، لكن ربَّما غابَ عنهم أن في القرآنِ ما هوَ واضحٌ قاطعٌ لا يحتملُ التأويلَ ولا تعدُّدَ المعاني ومنهُ ما هو متشابهٌ، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗوَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
فالقرآنُ ليس مجردَ كلماتٍ مرصوصةٍ لا دلالةَ لها ولا بيانَ؛ بل هذا ينافي ما وصفَ الله سبحانه بهِ قرآنَه مِنَ الوضوحِ والإحكامِ والتبيينِ وكونِه فرقاناً وهدى، فلا بد منَ النظرِ في النصِّ لمعرفةِ مُحكمِهِ مِنْ متشابِهِهِ وتفسيرِ متشابِهِهِ طبقاً للقواعدِ التي وُضعتْ للتفسيرِ والتي يسيرُ عليها أهلُ العلمِ منذُ عصرِ الصحابةِ إلى يومنا هذا، ومَن يدَّعي أن هذا مخالفٌ لكونِ القرآنِ تكليفاً لكل فردٍ على حِدَا فلا يُشترطُ فيهِ الرجوعُ لأهلِ العلمِ، فهوَ كلامٌ إنما يدلُّ على عدمِ معرفتِه بالقواعدِ التي يسيرُ عليها أهل التخصُّصِ في تفسير القرآن، إذ أن المسلمَ غيرُ مطالبٍ بمعرفةِ كل دقائقِ التفسيرِ حتى يقيمَ دينَهُ و يؤدِّي تكاليفَهُ بل إنَّ مطالبةَ الجميعِ أنْ يكون عالماً هو تكليفٌ للناسِ بما لا يطيقون، فالذي قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قال أيضاً: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، فعِلْمُ التفسيرِ له مُتَخَصِّصُوه وشروطٌ ومؤهلاتٌ لمن أرادَ أن يُبْحِرَ فيه، لكنْ هناك من يعاندُ أيضاً وينافحُ عن حقِّهِ في رؤيةٍ خاصةٍ به تجاهَ القرآنِ، ولو أننا سلَّمنا لذلك لَلَزِمَنَا أيضاً أن نُسلِّمَ لأهلِ الأفكارِ المتطرفةِ والغلاةِ من سائر الفرقِ التي نشأتْ على مَرَّ العصورِ والفتراتِ إذ أن كلَّاً منهم أيضاً لهُ قراءتُه الخاصةُ وفهمهُ الخاصُّ للقرآنِ، عندئذٍ لا يكون للآياتِ الدَّالَّةِ على هيمنةِ الشريعةِ وحكمِ الله معنى؛ بل ولا للأدلةِ الشرعيةِ حينئذٍ ثباتٌ، فماذا بقي من الدين حينها؟ لكنَّ المعيار موجودٌ -والحمد لله- وهو ما يقاسُ عليه من يشطحُ بعيداً ممن يلتزمُ سبيلَ المؤمنين، وإني أتساءلُ لماذا يلجأ هذا الفريقُ لحجةٍ كإعادةِ القراءةِ للنصِّ أو التأويلِ الفاسدِ المخلِّ بما يناسبُ أهوائهمْ، لماذا لا يتركُوه لفظاً ومعنى إذا كان لا يناسبُ ما قد نوُوا بَذْرَهُ من بذورِ العلمانيةِ والتنويرِ في المجتمع الإسلامي؟ أمْ أنَّ تمسكَ الناسِ بدينهمْ وشريعتهمْ قد أفسدَ خُطَطَهم؟؟ فعزمُوا على جعلِ الدينِ صندوقاً مزخرفاً يضعوا فيه ما يناسبهم؟؟
ولا نكادُ ننتهي مِن هذهِ الدعوةِ حتى يَخرجَ علينا سريعاً من يكيلُ الاتهامَ: “أنتم قومٌ مزدوجُو المعاييرِ تطالبونَ الناسَ بالتسليمِ والانقيادِ لتضيِّقُوا عليهم حياتهم في حين أن بين العلماءِ من الخلافِ ما لا يخفَى على عاقلٍ، فكم اختلف أصحابُ المذاهبِ وأهل العلمِ في نفسِ النصوصِ التي تطالبون الناسَ بالتسليمِ لها”
