خلقَ الله الإنسانَ على نحوٍ يختلفُ عن باقي الكائنات، فحينَ جعل تلكَ الكائنات مسيَّرةً مفتقرةً للإرادة ؛ فإنه أودعَ في الإنسان قدرةً على الاختيارِ والإعمار.
وطوَّع له الأَرْضَ وما عليها مُسخَّرةً يستفيدُ منها كيف يشاء.
بيدَ أنّ هذا التمييز الإلهيَّ للإنسان لم يكن عبثًا ؛ بل لحكمةٍ اقتضاها سُبحانه ؛ وهيَ أن الإنسان خليفةُ الله في الأَرْضِ ، حملَ أمانةَ التكليف التي أشفقت من حملِها السماواتُ والأرضُ والجِبال!
وحتى يؤدِّيَ الإنسانُ الأمانةَ على الوجه الأكمل ، كان لا بد أن يضعَ الله في طريقهِ نورًا يهتدي به ويلتمِسُ مراد اللهُ فِيهِ.
فكان ذلك النورُ هوَ الدينُ المؤيدُ من السماء.
فإن أردنا تعريفَ مفهومِ الدّين:
فإنّ كلمة دين تُشيرُ إلى علاقةٍ بين طرفين يُعظِّم أحدهما الآخر ويخضعُ له. فوصفُ الأول خُضوعٌ وانقياد، ووصفُ الثاني أمرٌ ومحاسبةٌ وسُلطان، والذي يربط بين الطّرفين هو الدّستور المُنظِّم لتلك العلاقة.
وهو في الاصطلاح:
علاقةٌ بين معبودٍ وعبدٍ ترتكزُ على مقدّسات، ونظامٌ يسيّرُ الأمرَ بينهُما.
الحكمة من تشريع الأديان:
يمكننا أن نُجمل الحكمة من تشريع الدين للبشرية في أمرين:
١- حكمة الله تعالىٰ:
فالله سبحانه وتعالى مُتّصف بكمال الحكمة، لا تصدرُ أفعالُه وتشريعاتُه إلا عن علمٍ و إحاطةٍ بفائدتها وعاقبتها.
فكما بيّنَّا سابقًا أن تمييز الله للإنسان بالعقل والإرادة لم يكُن عبثًا، بل الكون كلّه لم يُخلق بلا حكمة؛ فتشريعُ الله للدّين وتسخير الله الكونَ للإنسان يتضافرانِ لتمكينه من أداء المهمّة المُناطة به.
٢- رحمة الله تعالىٰ بعباده:
كما اتّـصف الله بكمالِ الحكمة فإنَّه متّـصفٌ بكمال الرّحمة. فإنّ رحمته تمنع أن يخلق الإنسان في الأرض ثمّ يدعه حائرًا.
فجاء تشريع الله للدّين ليعرّفَ عباده به، ويدلّهم على الطّريق الصّحيح الذي يوصلهم إليه. ويبيّن لهم ما سيلقونه بعد مماتهم ؛ فلا يتركهم سُدىً تجتاحهم الضّلالات والانحرافات.
الغاية من وجود الأديان:
حينما بيّن الله للناس الحق بإرسال الرّسل وإنزالِ الشرائع؛ قامت الحجّـةُ عليهم وانــتفىٰ عنهم عذرُ الجهلِ بالطّريق الصّحيح أو عذرُ تركِ الله لهم بلا هادٍ ولا دستور. فانقطعت حُجَّتُهم و اندفعت شُبهَتهم ، وَ وُضِعوا على مُـفتـرق طريقٍ نهايته إمّا جنّة أو نار.
أسباب حاجة الناس إلى الدّين:
١- وجود شريعة ربّـانـيّـة محكمة لتسيير شؤون حياتهم.
فكون هذه الشريعة مُنـزَّلة من خالقٍ أعلم بحالِ الناس من أنفسهم؛ حتمًا ستكون شريعةً عادلةً تناسب كل من يعتنقها، موافقةً لمتطلبات رقــيّهم في كافة المجالات دقيقها وجليلِها.
فإذا كان البعض يُسند مهمّـة الـتّـشريع إلى البشر ويرى أحقّــيّـــتهم بذلك بسبب علمهم بأحوال البشر و ما يصلحهم فإنّ الأولى أن يتطلّب العاقل الـتّشريع من خالق البشر و مالكهم لأنّه الأعلم مطلقًا ، بالإضافة إلى تنزّهه عن ميولِ النّاسِ و رغباتهم .
٢- الإجابة عن الأسئلة الوجوديّـة.
فالدّين يقدّم الطّمأنينة لأتباعه حين يجيب عن أسئلتهم الوجوديّة.
عن أصلهم فمن أين أتوا؟ و هُويّــتهم فمن يكونون؟ وما معنى وجودهم والغرض منه؟
وأخلاقهم فكيف يجب أن يعيشوا؟ ومصيرهم فإلى أين هم ذاهبون؟
٣- إشباع الجانب الرّوحي.
فالعواطف النبيلة من الحبّ والشّكر والأمل والحياء، حين لا تجد مبتغاها في الأشياء والنّـاس؛ فإنّها تجد في الدّين المجال الأوسع والمنبع الأغنىٰ.
٤- الاطمئنان بوجود عدالة ربانيّـة.
ذلك أن الإنسان يعلم في نفسه وواقعه، أن الحياة الدُّنيا فيها الظّالم والمظلوم، والصّالح والفاسد، وقد تكون الغلبة للظّـالمين الفاسدين على أصحاب الحـقّ؛ فيأتي الدّين – مؤكِّـدًا ما توصّل إليه العقل إجمالاً – واعدًا بأخذ حقِّ المظلوم والاقتصاص من الظّالم بالعدل والإنصاف.
٥- استحضار الجزاء على الأعمال هو وقودها.
لانه بذلك يجعل المحاسِب الأوّل للإنسان هو نفسه! حين يعرف أنه سيُثاب على أعماله الصّالحة، ويعاقب على سيّـئاته. فيجتهد تبعًا لذلك في السّعي إلى تقويم نفسه، والعمل لما ينجيه من العذاب.
وهكذا نجد أن حاجة النّـاس إلى الدّين كحاجتهم إلى الطّـعام والشّراب بل أشدّ؛ إذ به يَصِلون لرضوان الله وتحقيق مراده من خَلقهم و طمأنينتهم واستقرارهم المعرفي و الرّوحي و السّلوكي.
الكاتب: فاطمة عماد - أسماء القاضي
التدقيق اللغوي: مريم الهبل