وعلى من يقتنعُ بهذا الكلامِ أن يتأخرَ خطوةَ واحدةً إلى الوراءِ قبلَ أن يقولَ آمين، ليرى حدودَ هذا الخلافِ الذي وقعَ بين العلماءِ، فالشريعةُ تنقسم إلى ثوابتَ ومتغيراتٍ، الثوابتُ واضحةٌ من اسمها؛ ثوابتُ لا تتغيرُ ولا تتبدلُ منذُ جاءَ الإسلامُ وحتى قيامِ الساعةِ وهي تشتملُ على جملةٍ واسعةٍ من الأحكام تسمى “المعلومَ من الدين بالضرورةِ” ولا يلزمُ المسلمُ حيالَها إلا التسليمَ وفقط، ثمَّ بعد ذلكَ هناكَ طائفةٌ من مسائِلِ الإجماعِ؛ من الذي أجمعَ عليها؟ طبعاً بشرٌ مثلنَا ولكنَّهم أهلُ علمٍ جمعُوا شروطَ الاجتهادِ وبنُوا أحكامهم على ما يتفقُ مع القرآنِ والسنةِ وأقوالِ الصحابةِ ولا يصحُّ الخروجُ عن حكمهم، لأنَّ إجماع الأمةِ مزكَّى من النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو القائلُ: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، ومَنْ تفرَّدَ عنهم يشمَلُهُ الوعيدُ في الآية: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
ثمَّ يأتي بعدَ مسائلِ الإجماعِ مسائلُ الخلافِ وهي نوعان: خلافٌ غيرُ سائغٍ؛ وهو كلُّ ما اشتملَ على رأي يخالفُ المشهورَ المستقرَّ وينفردُ عنهُ أو ما فيهِ مخالفةٌ بيِّنةٌ لنصِ المسألةِ، وهذا النوعُ يحرمُ على المسلمِ الأخذُ به لأنه يدخلُ في بابِ زلَّةِ العالمِ ويكونُ الخللُ في تلك المسائلِ واضحاً لمن يتحرَّى مرادَ اللهِ سبحانه ومرادَ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم فيجتنبُها إلى القولِ المشهورِ المستقرِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ مسائلُ الخلافِ السائغِ وهيَ تعني الاجتهادَ فيما لم يرِدْ فيه نصٌ أو إجماعٌ وهذا أيضاً له ضوابطُ وليسَ عشوائياً، فالضابطُ الأولُ سلوكُ الطريقةِ الشرعيةِ المعتبرةِ في الترجيحِ بين الأقوالِ، والثاني أن يكونَ غايةُ المرءِ مِن تبنِّي هذا القولِ دونَ غيرِه هوَ تَطَلُّبُ مرادِ الله سبحانه لا هوى النفسِ، ويجبُ الأخذُ في الاعتبارِ أيضاً أن في مسائلِ الخلافِ هذهِ لا ينبغي أن يقالَ فيها بقولٍ لم يقله أهلُ العلم من قبلُ وما سبقَ تقريرُه منهم؛ يعني إذا كانَ الخلافُ بين السلفِ من الصحابةِ أو من تلاهُم من العلماءِ والأئمةِ -في مسألةٍ ما- افترق على قولينِ فلا يجوزُ أن يأتيَ أحدٌ بقولٍ ثالثٍ، لأن تحديدَ الخلافِ على قولين يعنى أن ما عداهما من الأقوالِ باطلٌ، ولا يتعارض الخلافِ في حالتِه هذهِ مع مبدأ التسليمِ لأنَّ التسليمَ في هذهِ الحالةِ هوَ ما يُجَنِّبُ طالبَ الفتوى أنْ يختارَ بهواهُ أو يتطلَّبُ رضا نفسهِ، بل كلُّ ما يقصدُه هو إصابةُ الحقِّ وتحقيقُ مرادِ الله سبحانه ومرادِ رسوله صلى الله عليه وسلم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: “وَالْعَالِمُ إذَا أَفْتَى الْمُسْتَفْتِيَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ الْمُطِيعُ لِهَؤُلَاءِ عَاصِيًا وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فَطَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ”.
وآخرُ ما أُوردُهُ من إشكالاتِ تلكَ الدَّعوى العريضةِ الواسعةِ التي يستظلُّ بها كلُّ من أوحَتَ إليهِ نفسُه بقولٍ جديدٍ أو رأيٍ محدَثٍ في دينِ اللهِ ألا وهيَ: “فقهُ المقاصدِ”.
يحتج المحتجون في أثناء رحلتهم نحو تمييع الدين وأحكامه ” بالمقاصد” تلك الكلمة التي لا نجد لها في كتبهم إلا واسع المعاني وفضفاض الدلالات وهذا مقصود أيضًا فهي الأداة التي ستستعمل لاحقًا من أجل انفراط عقد الأحكام التفصيلية للشريعة ، وعلى العكس تمامًا فإن نجد الفقهاء اجتهدوا غاية الاجتهاد في بيان مفهومها و حدودها وأقسامها وصنوفها وبيان خصائصها وتاريخها ومراحلها وأهميتها وبيان أدلة ذلك من الشرع .
وهذا هو الحال أيضا في بيان ما تشتمله المقاصد ؛ فمقاصد الشريعة عند أهل العلم تتعلق بدنيا الناس وآخرتهم بل إن أمور الآخرة هي المقدمة لأن مقاصد الشريعة انما تُعنى بالضرورات الخمس التي على رأسها الدين ، قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ثم تأتي من بعدها المصالح الدنيوية { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ }و هذا ما لا نجده بالطبع لدى الفريق الآخر فإن المقاصد لا تعني لديهم أكثر من الأمور الدنيوية المادية أو الأخلاقية الاجتماعية ، نقطة أخرى أيضًا وهي أن استخلاص هذه المقاصد وتحديدها إنما ينطلق ابتداءً من الشريعة ذاتها بكلياتها وجزئياتها لا أن نأتي بمقاصد من عند أدمغتنا ثم نجعل منها سيفًا مشهراً على أحكام الدين ، ثم عند أهل العلم نجدهم قد أوسعوا هذا المجال بحثًا لا يمكن أن تصل في نهايته إلا إلى نتيجة واحدة وهي لزوم التوقف عند حدود الشريعة وتطبيق ما جاءت به من حدود وأحكام والعكس أيضًا نجده عند غاية فريق الخطاب الحداثي من بحثهم في قضية المقاصد .
نقطة جوهرية أخرى تتعلق بكيفية رؤية فريق ( الحداثيين ) هذا لمعنى المقاصد ، إذ هي تعني لديهم الغاية التي تتحقق من خلال وسائل هي ( التشريعات والاحكام ) ، وبما أن المقاصد نفسها لديهم هي مادية دنيوية ( مثل تفسير الحكمة من الصيام انها لتحقيق الحمية الصحية ) فإذن يمكننا استبدال الحكم الشرعي بأي وسيلة أخرى تحقق هذه الغاية ، وقد بلغ بهم الشطط في ذلك حتى طال أركان الإسلام الخمس ، فقد كانت هذه الأركان ( بحسب رؤيتهم ) وسيلة للارتقاء بالروح والسلوك الإنساني مخصصة بذلك الزمن الذى عاصر فرضها أما الآن فيمكننا ابتكار غيرها من الوسائل التي تناسب العصر ، فقد افترضوا في دعواهم هذه أنهم أحاطوا بالمقصود من وراء كل الأحكام والشعائر وهذا من العجب العجاب إذ أن الانسان مهما بلغ من علم ومهما بذل من جهد فستخفى عليه أيضًا الحكمة من وراء تفاصيل الكثير من الشعائر والأحكام ، فلماذا كان لصلاة الظهر مثلاً أربع ركعات وللمغرب ثلاث ، ولماذا تحديد عدد الحصيات في رمي الجمار بعدد محدد والكثير من تفاصيل الأحكام التي تخفى علتها على الانسان ، كذلك ادعائهم بأن العبادات والفرائض إنما هي وسائل لترقية الروح هو ادعاء خاطئ إذ أن هذه العبادات مطلوبة لذاتها ، مطلوب تأديتها على الوجه الذي أراده الله وقرره .
ولعل المثال الأشهر الذي يستدعى في هذا المقام هو اجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عطّل حد السرقة في عام المجاعة ، مع أن أدنى بحث في المسألة يكشف باليقين الدامغ أن سيدنا عمر قد سار على المنهج المحدد في تطبيق الاحكام ولم يحد عنه قيد أنملة ، لأن لتطبيق حد السرقة شروطًا أيضًا وقوانين ، متى ما تحققت تلك الشروط يطبق الحد وإلا فلا، وواحد من هذه الشروط ؛ ” ألا يكون آخذه محتاج إليه لسد رمقه ” وهو الشرط الذي لم يتوفر في عام المجاعة فهو رضي الله عنه لم يلغ الحد لمصلحة ظهرت له وإنما لأن هناك شبهة تمنع من إقامة الحد ، وهناك فريقًا من الحداثيين يعتمدون خطابًا أكثر نعومة حين يقولون أن شروط تنفيذ الحدود في الإسلام صعبة وتجعل من تطبيق الحد أمرًا نادر الحدوث أو صعب _ وهذا كلام في ظاهره جميل إذ أن الدندنة حول وصم الإسلام بالعنف والتعطش للدماء قد خفت حدتها _ وبعد ؟ ، إذاً لا داعي للتمسك بهذه الحدود من الأصل فهي في الحالين لا تطبق وهنا يأتي الخلط والفرق واضح لمن ابتغى الحق فالإيمان بشريعة الله وما افترضه من حدود واحكام لا يتوقف على شروط هذه الأحكام وتلك الحدود كما لا يتوقف أيضًا على كون الامة في مرحلة استضعاف أو في مرحلة تمكين ، الإيمان بها أي الشريعة إيمان قائم بذاته ومبني على ما سبق من تسليم المسلم لله ولرسوله ..
وبعد ..
أيها اللاهثون خلف مظلات أخرى تظلكم كالإنسانية والحداثة والتنوير و و و … لن تشعروا أبدًا بالدفئ ، ستتقطع بكم السبل ، سيأخذكم التيه إلى دروب اكثر ظلامًا وحيرة ، ألم تروا أنكم في سبيل الانتصار للهوى هدمتم دينكم خطوة خطوة حتى وصلتم الى حقيقة الإيمان ذاتها هكذا بلا تروٍ ، ألم تحدثكم أنفسكم يوما بالرجوع ؟ ، ألم تقولوا لأنفسكم” لعلي كنت مخطئًا ” لعلي أتعلم كيف وصل إلينا الدين وماذا فعل العلماء من أجل حفظ سنة رسول الله ، وكيف يتم الإجماع ، وكيف يفسر المفسرون القران ، ولماذا يصر المدافعين عن الشريعة أنها الأصلح مهما تغير المكان والزمان ، وأن ما يستجد يُدرس ويقول فيه العلماء كلمتهم ، أي دين سيبقى إذا كان لكل منا قرآنه الخاص وسنته التي يفسرها بما يتراءى له ؟ ، لماذا قلبتم الموازين وجعلتم المركزية للإنسان بدلا من الخالق وأدخلتم أنفسكم في التيه بحثا عن منهج يخبركم في الصباح عندما تفتحون أعينكم ماذا عليكم أن تفعلوا ؟ بعد أن كان كل شئ أمامكم واضح ، دخلتم جحر الضب ونظرتم للإسلام بنظرة الغرب لأديانهم الباطلة بشهادة القرآن ، جعلتم منه لوحة جميلة ذات إطار مزخرف عُلقت على الجدار ثم هيا بنا ننطلق في حياتنا شرقًا وغربًا بلا مرجعية ، نقرأ القرآن لأنه يشعرنا بالطمأنينة ثم ننحيه جانبًا ونواصل البحث عن ذواتنا في أروقة الفلسفات الغربية ونظريات علم النفس … لا يمكن للإسلام أبدًا أن يختزل في كرسي اعتراف نجلس عليه في آخر يومنا لنتطهر من ذنوبنا ثم ها قد أتممنا كل شيء؛ لأنه المنهج لأنه دين الله الذي اختاره لعباده ، إسالوا من دخل الإسلام بعد أن مضت به السنين بلا دين ليخبركم عن النعمة التي يستشعرها حينما أجيبت أسئلته أخيرًا وعرف لماذا يعيش وإلى أين سيذهب بعد موته ، السلام والرحمة والعدل معان سامية ث لكن بلا مرجعية ستبقى معلقة هكذا في الهواء وعلى الأرض سيكون لكل واحد منها معنى خاص بمن يرددها يطبقها كيف يشاء ، ارجع لعقلك يا صاحب العقل ، وسلم لما ءامنت به {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
“اللهم إنا نسألك يقينًا راسخًا وإيمانًا كالجبال الراسيات لا يتزعزع ولا يتبدل”
المراجع :
- الشيخ عبد الله العجيري . ينبوع الغواية الفكرية
- الشيخ محمد صالح المنجد . بدعة إعادة فهم النص
- دكتور أحمد إدريس الطعان . العلمانيون والقرآن الكريم ( تاريخية النص )
- محاضرة هكذا تألق جيل الصحابة لفضيلة الشيخ عبد الله العجيري
بقلم : الزهراء شوقي